الفاشر كفضاء خطابي: تُجَوَّع الفاشر فيُفصِح الخطاب وينفَضِح… فيقول

Wait 5 sec.

صلاح الزينالفاشر مكانٌ وليست مضغةً جغرافيّة تُسوِّرها الصحراء والسراب.المكان وقاطنوه مَن ينزعوا الجغرافية مِن مرايا العدم لتَرى نفسها، أكثر رقياً وفصاحة، كمكانٍ مأهولٍ بعبادٍ يتعاطون شؤون الحياة، حياتهم، لا فضاءً مسكونًا بصفير الأنواء والصدى.الفاشر مدينةٌ تُوزِّع على ساكنيها، ليلًا ونهارًا، أسباب الحياة: حِفنة “أُمباز” وصلوات وأدعية. ما كان لها أن تكون إلا ما كانت عليه: مدينة مغسولة بماء المكان. والمكان صرةُ ذكرياتٍ تُعطِّر ما حولها بماء الخليقة. مدينةٌ لا تشبه المدن في شيء إذ المدن لا عطر لها والفاشر لا تبخل بعطرها حتى تكون المدن مدنًا بخطيئة وصلوات.الفاشر حاكورة دار فور التي تأبى أن تكونَ ذاكرةً لحواكيرَ جُرِّفَت. تنظر إلى المدن الأخرى فلا تراها فتُخرِج مرآتها وتنظر لنفسها وتغازل جمال وجهها وتبتسم. تَرتفِقُ بخاصرتها معسكرات نازحين دارفويين أيقظهم “ديك” الجنجويد قبل ربع قرن من الزمان. لم يمهلهم ديك الجنجويد ذاك لغسل أحلامهم وإيداعها فوق مخدة الصباح. بل ومِن عجلته لم يمهلهم حتى أن يغسلوا صباحهم بقليل من ماء الوضوء والتأمل في سماء الله.منذ عام ونيِّف خَلعت المدينة ثوب الغرائز واستبدلته بغريزة البقاء حتى يكون “الديك” بمهارةٍ ليوقظ دجاجاته لتَرعَى شؤون صغارها كما الفاشر ترعى شؤون صغارها بحفنةٍ من “أُمباز” تُقاسِمها وبقرة البيت. تحاصرها جيوشٌ بعدة لغات فيستعصى عليها فك شفرة قاموس الفاشريين وما أورثهم سلطانهم من سلطان وكبرياء.يدافع الفاشريون عن فاشرهم كما تدافع عشبة عن حقها في النمو. تدافع عن ما حوته ذاكرتها ضد مَن ليس في ذاكرتهم سوى المحو وسديم العدم، ضد مَن اُستُحدثوا عَصاةً رثةً حتى يكتمل نشيدُ الخطاب، الخطاب العربسلامي، الذي كانوا أنصع تجلياته انحطاطًا ونذالة. نَبتوا من جانبه المتعفِّن عشبةً تقتات الحياة وتُصَحِّرها.منذ خمسمائة يوم والذئاب تحاصر الفريسةَ، والفريسةُ تَصُدّ نِبالَهُم بنبالٍ من كبرياء وجسارة. فالذئاب لا تشم إلا رائحة دم الضحايا، الماثلين منهم والمحتملين.الفاشر والمحاصَرون داخلها قاموس يعيد تعريف السياسة كصراع حول الكبرياء وجمالياته. نزح الفاشريون داخل فاشِرِهِم وما بين حيِّزاتهم ليكونوا أكثر قرباً للمكان، مكانهم، فالذئاب تصطاد القصي من القطيع. الفاشر، مكانهم، الذي لا يعرفون مكانًا سواه ولا ذاكرةً تسعهم حتى يمدوا أرجلهم، قليلًا يمدونها، حتى يوقظهم آذان الفجر.منذ ربع قرن من الزمان كانت دار فور البِرش الذي من فوقه وُلِدَ تحالفُ الدَمِ والدين، الدين الذي تنقص قداسته حجم الشفاه ولون حدقات العيون، أثننة الدين، الذي يَرى صفاءه في صفاء العِرق كأقصر جسرٍ للوصول إلى الخالق وكنوز الجنان. فكان ميلاد الجنجويد كنعالٍ تَهِب الخطاب العربسلامي مزيدًا من فراسخَ خطابية وتكوُنُهُ في أكثر جنباته انحطاطًا، تصيره ويصيرها.توأمان سياميان منهما يستقي الإله “جانيوس” ماء ربوبيته واستواءه على العرش.تُرى كيف ينظرون إلى الفاشر؟ بل كيف ينظرون إلى الحرب، حرب أبريل 2023 ؟البندقية المستأجَرة لا تُحارِب بل تَقتل وتَنهب وتَغتصِب لتنال أجرها.