وجدي كامل“في الذكري السنوية لرحيل أخي وصديقي الأستاذ أحمد عبد المكرم أعيد نشر مقالي الذي كان قد نشر بمجلة الدوحة القطرية عقب وفاته في ٥ اكتوبر ٢٠١٢ – ألف رحمة ونور عليه أحمد”.بنهاية سبعينيات القرن الماضي كنا صبية نسحب أقداماً من ندوة إلى معرض، ومن نقاش ثقافي بجامعة إلى فيلم نوعي بمركز ثقافي أجنبي أو بنادي السينما بمصلحة الثقافة.كانت الخرطوم تنسج غيوماً من الأفكار الطليعية الطموحة بمزاحمة من جيل جديد أطلق عليه التشكيلي عبدالله بولا فيما بعد (جيل الأولاد أبات خرتايات).كنا نتوق إلى ملمح سياسي وواقع اجتماعي مختلف ومتجاوز بتصديرنا لعلامات تميزنا في الملبس والشكل والكلام، ننوع قراءاتنا ونعمق مصادرنا المعلوماتية وننتشر في كل حدب وصوب دونما تردد أو مخافة لشيء.أحمد الطيب عبد المكرم كان واحداً منا، غير أنه كان أكثرنا تاييدا للاستماع والانزواء والتأمل وامتصاص انفجاراتنا اليومية أحيانا.شاب فارع الطول، نحيف البنية، يتدفق محبة، يحرسه أدب، ويحيطه أتزان، وتقوده طيبة يدخل بها دون استئذان إلى قلوب الجميع.كان أحمد يعمل فنياً آنذاك بكلية الطب بجامعة الخرطوم. بسيطاً في جملته، عميقاً في فكرته عبر مجموعة من التجارب القصصية التي قرأناها له. عرفني عليه محمد مصطفى الأمين الناقد السينمائي ومعه القاص عادل القصاص عندما زاراني بمنزلنا بالخرطوم بحري ذات مساء.ست سنوات قضيتها في دراسة السينما بموسكو، ولكني كنت أحرص على أن التقيه كل ما عدت في إجازة سنوية إلى الخرطوم. كنت ألاحظ أن أحمد بدأ يتجه إلى الكتابات النقدية ويهتم برواد الرواية والقصة القصيرة السودانية، مستعيناً في ذلك باستيعاب عميق لكافة مناهج النقد الأدبي الحديث.شارك أحمد ومنذ تلك الأيام بكثافة ونشاط بائن في سائر الفعاليات الثقافية والحوارات اليومية التي قادها أبناء جيله من الشباب ومن أهمهم أسامة الخواض وبشرى الفاضل وعبداللطيف علي الفكي ومحمد خلف والسر السيد، الذين تمكنوا بتحالف مع الجيل الذي سبقهم، وفي مقدمته كمال الجزولي ومحمد المهدي بشرى وعلي المك وشيوخ مثل جمال محمد أحمد من تأسيس اتحاد الكتاب السودانيين وافتتاح مقر له بمنطقة المقرن. رحل عبد المكرم إلى ليبيا لفترة عمل فيها بمكتب صحيفة العرب التي كانت تصدر من لندن،ثم إلى القاهرة، إلى صحيفة الخرطوم وأضحى المحرر الثقافي لها في مهجرها.عبر عموده فضاءات ويوميات النشر الثقافي التقى صديقنا، وصادق، وعاشر عن قرب، وعرف عن كثب، مجاميع من الأسماء الثقافية الهامة التي استضافتها القاهرة في تسعينيات القرن الماضي فكتب عنهم ونشر لهم وحاور من حاور منهم. ويمكن وصف الصفحة الثقافية اليومية والملف الأسبوعي لصحيفة الخرطوم وقتها بأنه من أميز خزانات الكتابة الثقافية للسودانيين في العقود الأخيرة. عاد الناقد الفذ إلى السودان في بدايات هذا القرن وانضم إلى أسرة مركز عبد الكريم ميرغني حيث اضطلع بمهمة مدير الأنشطة والتوثيق فساهم في خروج عدد مقدر من الندوات التي أدارها وكذلك جملة من الإصدارات من كتب وغيرها..عاد لفترة لصحيفة الخرطوم وعمل متعاوناً مع عدد من المراكز الثقافية ومنها مركز العدالة الإفريقية ومركز مالك الثقافي بالدمازين الذي تبادل معه حباً بحب حتى لحظة تدميره وقصفه بآلات الحرب.أحمد عبد المكرم وفي رحلته الثقافية والإنسانية القصيرة، البليغة تربصت به الأمراض ولاحقته منذ القاهرة، حيث عانى من الالتهاب الرئوي وفاجأه مرض السكر في الخرطوم، وتابعه الضغط وآلام الغضروف وشظف العيش كمرض ثقافي عام تدارى منه طيلة حياته بملاءات من كرامة فريدة وعفة قل أن تجد مثلها في هذا الزمان.قبل شهرين حادثته من الدوحة وكالعادة كان يحكي متفائلاً عن وكالة صحفية قام بتأسيسها مع نفر من أصدقائه الكثر، فوعدته بأن أبحث مع مجلة الدوحة إمكانية مكاتبتهم من الخرطوم، ولكن كان قد افترسه المرض الذي لا علاج منه وانتشر في الجسد الطيب، وقضى عليه، دون ان يقضي على فضاء جميل وحميم اسمه روح أحمد عبد المكرم.The post عبد المكرم.. رحيل النص الباذخ appeared first on صحيفة مداميك.