إبراهيم برسيليس عسيرًا أن نلمح في طرح عبد اللطيف علي الفكي رغبةً صادقة في إعادة تعريف “المكان”، وفي تحريره من سجنه اللغوي ومن إرث التفكير الميتافيزيقي الذي ظلّ يطاردنا كلما أردنا أن نفهم علاقتنا بالعالم. وهذه الرغبة نفسها تستحق التوقّف عندها، لا من باب المجادلة أو توكيد الاختلاف، بل من باب استكمال الحوار الذي بدأه، ووضعه في تربةٍ ربما تختلف عن تلك التي تخيّلها حين كتب نصّه.ذلك أنّ المكان – في التجربة السودانية تحديدًا – لا يظهر كفضاء قابل لـ”الانبثاق”، بل بوصفه جرحًا مفتوحًا، مُحمّلًا بتواريخ من القهر والقمع والحروب والتحوّلات القسرية التي جعلت العلاقة به علاقة مهدّدة، لا مطمئِنة. فالمكان عندنا ليس إمكانية، بل سؤالٌ معلّق: كيف تجتمع حياةٌ بشرية ممزّقة في حيزٍ لم يُترك لها سوى البقاء… لا السُّكنى؟هنا، أجدني أختلف مع التصوّر الذي يقدّم “الذات القاطنة” ككيانٍ يعيد الماضي ببراءةٍ لغوية أو بوهمٍ اسميّ. فهذه الذات في السودان ليست أثرًا غابرًا، ولا هي استمرارٌ لزمن بدائي؛ إنها ذاتٌ تكوّنت في الهامش، وشُكّلت على عتبة الخوف، وتعلّمت أن ترى المكان بعيونٍ لا تسكن، بل تفرّ.ذاتٌ نشأت في ظلّ الدولة الريعية، والدولة العسكرية، والدولة التي لم تمنح المكان حقّه، بل انتزعت منه كل معنى…لذلك لا يمكن قراءتها كمفهوم ميتافيزيقي، بل كحصيلة لعنفٍ بنيوي طويل، جعل المكان نفسه جزءًا من جهاز السيطرة.وبهذا المعنى، فإنّ “الذات الحيثوية” – التي يفترض الكاتب أنها مصدرٌ علميّ للمعرفة بالفضاء – لا تعمل في سياقنا كما تفترض النظريات.الإحصاء عندنا ليس وسيلةً للفهم، بل أداةٌ تُستخدم لترسيم الحياة والموت: من يُحسب ومن يُحذف، من يُرى ومن يُنسى. فالأرقام في السودان لم تُكتب يومًا لصالح المكان، بل لصالح السلطة. ولذا، لا يمكن أن تكون هذه الذات جسرًا نحو “الذات المكانية” التي يتحدّث عنها عبد اللطيف، ما لم تُنزَع عنها قبضة الدولة التي تحصي الناس كي تتحكم في مصائرهم.وهذه النقطة تقودني إلى الفكرة المركزية التي أجدها أكثر إلحاحًا: أن المكان في السودان لم يُمنح فرصة ليكون فضاءً من الأصل.كل محاولة لتأسيس فضاء مكان – سواء في الخرطوم، الفاشر، بورتسودان، أو أي مدينة مسكونة بالهجرة والنزوح والتهجير – كانت تُجهَض بالانقلابات، بالحرب، بالنهب، وبالوعي الذي صاغته السلطة لا الحياة.لهذا يبدو لي أنّ الحديث عن “انبثاق المكان من ذاته” لا يلتقي تمامًا مع حقيقة الخراب الذي لا ينبثق، بل يُفرض…الخراب عندنا ليس حدثًا طارئًا ولا عودةً لماضٍ ميت، بل ممارسة مستمرة، تُدار كما تُدار الجيوش: بمنطق القوة لا بمنطق العلاقة.المكان يُعاد تشكيله عبر البندقية، لا عبر العلاقات الحيّة التي يتخيّلها الفلاسفة حين يكتبون من مواقع أكثر استقرارًا.حتى استدعاء هيدغر في “دوزنة المكان” يحتاج إلى إعادة تفكير. فـ”الدوزنة” ليست ترتيبًا عمرانيًا ولا انسجامًا جماليًا، بل حالة وجودية يصبح فيها المكان متصالحًا مع حاجات الإنسان. فكيف يمكن أن تُدَوَّزَن مدينةٌ لا تعرف الليل من القصف؟كيف يمكن الحديث عن وفرة الاختيارات في فضاءٍ تحرسه الميليشيات، ويغادره الناس قبل أن يكتمل نهارهم؟هنا لا يكون العائق هو “الغواية اللغوية” أو “الوهم الأممي”، بل العائق هو السلاح نفسه… هو الذاكرة نفسها… هو الدولة التي لم تعد تعرف معنى رعاية المكان.من هنا أعود إلى سؤال يبدو لي جوهريًا: هل يحتاج المكان السوداني إلى مفاهيم جديدة، أم يحتاج إلى أن يُنقَذ؟أظن أنّ استعادة المكان – بوصفه جسدًا حيًا لا مجازًا لغويًا – هي المهمة الأولى. إذ كيف نطلب من المكان أن ينبثق بينما لم نرفع عنه الركام؟وكيف نتحدّث عن الذات المكانية وهو لم يُمنح حتى الآن حقّ الوجود، ولا حرية التنفس؟لذلك أرى أنّ ما يفتحه عبد اللطيف علي الفكي من أسئلة هو بدايةٌ مهمّة، ولكن المسار الذي يحتاجه المكان السوداني ليس ميتافيزيقيًا، بل سياسي – اجتماعي – إنساني، يتعامل مع المكان كذاكرة للبشر لا كصوتٍ للعلاقات.والسؤال الأعمق – ربما – ليس: ما هو المكان؟بل: كيف نعيد إليه القدرة على أن يكون مكانًا أصلًا؟فأيّ فكرٍ لا يمرّ بهذا السؤال… سيظل معلّقًا فوق خرائطنا، لا في قلبها.The post قراءة فيما طرحه عبد اللطيف علي الفكي… محاولة للتفكير معًا في معنى المكان وما يستبطنه appeared first on صحيفة مداميك.