إنها سيرة استحداث مقاتلين يمكن استئجارهم لينجزوا ما عجز عن إنجازه نظيرهم الفلولي، منذ ما يقارب ربع قرن من الزمان، وما تلى ذلك من ملابسات عديدة أودت بهم للانتقال من خانة الأجير إلى المُشارِك الصريح والذي أصبح أحد مستويات بنية الخطاب العربسلامي.توالت هزائمُهم بعد سيطرتهم على مناطق واسعة في ولاية الجزيرة والخرطوم لأكثر من عام. فانكفأوا نحو مرابع طفولتهم، طفولتهم الخطابية. اِستَبدلوا رشدهم الخطابي الأول، معية الخطاب العربسلامي، برشدٍ خطابيٍّ من غير أن يَسعدوا بطفولته الخطابية. وبما لهم من سطوة مالية وعسكرية يوفرها الكفيل الإقليمي، دولة الإمارات، وَلّوا شطرهم نحو تأسيس رُشدٍ خطابي آخر فكانت “تأسيس” والتي ستكون مجرد حلقة من سيرورة الرشد الخطابية للسيرة الجنجويدية. فمَن ينزلق من الجيب الخلفي للخطاب العربسلامي يكون خروجه داخل بنية الخطاب وليس خروجًا عنها.بذلك تكون “تأسيس” مجرد حَبلٍ يُشَرُّ عليه ما اتسخ من العباءة الجنجويدية ليبلغ العبث والعدم السياسي أن يُنصَّب “الأمير” حميدتي رئيسًا لتحالفٍ بأطروحةٍ سياسيةٍ تَدَّعي الدفاع عن المهمشين !!!ذات الحميدتي الذي أُعيدت تسميته بِاسم “حمايتي”، والذي كان استحداثُهُ واستيلادُهُ من ضلع الخطاب العربسلامي الذي أَوكَلَ إليه مهامَ ربطِ العقيدة إلى وَتَدِ الصفاء العرقي والثقافي حتى يَسْبَحُ الإسلام في عروقٍ نقية لا تلوّث قداسته.أُنجزت المهمة كما طلب الصانع: إبدالُ وتجريفُ براري دار فور ومحو ذاكرة الفرقان والمضارب والحِلَّال وإحالتها إلى ركامٍ بشري اُستُودِعَ في معسكرات النزوح في “زمزم” وغيرها من المعسكرات لينشأ فيها جيلٌ كامل فوق العشرين من العمر بذاكرةٍ ليس فيها غير هدير شاحنات الإغاثة وطنين لغات يجهلونها.وتبقى الفاشر وتجويعها فضاءً خطابيًا ينظرون إليه كَسُرَّةٍ ونواةٍ حولها تَنتسِج بنية خطاب حربهم، حرب الفاشر وقتلها جوعًا، تربةً لعشبة جلجامش تُطيلُ حياة خطاب حرب أبريل 2023.وبذلك يتمفصل تجويعُ الفاشر مع خطاب حرب أبريل الذي تُقرأ سيرته في إنجيل الديسمبريين وميثاقهم الثوري لتأسيس سلطة الشعب بمفتتحه: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل. فكانت حرب أبريل 2023 حتم ضرورة تتناسل وانزياحات خطاب الحرب وانتقالاته من بنيةٍ ذات مركزٍ واحدٍ تسمح بتعدد مراكز البنية من غير الخروج عن بنية الخطاب.هكذا أصبحت الفاشر فضاءً خطابيًا يَرى فيه الجنجويد غيمةً تُطهِّر مِعطَفَهُم الخطابي الذي يحوي، فيما يحوي، حكومة “تأسيس” بسيطرتهم عليها ماليًا وعسكريًا، قيادةً وتأسيسًا. فكان ميلادُ تأسيسٍ لا يعدو كونه دابة تعيد الرأس الجنجويدي ليَرعى من عشبِ ذاتِ حقلِ الخطاب، الخطاب العربسلامي، إذ الخطاب، أي خطاب، بمهاراتٍ ودِرْبةٍ خطابية لا يغفل كلا الماثل والمحتمل. فـ “لجانيوس” من القداسة والربوبية الخطابية وما يحوزه من تكتيكاتِ السيولة الخطابية ما يَسمح له، وإنْ موقتًا، أن يبارح أحد رأسَيْهِ كتفَهُ ليعود بمزيدٍ من المهارات الخطابية والسياسية ويُصلِح ما انعطب من بنية الخطاب وانهدم.تُرى كيف يَرى هذا الخطاب وجهَهُ في مرآة الفاشر؟؟؟The post الفاشر كفضاء خطابي: تُجَوَّع الفاشر فيُفصِح الخطاب وينفَضِح… فيقول appeared first on صحيفة مداميك.