حَرْبُ إِنْتَاجِ الوَعْيِ المَأْسَاوِيِّ بِالحَقِيقَةِ

Wait 5 sec.

وجدي كاملهذه الحرب المشتعلة على جبهاتٍ عدّة لأكثر من عامين لها غاياتٌ متعدِّدة. فباعتبار ان هذه حربًا للإخوان المسلمين أو لحزب المؤتمر الوطني، فليس الهدفُ من عودتهم إلى السلطة بصفةٍ كاملةٍ أمرًا يُنجَز بضربةٍ واحدةٍ خاطفةٍ، بل هو تحقيقُ أهدافٍ متدرجةٍ، مثلَ تدميرِ البنى القانونية والأخلاقية، والانتقامِ من القوى المدنية ومن ثورةِ ديسمبر 2018، بما يهيِّئُ لهم نيلَ سلطةٍ مطلقةٍ. وأيا كانت الوسائل المتدرجة لاستعادة السلطة المفقودة سياسياً، فقد ظلت الشفرةُ الفعليةُ الفاعلة في هذه المهمة إطلاقَ يد الفساد والمحسوبية وتشريعَ حكمٍ يُخرِج الدولةَ من اطار القانون.تتغذّى الحروب، عبر التاريخ القديم والمعاصر، من الفساد وتغذِّيه. ولذلك فالحرب بهذا المعنى ليست صراعًا مسلّحًا فحسب، بل جريمةٌ اقتصاديةٌ منظَّمة تنفّذها نُخَبٌ عسكريةٌ ومدنية — أوليغارشيةٌ — تستغلّ الموارد العامة والثروات الطبيعية لصالح قلةٍ من المستفيدين، في مقابل معاناةِ الغالبية من المواطنين الذين يعانون النزوح والجوع والإهانة المعنوية والجسدية والقتل، وغيرها من الأضرار التي تمكّن الفساد والفاسدين.قدّم التاريخ المعاصر أمثلة على ذلك، مثل الحرب الأهلية في لبنان (1975–1990)، وحربَي العراق وأفغانستان، وكذلك الصراعات الداخلية في السودان مثل صراع الإخوان المسلمين والحركة الشعبية لتحرير السودان. هذا الوجه الغاشم للحرب، المتمثل في التدمير الاقتصادي عبر فساد النخب المدنية والسياسية وتوابعها العسكرية، حافظ على «الاقتصاد الحربي» داخل بنية الاقتصاد السوداني حتى بعد اندلاع الثورة، إذ لم تُصفَّ أجهزته التحتية المتمثلة في الجيش والأمن والشرطة، مما حَفَز منظومة تلك النخب على محاولة استعادة النظام القديم بتحالفٍ مع بعض الحركات المسلحة.أما لسان حال ذلك الاقتصاد الحربي الخفي بعد الثورة، الذي شكّل حوالي 80% من مجمل الميزانية، فتمثّله شبكة الإعلام ووسائله. فقد استخدمت استراتيجياتها القديمة التي بقيت حية أثناء الثورة وبعدها لتواصل الخداع والتعتيم على وعي الناس، فتفشل المجتمع في قراءة الحقيقة كاملةً حول طبيعة الحرب. ففي ظل الحرب الحالية ينتشر التلوّث الإعلامي عبر الأخبار الكاذبة والشائعات ومواد الترفيه الرديئة على شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، تيك توك، واتساب)، فيُنتَج بذلك ضخٌّ مستمر من المواد المضادّة للوعي حيال حقيقة الحرب، مما يضعف القدرة على فهم حجم المأساة الاقتصادية والنهب المنظم للثروات ونقلها عبر الحدود وعوائدها الربحية.ما ينفع وعي السودانيين في هذه الظروف الدقيقة هو ضرورةُ التخلص من التلوّث الإعلامي المصاحب للحرب، أو التصدي لما تنتجه وسائل الإعلام والرسائل المُضلِّلة. فالتلوّث الإعلامي يصنع بيئةً مناسبةً لإنتاج موادٍ نموذجية تستهدف استمرار التضليل، بل يصيغ استراتيجياته بنفسه. هذه الحرب تستهدف الحقيقة وتعمل على قتلها بكافة الوسائل، أو على الأقلّ تشتيتَ انتباه الناس وإقصائهم عن وعيهم بالجرائم الاقتصادية المتوحشة التي تقع بعيدًا عن أعين الجمهور. وهذا يساهم في صناعة ما يمكن تسميته «الوعي المأساوي» للحرب — أي الوعيٍ المنقوصٍ بالوقائع الاقتصادية المترتبة عنها، وبالنهب المنظّم للثروات والموارد لصالح قلةٍ من العسكريين والمدنيين الذين لا يرغبون في إيقافها.