التفكير الثالث: المساءلة الوطنية الأوسع نطاقًا ما بعد الحرب

Wait 5 sec.

وجدي كاملمن أبرز مفارقات ما بعد ثورة ديسمبر 2018 وبداية مرحلة الانتقال الديمقراطي أن آلت القيادة الفعلية للبلاد إلى حفنة من القتلة واللصوص من العسكريين، الذين جندهم نظام الإخوان المسلمين بمواصفات دقيقة ومدروسة، تحسبًا لأي انتكاسة أو تهديد يواجه سلطته. وقد أُطلق على هذه المنظومة الوظيفية للفساد والقمع اسم اللجنة الأمنية، وهو مسمى يعكس بدقة معناها ودلالتها.تمكنت هذه اللجنة، التي مثلت أغلبية في المجلس العسكري المشارك (رغم استبعاد بعضهم) عند تكوين مجلس السيادة، من فرض سياسات وقرارات مناهضة في جوهرها لفكرة وأهداف التغيير والانتقال الديمقراطي. وقد ساعدها على ذلك:الإخفاقات البنيوية والتنظيمية• تكوين التحالف على أسس هشة وغير متينة، إذ جُمعت قوى متنافرة فكريًا وسياسيًا (أحزاب تقليدية، تجمع مهنيين، حركات مسلحة، لجان مقاومة) من دون اتفاق واضح على مشروع وطني جامع.• غياب لوائح داخلية ملزمة لتنظيم الخلافات واتخاذ القرارات، مما فتح الباب أمام الانشقاقات والانسحابات. كما أدى الاعتماد المفرط على التوافقات الظرفية، بدلًا من رؤية استراتيجية بعيدة المدى، إلى إضعاف المسار.أما من ناحية الإخفاقات السياسية، فقد انصب التركيز على اقتسام السلطة التنفيذية أكثر من بناء مؤسسات انتقالية راسخة ومحصّنة. كما غابت القدرة على فرض مشروع وطني لإعادة هيكلة الدولة، وخاصة إصلاح القطاع الأمني والعسكري بصفة مبكرة تستبق استقواء التنظيم الخبيث.إن تقديم تنازلات كبيرة للعسكر في الوثيقة الدستورية ومجلس السيادة أتاح للجنة الأمنية السيطرة على مفاصل القرار والالتفاف على صناعته، بالتوازي مع غياب استراتيجية موحدة للتعامل مع الإسلاميين ومخلفات نظام الإنقاذ، مما منحهم فرصة لإعادة التموضع.الإخفاقات الأمنية• إن تجاهل ضرورة إعادة هيكلة المنظومة الأمنية والعسكرية منذ البداية وتركها في يد المجلس العسكري أضعف الرؤية الأمنية لحماية الثورة من الاختراق أو الانقلاب.• الاكتفاء بالرهان على “النوايا” و“الشراكة” مع العسكريين، التي وصفها رئيس الوزراء آنذاك بـ”الشراكة النادرة”، زاد من هشاشة الموقف.• التقليل من خطورة المليشيات وشبكات النظام السابق (مثل قوات الدعم السريع، والأمن الشعبي، والأذرع الاقتصادية للإسلاميين) أدى إلى تفاقم أزمة الانتقال، حيث استغلت تلك المجموعات المرحلة لإعادة ترتيب أوضاعها وتقوية نفوذها.أما الإخفاقات الجماهيرية، فقد تمثلت في فقدان التواصل الفعّال مع لجان المقاومة والشارع، وتحول العلاقة من شراكة إلى وصاية أو تنافس. فشل التحالف في تحويل الحراك الثوري إلى تنظيم جماهيري مستدام يراقب الحكومة الانتقالية ويدافع عنها. كما أدى تآكل الثقة الشعبية، نتيجة الصراعات الداخلية والاتهامات بالمحاصصة والإقصاء، إلى تعميق الشرخ. وزاد الأمر تعقيدًا أن اتفاقية جوبا جاءت منحازة للشق العسكري أكثر من المدني.كل ذلك جعل من القوى المدنية نفسها شريكًا في إضعاف المسار الانتقالي، ومهد الطريق لتوحش المنظومة العسكرية ـ جيشًا ودعمًا سريعًا ـ عبر صراعاتها الثنائية.