هذه ليست حرب كرامة.. هذه حرب لتدمير ما تبقى من الوطن!

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةمنذ اندلاع الحرب العبثية في السودان في أبريل 2023، اختلطت الأصوات، وتاهت الحقائق بين دعاة الحرب ومناهضيها. هذه الحرب ليست معركة من أجل الكرامة أو حماية الوطن كما يحاول مروّجوها تصويرها، بل هي حرب سلطة بين جنرالين؛ البرهان وحميدتي، كلاهما يقاتل من أجل كرسي الحكم، لا من أجل السودان. وللأسف، ارتفع صوت التخوين والاتهامات بالعمالة في وجه كل من تجرأ على الجهر بموقف رافض لإراقة الدماء.لكن السؤال الجوهري يظل قائماً: أما آن للذين يرفضون هذه الحرب أن يقفوا ويجهروا برؤيتهم بلا خوف أو وجل؟يحاول البعض أن يروّج للحرب على أنها “حرب كرامة” أو “معركة وجود”. والحقيقة المؤلمة أنها ليست سوى حرب كراسي بين جنرالين. لقد أصبح من المؤسف أن يُرمى كل من يرفض الحرب بالعمالة والخيانة، بينما الحقيقة الساطعة أن الاستعانة بالأجنبي واستجلاب السلاح من الخارج هو عين العمالة والخيانة الوطنية.إن كانت قوات الدعم السريع – على ما لها من انتقادات – تعمل وفق قانون ودستور ولائحة داخلية، فإن الأمر مختلف مع الميليشيات المرتبطة بالحركة الإسلامية. هذه المجموعات نشأت في بيئة يغيب عنها أي إطار قانوني أو مؤسسي، وتعتمد على الولاء الأيديولوجي والمصالح الضيقة، لا على قواعد حكم رشيد أو ضوابط مؤسسية.الفريق البرهان لم يكتفِ بإعادة تدوير هذه الميليشيات فحسب، بل تجاوز سلفه البشير بشراء ولاء الحركات المسلحة عبر توزيع مقدرات الدولة: مالية السودان لإحداها، وموارد الذهب والمعادن للأخرى. وإلى جانب ذلك، أفرزت الحرب ميليشيات جديدة أكثر خطورة، تقوم بأفعال وحشية من قطع للرؤوس وبقر للبطون تحت شعارات دينية. هذه الظواهر لا تعبّر عن إيمان أو عقيدة، بل عن انهيار كامل للقيم الوطنية والإنسانية و الدينية.هذه ليست حرب كرامة، بل حرب لتدمير ما تبقى من الوطن. فمن الذي يبيع ثروات السودان في أسواق الإقليم والعالم ليشتري بندقية؟ ومن الذي يفتح البلاد لكل من هبّ ودبّ ليقاتل بالوكالة؟الخائن ليس من يرفض الحرب، بل من يشعلها ويطيل أمدها.السيد يعقوب الحلو، أحد أبرز مسؤولي الأمم المتحدة الذين خدموا في بؤر النزاع حول العالم لأكثر من ثلاثة عقود، يقول بوضوح:“لم أرَ في حياتي صراعاً يشبه ما يحدث في السودان. لم أرَ شيئاً بهذا الحجم من التدمير البشري والمادي، في بلد كان يعيش لحظة أمل حقيقية بعد ثورة 2019.”الأرقام تفضح حجم الكارثة* أكثر من نصف مليون قتيل خلال 877 يوماً.* آلاف سقطوا بالقصف الجوي والمدفعي، والرصاص، والذبح، والتعذيب.* آلاف آخرون ماتوا بسبب الأمراض والأوبئة وسوء التغذية وانعدام الدواء.* 14 مليون نازح، بينهم مليونا لاجئ عبروا الحدود.* 17 مليون طفل خارج المدرسة: جيل يُذبح مرتين؛ بالرصاص وبالجهل.* صحياً ونفسياً: تفشّى الانتحار ومتلازمة القلب المكسور والاضطرابات العقلية.بلد غني بالموارد تُنهب ثرواته بواسطة قوى إقليمية ودولية جُلبت إلى ساحة الحرب مقابل السلاح، بينما يُجبر شعبه على الفرار حفاة إلى العراء.من هو العميل؟ ومن هو الخائن؟أليس من العبث أن يُدمغ من يرفض هذه الحرب بالعمالة والخيانة، بينما يستعين أطرافها بالأجنبي والسلاح الخارجي؟الخائن الحقيقي هو من يشعل الحرب ويطيل أمدها، لا من يرفضها أو يدعو إلى السلام.لا يمكن إعفاء العسكريين من مسؤوليتهم المباشرة في الأزمة، لكن العبء الأكبر يقع على عاتق القوى السياسية التي ما زالت عاجزة عن توحيد رؤيتها وصفوفها حتى الآن، مفضلة انتظار الحلول من الخارج. ومن يركن إلى الخارج فلن يأتيه سوى حلول مبتورة تخدم مصالح الآخرين لا مصالح السودان.المسؤولية التاريخية تفرض اليوم على القوى المدنية أن تتجاوز خلافاتها، وأن تبتكر حلاً سودانياً خالصاً يوقف نزيف الدم وينقذ الوطن.هذه الحرب هي مواجهة بين جيش أنهكته الحروب الداخلية وتسيطر عليه عقلية عقائدية، وبين ميليشيا “الدعم السريع” التي وُلدت لتكون ذراعاً للجيش، فتحولت مع الزمن إلى غول يحاول الآن ابتلاع سيده. أبناء الهامش الذين جُندوا في هذه القوات تعلموا فنون الحرب تحت أنظار الجيش ذاته، والنتيجة أننا اليوم أمام صراع دموي لا منتصر فيه.إن واجب الوطنيين اليوم أن يرفعوا صوتهم بلا وجل أو خوف، وأن يقولوا كلمة حق:لا للحرب.لا للتخوين.نعم لوحدة الصف المدني.نعم لوقف نزيف الدم فوراً.الأمل باقٍ رغم كل هذا الخراب، يبقى الأمل. الشعب السوداني نفسه هو من يدير أكبر عملية إغاثة إنسانية اليوم بدافع الكرم المتجذر في ثقافته، لا بفضل المنظمات أو الأمم المتحدة. هذه المحنة، مهما طال أمدها، ستنتهي. والحل لن يأتي بالسلاح بل بالجلوس إلى طاولة الحوار.الإنسان السوداني البسيط – كما يقول السيد يعقوب الحلو – هو مصدر الإلهام: صبور، مضياف، صلب، يقاوم الظلم ويعرف أن المعاناة لا تدوم.و الناس اروع ما فيهم بساطتهم.لكن معدنهم اغلي من الذهبهذه الحرب ليست حرب كرامة، بل حرب كراسي تُدار بأجندات خارجية ودماء الداخل. وما لم يجتمع السودانيون على كلمة سواء، بعيداً عن جنرالات الحرب وعن الوصاية الأجنبية، فلن يتوقف هذا النزيف.إننا على يقين أن السودان سينهض بأبنائه الوطنيين الذين يرفضون الحرب، ويقاومون ثقافة التخوين، ويدركون أن الوطنية ليست في حمل السلاح، بل في بناء وطن يسع الجميع.The post هذه ليست حرب كرامة.. هذه حرب لتدمير ما تبقى من الوطن! appeared first on صحيفة مداميك.