د. أماني الطويلتشهد القارة الأفريقية منذ عقد صعود جيل جديد من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين يُعرف بـ”جيل زد” (مواليد أواخر التسعينيات ومطلع الألفية). هذا الجيل الأكثر اتصالاً بالعالم رقمياً، والأكثر وعياً بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، والأقل ارتباطاً بالأيديولوجيات التقليدية أو الهويات الحزبية.يتحرك “جيل زد” في فضاء عام جديد تشكله الشبكات الاجتماعية والمحتوى الرقمي والوعي الكوني بالعدالة والمساءلة، فبينما كانت الأجيال السابقة في أفريقيا تناضل في النصف الثاني من القرن الـ20 من أجل الاستقلال والتحرر الوطني، فإن “جيل زد” الأفريقي يسعى من أجل تحقيق المواطنة المتساوية التي فشل في تدشينها دولة الاستقلال الوطني في أفريقيا.يأتي هذا الحراك في لحظة تاريخية تواجه فيها القارة الأفريقية أزمات مركبة، إذ تراجع معدلات النمو، واتساع الفجوة بين النخب السياسية والشباب، وانهيار الثقة بالمؤسسات الحزبية خصوصاً الأيديولوجية منها. في هذا السياق نستطيع أن نفهم تظاهرات “جيل زد” في المغرب والسنغال ونيجيريا والسودان وكينيا وجنوب أفريقيا بوصفها نماذج تعكس تحولاً في بنية الوعي السياسي والاجتماعي للشباب الأفريقي.فقد اندلعت في المغرب خلال عامي 2023 و2024 موجة من الاحتجاجات المتقطعة قادها شباب ينتمي في غالبه إلى “جيل زد” تركزت في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة ومراكش، وجرت لاحقاً في الجنوب المغربي بأغادير. وعلى رغم أن هذه التظاهرات لم تكن ذات قيادة منظمة، فإنها عبرت عن تململ اجتماعي واسع تجاه ارتفاع كلف المعيشة والفساد والبطالة، بما يؤشر إلى استمرار واتساع الاحتجاجات.وطبقاً لتقارير مغربية مثل المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية ومركز السياسات من أجل الجنوب الجديد فإن الدوافع العميقة للحراك ترتبط بغياب الثقة في المؤسسات، لا سيما في الأحزاب والنقابات، وتزايد الفجوة بين تطلعات الشباب وإمكانات النظام الاقتصادي المغربي.وقد اتخذت احتجاجات “جيل زد” في المغرب طابعاً رقمياً، إذ أدت المنصات دوراً رئيساً في تعبئة الرأي العام الداخلي، إذ إن هذا الجيل هو جيل ما بعد الإصلاح الدستوري المغربي عام 2011 الذي نشأ في بيئة روجت للإصلاح والانفتاح السياسي، لكنه واجه واقعاً مغايراً في الواقع الاقتصادي والتنموي.من هنا، فإن الاحتجاجات الراهنة في المغرب لن يسهم في تهدئتها إلا ممارسة مرونة سياسية عبر فتح نقاشات مجتمعية تفضي إلى إصلاحات ذات صدقية، خصوصاً فيما يتعلق بمحاربة الفساد، والاهتمام بالتعليم والصحة، بما يخلق فرصاً جديدة أمام “جيل زد”، ويضمن استقراراً سياسياً للمغرب في المرحلة المقبلة.أما السنغال فتعد من أبرز النماذج التي نجح فيها “جيل زد” في تحقيق تغيير سياسي حقيقي قاده هذا الجيل الذي أسقط المنظومة السياسية التي هيمنت عقوداً بقيادة الرئيس ماكي سال، عبر حركة اجتماعية واسعة قادتها رموز مثل عثمان سونكو.وقد تميزت حركة “جيل زد” في السنغال بقدرتها على دمج الوسائط الرقمية بالاحتجاج الميداني، وذلك باستخدام الخطاب الوطني لا الأيديولوجي، مما جعلها أكثر جاذبية للطبقة الوسطى الحضرية. من هنا نجحت السنغال في تنظيم انتخابات نزيهة عام 2024، صعد الرئيس الشاب باسيرو ديوماي فاي إلى سدة الحكم ليمثل تتويجاً لتحول اجتماعي عميق تقوده الأجيال الجديدة، ويجعل السنغال نموذجاً يحتذى في الانتقال نحو الديمقراطية بمساعدة الشبكات الرقمية.يعيد تعريف علاقة المواطن بالدولة ويطالب بمكانه في المستقبل لا عبر الانقلابات ولا الولاء الحزبي بل بالوعي والتواصل والقدرة على التنظيم الذاتيفي نيجيريا نستطيع أن نلحظ بروز وعي شبابي عابر للهويات الثانوية، إذ أطلق “جيل زد” عام 2020 حملة ضد وحدة الشرطة الخاصة بالجرائم الإلكترونية، وتحولت هذه الحملة إلى حراك وطني شامل ضد الفساد وانتهاكات السلطة. وطبقاً لدراسة قام بها معهد الدراسات الأمنية بجنوب أفريقيا فإن “زد” النيجيري اعتمد على التكتيك العام للجيل، أي حركة بلا قيادة، مع عمل جماعي إلكتروني منسق، بالتوازي مع تنظيم ذاتي، وتعبئة المحتوي الرقمي.وعلى رغم أن القمع الأمني في نيجيريا أدى إلى تراجع الاحتجاجات، فإن أثرها لم ينته، فقد غير “جيل زد” النيجيري معادلة الوعي السياسي عبر فرض قضايا العدالة والمساءلة على جدول أعمال الأحزاب، وخلق شبكات ناشطين عابرة للعرق والدين.