ومن أبرز إخفاقات التحالف المدني أنه لم يستعن بالأكاديميين الديمقراطيين والمثقفين المختصين لتكوين مجموعات بحثية وأمنية متخصصة، تدرس بدقة التكوين الذهني والنفسي لقيادات المؤسسة العسكرية والأمنية، الذين لا يمكن تعريفهم إلا كـ“قتلة ولصوص محترفين”، وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو. فهذان الرجلان، اللذان سبق لهما أن خاضا تمرينًا دمويًا في تدمير البنى الاجتماعية بدارفور خلال الحرب التي أودت بحياة أكثر من 300 ألف سوداني، كان من الممكن التنبؤ بسلوكهما لو أُحسن تحليل المتوقعات المستقبلية، مما كان سيتيح إطلاق إنذار مبكر بخطورتهما على الاستقرار الوطني.ارتكب التحالف هذه الأخطاء في ظل إعلام مضاد نشط في تضليل الرأي العام والتعمية على حجم الكارثة الإنسانية، دون أن يتمكن من بناء ترسانة إعلامية وثقافية متينة أو ماكينات إصلاحية فعّالة، بسبب تكلس التفكير السياسي وارتباطه بثقافة تقليدية لم ترقَ إلى مستوى الثورة وأحداثها.لم يتعلم التحالف من التجربتين الانتقاليتين السابقتين، فعرّض الثورة، التي دفع أبناؤها دماءهم وتضحياتهم، لمزيد من التهديد عبر تفريغ شعاراتها من مضمونها. وفي الأثناء، كان تنظيم الإخوان المسلمين، المحرك الفعلي للمجلس العسكري، يعدّ العدة للحرب باعتبارها الملاذ الوحيد للهروب من المحاسبة، خصوصًا مع تعاظم مطالب لجنة التفكيك وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية. فجاءت مجزرة فض الاعتصام وما تبعها من قمع دموي للمظاهرات، ثم انقلاب 25 أكتوبر 2021، كإشارات مبكرة للحرب القادمة.في المقابل، شهد تحالف قوى الثورة تفككًا وتشظيًا بفعل اختراق الإخوان المسلمين، الذين أتقنوا نشر الفرقة الناعمة عبر دعم التناقضات الداخلية وإذكاء العصبيات الفردية والحزبية. فانسحبت بعض الأحزاب والأفراد من التحالف بتحريض خفي، فيما انشغلت أطراف أخرى بصراع السلطة على حساب الثورة. وهكذا أُهدر زخم الثورة بسبب غياب الوحدة، وإقصاء أبطالها الحقيقيين، وتحويل لجان المقاومة والأحياء من قوى حماية أمنية للثورة إلى مجرد حركة مطلبية تكتفي بالتظاهرات والخدمات الجزئية، عاجزة عن تعديل معادلة القمع المتنامي آنذاك.إن هذه الحرب لا تتحمل مسؤوليتها قوات الدعم السريع وتنظيم الإخوان المسلمين وحدهما، بل أيضًا ضعف القوى المدنية، وانغماس بعض أحزابها في منطق اقتسام الدولة كغنيمة، من دون اعتبار لمصلحة الشعب السوداني أو للانتقال الديمقراطي.ومن هنا، تصبح المساءلة الوطنية الشاملة ضرورة استراتيجية لا تقل أهمية عن وقف الحرب نفسها. ينبغي أن تشمل جميع الأطراف التي شاركت في العملية السياسية، أمام لجنة عدلية مستقلة ذات مصداقية عالية، لتتمكن من إنجاز المساءلة الأوسع نطاقًا عن مسؤولية الحرب وتبعاتها، والبحث العقلاني الرشيد عن ديمقراطية علمانية مستدامة، خالية من الإرهاب الديني والمدني ذي اللبوس الديمقراطي والأجندات الفردية الطامحة لدور سياسي في مستقبل السودان.The post التفكير الثالث: المساءلة الوطنية الأوسع نطاقًا ما بعد الحرب appeared first on صحيفة مداميك.