إن مقاومةَ طبقات الغبار الإعلامي فورًا، والالتفات إلى ما وراءها من كوارث، هو ما سينقذ الوعي ليبلُغ غايته: التضامن السياسي والعمل لبناء وحدةٍ مدنيةٍ فوريةٍ لوقف الحرب.الاستراتيجيةُ الإعلامية للنخبِ العسكرية والمدنية التابعة للأطراف المشاركة — أو ما تُصدره الأوليغارشية من خروقاتٍ اقتصادية — لم تختر التضليل عن طريق الصدفة، بل اعتمدته كسلاحٍ فتاكٍ يستهدف تفكيك الوعي المدني العام وتقسيمه بحيث يفشل في إدراك بشاعة ما جرى وما يجري. يُنفَّذ ذلك عن قصدٍ ومعرفةٍ، لأن وعيَ الأغلبية بالحرب كمجْزَرةٍ اقتصاديةٍ وبالمكاسب المليارية التي تجنيها النخب سيعقِّد مهمتهم وأنشطتهم غير الأخلاقية.ما يجري في الخفاء من عملياتٍ ماليةٍ هو استمرارٌ لما سبقته النخبةُ الحاكمة عبر حلقاتها الضيقة؛ وغالبًا ما تلتقي أطراف النخبة في أهداف اندلاع الحرب واستمرارها، بحيث تُستَغَل مواردُ البلاد كلّها لمضاعفة ثرواتهم وتهريب رؤوس الأموال، وتعزيزها عبر حركة اقتصاد الإسلام السياسي الإقليمية والدولية (الإخوان المسلمون، حماس، حزب الله، إيران). ما نحتاجه الآن هو تتبُّع حركة حسابات أعضاء «نخبة الحرب» وتوثيق ما يتسرّب من مظاهر الثروة. وما رشح من تفاصيل عن ثروات بعض قادة الجيش ونوابهم وبعض قادة الميليشيات المتحالفة — وعلى رأسهم أسماءٌ ذُكرت في مناصب مثل وزير المالية وحاكم إقليم دارفور — لا يعدّ سوى قمة جبل الجليد.لقد ظهرت فضائحٌ تُزكِم الأنوف بأفعالٍ ارتكبها بعض هؤلاء وغيرهم، الذين ينشطون في إدامة الحرب لا لغايةٍ إنسانية أو وطنية، بل لمراكمة ثرواتٍ شخصية على حساب حقوق المواطنين السودانيين المُستهدَفون بالنزوح والجوع والقتل. إنها حربُ اللصوص التي لا تمتُّ بصِلةٍ لأي أجندة وطنية نزيهة.مكافحةُ انتشار «الوعي المأساوي» تعني الإلمامَ بما وراء الحرب، ليس لمعرفة من المستفيد فحسب، بل لكشفِ حجمِ السرقة والنهب والتجاوزات وتوثيقها توثيقًا دقيقًا يساعد على إقامة المحاسبة لاحقًا بأكمل وجه.من أجل تحقيق هذه المهمة الوطنية الغالية، يجب على الإعلام البديل — الإعلام الديمقراطي صاحب المصلحة في بناء سودانٍ جديد — أن يتبنّى أنماطًا أكثر فاعلية، كالصحافة الاستقصائية التي تكشف المعلومات الخفيّة وتجعلها متاحةً للجميع. ويتطلّب ذلك أيضًا اقتصادًا إعلاميًا مدنيًا متينًا وقويًا، يحتاج إلى انتباهٍ ودعمٍ من كافة القوى والتحالفات السياسية المناهضة للحرب للعمل المشترك بغرض توفير عناصره وشروط إنتاجه دون هوادة. فبدون السيطرة على الأجهزة الحيوية لصناعة الوعي، ومن أهمِّها السيطرة الإعلامية ذات الاستراتيجية المركزية لمقاومة الفساد، لن نتمكّن من استعادة دولةِ القانون والعدالة والحرية والتنمية التي ينشدها كل مواطنٍ حر ونزيه.The post حَرْبُ إِنْتَاجِ الوَعْيِ المَأْسَاوِيِّ بِالحَقِيقَةِ appeared first on صحيفة مداميك.