خالد كوديفي لحظات التحول التاريخي العاصفة في السودان خاصة بعد ظهور ميثاق ودستور تحالف تاسيس، تتكثف المبادرات والبرامج التي ترفع شعار “المجتمع المدني المناهض للحرب” بوصفه وسيطًا محايدًا أو جسراً بين الأطراف المتنازعة. غير أن هذا الحياد المزعوم غالبًا ما يخفي انحيازاً بنيوياً لصالح استمرار البنية الاجتماعية والسياسية القديمة، بما فيها من تراتبية عنصرية، تمييزية، ومظالم تاريخية. في السودان، برزت في السنوات الأخيرة مبادرات تقودها مجموعات أو منظمات لا يضيرهم الحفاظ على الامتيازات الموروثة، في حين يزعمون السعي إلى “السلام” أو “الوحدة الوطنية”. لكنهم في الحقيقة يسعون إلى إفراغ مطالب التأسيس من محتواه: العلمانية، المواطنة المتساوية، العدالة التاريخية، والحق في تقرير المصير.معنى أن يفاوض الناس حول حقوقهم الأساسية:إن التفاوض على الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية مع من ينكرها هو فعلٌ يتناقض مع جوهر الحقوق نفسها. الحقوق غير قابلة للمقايضة، لأنها ليست “منحة” ولا امتيازًا مشروطًا بالرضى السياسي من أيا كان؛ بل هي، كما يؤكد إيمانويل كانط، واجبات أخلاقية مطلقة تقوم على مبدأ “الكرامة الإنسانية التي لا تُقدّر بثمن”. حين يُدعى المهمَّشون للتفاوض على الاعتراف بهم مواطنين كاملي الحقوق، فإنهم في الواقع يُدفعون إلى قبول دونيتهم ضمن منظومة تفاوضية لا تنصفهم. وقد عبّر فريدريك دوغلاس في القرن التاسع عشر عن هذا المعنى حين قال: “السلطة لا تمنح شيئاً من تلقاء نفسها دون مطالب. لم تفعل ذلك أبداً ولن تفعل أبداً.”التاريخ يعلمنا أن الحقوق لا تُستجدى عبر الطاولات المستديرة التي يجلس حولها أصحاب الامتيازات لتوزيع ما يرونه مناسباً من “فتات المساواة”. من يسعى لإقناع المهمشين بالمقايضة حول علمانية الدولة مثلاً، إنما يتواطأ مع مشروع “السودان القديم”، حيث كانت الهوية الدينية والعرقية أداة للإقصاء، وقد حان الوقت لمواجهة سماسرة المجتمع المدني ودعوتهم ليتوقفوا عن الاحتيال.التجارب التاريخية في مواجهة حياد زائف:– جنوب أفريقيا: رفض نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي أي مساومة على المبدأ الجوهري للمواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق. لم تكن المساومة حول “حق البيض” في الهيمنة مقبولة، بل كان المبدأ فوق التفاوض من اصلو.– أمريكا بعد الحرب الأهلية: رغم التضحيات الكبرى، حاولت نخب الشمال تقديم “تسويات” مع الجنوب تحافظ على الامتيازات البيضاء. النتيجة كانت قرناً جديداً من الفصل العنصري. دروس إعادة الإعمار الفاشلة تبين أن أي مساومة على المساواة تؤدي إلى إعادة إنتاج الظلم.– تجربة الحركات النسوية: منذ كتابات سيمون دي بوفوار، كان رفض التفاوض على المساواة المبدئية للنساء جوهرياً. كل “حياد” بين الظالم والمظلوم هو، كما يقول ديزموند توتو، “انحياز للمضطهِد.”حياد المجتمع المدني كقناع للانحياز:المجتمع المدني الذي يتبنى خطاب “الوساطة” من دون الاعتراف بالمبادئ فوق الدستورية، يتحول إلى أداة لتسويف المطالب الجذرية. فحين يُدعى السودانيون إلى قبول دولة بلا علمانية، يُعاد إنتاج التراتبية نفسها التي كرست الاستعلاء الثقافي والديني لعقود. وهذا ليس سوى خيانة لمفهوم “المجتمع المدني” نفسه، الذي في أصله عند أنطونيو غرامشي ليس محايداً، بل ساحة صراع هيمنة، حيث تتصارع الكتل التاريخية على قيادة المجتمع.المبادئ فوق الدستورية: قاعدة الانطلاق لا موضع تفاوض:الواقع السوداني اليوم يفرض الانطلاق من مبادئ غير قابلة للتجزئة أو التأجيل، أبرزها:١/ العلمانية: فصل الدين عن الدولة بوصفه الشرط الضروري للمواطنة المتساوية٢/ الديمقراطية التعددية: كإطار يحمي التنوع السياسي والثقافي٣/ اللامركزية وحق تقرير المصير: كآليات لإنهاء الهيمنة المركزية والاعتراف بحقوق الشعوب٤/ العدالة التاريخية: بما يشمل الاعتراف بالجرائم الاستعمارية والداخلية، وتعويض المتضررين٥/ جيش وطني جديد: لا يقوم على عقيدة إقصائية أو هيمنة إثنيةأي مبادرة أو برنامج يتجاهل هذه المبادئ أو يسعى للالتفاف حولها لا يُعد سوى محاولة لإعادة إنتاج “السودان القديم”، بوجه مدني ناعم، ويحاول سرقة اسم ونضال وثورة الهامش والذين همشوا تاريخيا.في الختام:إن أي حديث عن حياد المجتمع المدني في السودان الراهن بماظل يقدمه لا يمكن إلا أن يُقرأ في سياق التواطؤ مع مراكز القوة القديمة. إن “التفاوض” حول الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية هو جريمة إنسانية، فكرية وأخلاقية، لأنه يجعل المظلوم طرفاً ضعيفاً في صفقة تُشرعن الظلم.وبناءً عليه، فإن أي مبادرة لا تقر بوضوح بهذه المبادئ فوق الدستورية هي خيانة لجوهر الإنسانية السودانية ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، وستتم تعريتها ومقاومتها. وكما قال فرانز فانون:“الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.”النضال مستمر والنصر اكيد.(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)The post المجتمع المدني السوداني بين الحياد والانتهازية: قراءة في زمن التغييرات الكبرى appeared first on صحيفة مداميك.