وقد يكون النموذج السوداني أكثر نماذج “جيل زد” مأسوية، إذ إن الحراك الثوري في 2018 قد تحول إلى حرب ضروس صعدت فيها الانقسامات العرقية والقبلية، بينما كان الشباب السوداني، لا سيما لجان المقاومة، النموذج الأبرز للجيل الرقمي المنظم في بيئة سلطوية معقدة، ذلك أن لجان المقاومة استطاعت الحفاظ على زخم الثورة على رغم الانقلابات اللاحقة والحرب الأهلية التي اندلعت عام 2023.وربما يختلف “جيل زد” السوداني عن نظرائه في بلدان أخرى بقدرته على العمل الأفقي اللامركزي، إذ اعتمد على اللجان الميدانية بدل القيادة المركزية، قبل وفي أثناء الحرب وعلى المحتوى الرقمي كوسيلة للتعبئة وتوثيق الانتهاكات خصوصاً في إقليم دارفور، عطفاً على الممارسات السلطوية الممتدة فيها منذ عام 2003.وعلى رغم المعاناة الإنسانية الراهنة، فإن تجربة السودان تظهر أن “جيل زد” بات فاعلاً سياسياً أصيلاً لا يمكن تجاوزه في أي عملية انتقال مستقبلي، وهو أمر لا يبدو أن إدراكات الأحزاب السياسية السودانية قد ارتقت إليه حتى الآن.وقد يكون أبرز ما يميز تجربة “جيل زد” الكينية هو الانتقال من الفضاء الرقمي إلى الفعل السياسي الواقعي، إذ اندلعت عام 2024 تظاهرات واسعة ضد زيادة الضرائب، قادها شباب جامعيون وناشطون عبر الإنترنت استطاعت أن تجبر الرئيس الكيني ويليام روتو على التراجع عن جزء مقدر من سياسته المالية.في كينيا فإن البلاد تشهد تكوين جيل سياسي رقم ((IDASA، وطبقاً للمعهد الأفريقي للديمقراطية والتنمية يرفض وساطة الأحزاب التقليدية ويستخدم البيانات والمحتوى المصور لتعرية الفساد الحكومي. وتقع هذه الظاهرة ضمن ما يسميه باحثو نيروبي “سياسة اللا قيادة”، إذ يصبح التنظيم الجماعي مرناً، وشبكات التواصل هي الإطار الفعلي للقرار.وعلى رغم تمايز دولة جنوب أفريقيا في السياق الأفريقي العام بسبب حركة التحرر الوطني فيها بقيادة نيلسون مانديلا، بما جعلها من أكثر دول القارة الأفريقية ديمقراطية من حيث البنية الدستورية، فإن “جيل زد” هناك يعيش إحباطاً متزايداً من بطء العدالة الاجتماعية، إذ إن معدلات البطالة تزيد على 50 في المئة، وهو ما يولد مشاعر الغضب والإحساس بالخيانة من جيل التحرير الأفريقي، فشهدت البلاد احتجاجات طلابية تحت شعار “الرسوم يجب أن تسقط” إشارة إلى الضرائب المتصاعد فرضها على عموم المواطنين، حيث تسعى التجربة الجنوب أفريقية إلى إصلاح النظام الاقتصادي، ومحاولة إعادة تعريف وتأسيس المواطنة الاقتصادية والاجتماعية داخل الديمقراطية نفسها، مما يمثل تحولاً من منطق الثورة إلى منطق التجديد المؤسسي.طبقاً لكل المعطيات السابقة يمكن استخلاص ملامح عامة للحراك الشبابي الأفريقي بقيادة “جيل زد” منها أن هذا الجيل يعتمد على الفضاء الرقمي أرض معركة رئيسة، إذ تتشكل السرديات وتصاغ المطالب، كذلك تعكس كل هذه الحركات رفضاً للنظم الحزبية القائمة، وابتعاداً عن الانقسامات الأيديولوجية التقليدية. وأيضاً يتابع الشباب في الدار البيضاء ما يجري في داكار ولاغوس والخرطوم، مما يشكل فضاءً قارياً مشتركاً للوعي واكتساب الخبرات. وهكذا لم يعد التغيير المطلوب من جانب “جيل زد” يعني الثورة المسلحة أو الاستيلاء على السلطة، بل الضغط المستمر، والإصلاح التدريجي، وتعظيم آيات المساءلة الرقمية المؤسسة للمساءلة الواقعية.في هذا السياق يمكن القول إننا أمام عدد من السيناريوهات خلال العقد القادم منها قيام الحكومات بفتح المجال أمام مشاركة الشباب في البرلمانات والمجالس المحلية والاقتصاد الرقمي، مما يؤدي إلى انتقال سلمي نحو تغيير السياسيات وتجديد النخب، أو استمرار موجات الاحتجاج كل بضع سنوات من دون تغيير جوهري في بنية السلطة، وهو السيناريو الأقرب في النطاق العربي من أفريقيا كالسودان والمغرب، بينما يكون النطاق الأفريقي أكثر انفتاحاً على تحول كبير يقوده “جيل زد” كما يبدو في نموذجي السنغال وكينيا.إجمالاً، يبدو لنا أن “جيل زد” الأفريقي في القرن الواحد وعشرين ليس مجرد فئة عمرية، بل ظاهرة تعيد تعريف علاقة المواطن بالدولة. فهو جيل يطالب بمكانه في المستقبل، لا عبر الانقلابات ولا عبر الولاء الحزبي، بل عبر الوعي والتواصل والقدرة على التنظيم الذاتي.المصدر: اندبندنت عربيةThe post “جيل زد”… نحو مسارات جديدة للتغيير الأفريقي appeared first on صحيفة مداميك.