بروفيسور/ مكي مدني الشبليحساب المثلثات (Trigonometry) في حرب السوداندخلت حرب السودان عامها الثالث، تاركةً ملايين النازحين والبلاد على حافة الانهيار. ومع ذلك، لا تزال الدبلوماسية الدولية مشلولة. ويمكن فهم الصراع بصورة أوضح من خلال ثلاثة “مثلثات” متشابكة من حيث القوة والنفوذ: المثلث العربي (مصر والسعودية والإمارات)، والمثلث الغربي (لندن وواشنطن وجنيف)، والمثلث السوداني (القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والمدنيون). وهذه المثلثات مجتمعة تشكل مسار الحرب واستعصاء السلام في السودان في آن واحد.ومع تجمع قادة العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك بين 23 و29 سبتمبر 2025، يطرح السؤال نفسه: هل يستطيع الغرب أن ينسق خطواته بفاعلية لتجاوز عراقيل المثلث العربي وتمكين أصوات المدنيين السودانيين قبل أن تنقسم البلاد إلى أشلاء؟المثلث العربي: المصالح بالوكالة و”الفيتو العكسي”لعبت الدول العربية الثلاث دوراً حاسماً في إطالة أمد الحرب. إذ تتقاسم مصر والسعودية والإمارات المخاوف بشأن أمن البحر الأحمر، وعودة الإسلاميين، وتدفقات الهجرة، لكنها تختلف جذرياً في من تدعم. فالقاهرة تساند القوات المسلحة السودانية، والرياض تحاول الحفاظ على توازن صعب، فيما تُتَهَم أبوظبي بدعم قوات الدعم السريع.وقد أفرز هذا التباين ما أسميه “الفيتو العكسي” Reverse Veto حيث أن أي مؤتمر تستضيفه عاصمة غربية كبرى (لندن أو واشنطن أو جنيف) يُفشل بفعل اصطفاف دولة عربية أو أكثر خلف الطرف الذي تفضله. وهذا ما أحبط زخم مؤتمر لندن حول السودان في أبريل، وأعاق أيضاً محاولات الولايات المتحدة لعقد اجتماع وزاري في يوليو. والنتيجة شلل كامل، حيث بات المثلث العربي أقرب إلى المعرقل منه إلى الضامن.المثلث الغربي: القدرة بلا وحدةفي المقابل، يمتلك المثلث الغربي (لندن وواشنطن وجنيف) قدرة مؤسسية لا تُضاهَى على حشد الموارد، وتنظيم المنتديات متعددة الأطراف، وصياغة شروط الوساطة الدولية. لكن الدبلوماسية الغربية افتقرت للوحدة وللإلحاح. فبريطانيا، رغم علاقاتها التاريخية مع السودان، بدت مترددة؛ والولايات المتحدة انخرطت بشكل متقطع، مقيدة بالخلافات الإقليمية؛ أما المؤسسات القائمة في جنيف، بما في ذلك الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية، فقد فشلت في كسر “الفيتو العربي”. وبدون تنسيق منسجم، سمحت العواصم الغربية للمثلث العربي بأن يهيمن على السردية الدبلوماسية والميدانية معاً.لكن الأمل معقود على أن توفر الجمعية العامة المقبلة فرصة أمام المثلث الغربي للتحرك بانسجام. فإذا توافق على مبادئ مشتركة وأعطى الأولوية للأجندة المدنية، فسيكون بمقدوره إعادة صياغة الدبلوماسية لتدور حول احتياجات السودان لا صراعات الإقليم.المثلث السوداني: حيث يكمن الصراع الحقيقيفي قلب الحرب يقبع المثلث السوداني: الجيش، الدعم السريع، والمدنيون. فالجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان كرّس حكمه العسكري في بورتسودان، مسنوداً بشبكات الإسلاميين، مُتَّهماً باستخدام الأسلحة الكيميائية. بينما رسّخ الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) نفوذه في دارفور، مُتَّهماً بارتكاب فظائع واسعة النطاق. وكلا الطرفين أعاد التسليح والتجنيد بكثافة، استعداداً لحرب طويلة الأمد.لكن المدنيين ما زالوا يشكلون الأمل الأكبر للسلام. فقد وفرت شبكات مثل غرف الطوارئ، التي يقودها شباب ونساء ثورة ديسمبر، الإغاثة الإنسانية الأساسية. وتسعى التحالفات السياسية، مثل صمود (التحالف المدني الديمقراطي للقوى الثورية)، إلى توحيد الأصوات الديمقراطية المتفرقة في جبهة مدنية عريضة. كما تواصل مراكز البحوث والفكر السودانية إنتاج الرؤى لأجل الحوكمة وإعادة البناء رغم الانهيار.غير أن هؤلاء المدنيين يواجهون ثلاث عقبات كبرى تشمل: ضعف الوصول إلى المفاوضات الرسمية، ومحاولات منهجية من طرفي الحرب لتقسيمهم وتشويههم، وميول المجتمع الدولي للعودة إلى “رجال السلاح” بحثاً عن تسويات سريعة لتقاسم السلطة.كسر الجمود في نيويوركتمثل الجمعية العامة في نيويورك اختباراً حاسماً. فإذا عاملت العواصم الغربية السودان كأزمة ثانوية، فسوف يستمر النزيف، متفاقماً في كارثة إنسانية وقد يفضي إلى تقسيم البلاد. أما إذا مارس المثلث الغربي دور القيادة الإيجابية، فثمة ثلاث مسارات ممكنة:تجاوز الفيتو العكسي العربي عبر ممارسة ضغط منسق على مصر والسعودية والإمارات لدعم مفاوضات وقف إطلاق النار بدلاً من عرقلتها.إعطاء الأولوية لإشراك المدنيين، ليس كهامش جانبي بل كجوهر لأي مسار دبلوماسي.تصميم عملية سلام تبدأ بوقف إنساني لإطلاق النار، تتوسع من خلاله المساحة المدنية، وصولاً إلى تسوية سياسية قائمة على العدالة والمواطنة المتساوية.وهذه ليست شعارات نظرية ولا أمنيات اشتهائية، بل دروس مستخلصة من ثورة ديسمبر السودانية التي أطاحت بعمر البشير دون وساطة أجنبية. وهاهم شبابها ونساؤها لا لا يترددون في إعلاء أصوات المجتمع المدني، ولا يزالون يغامرون بحياتهم لتقديم العون، وتنظيم المجتمعات، وصياغة حلم الدولة المدنية الديمقراطية.الخاتمة: ثلاث مثلثات، والخيار واحدنخلُص إلى أن تفاعل المثلثات العربية والغربية والسودانية سوف يحدد ما إذا كان السودان سينزلق نحو تفكك دائم، أم سيشق طريقاً نحو السلام. وحتى الآن، فإن “الفيتو العكسي” للمثلث العربي هو الذي يفرض قواعد اللعبة، فيما يبقى المثلث السوداني محاصراً بين جيشين مفترسين. ويبدو أن المثلث الغربي متردداً في استخدام النفوذ الكافي لتغيير هذا التوازن عبر تمكين المدنيين ومنع اندلاع حرب عَقدْيَّة جديدة على البحر الأحمر والساحل الإفريقي.وعليه فإن الخيار واضح في نيويورك: إما أن تتحول الجمعية العامة إلى فرصة ضائعة أخرى، أو أن تصبح اللحظة التي تعترف فيها الدبلوماسية الدولية أخيراً بأن حرب السودان لا يمكن أن تنتهي من دون وضع المدنيين السودانيين في قلب الحل. المدير التنفيذي، مركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post ثَلاثُ مُثلَّثاتٍ فِي حَرْبِ السُوْدَانِ: هَل تَسْتَطِيعُ نِيُويورْك أنْ تَفْتَحَ طَرِيقِ السَلَامِ؟ appeared first on صحيفة مداميك.