د. عبد الله علي إبراهيمتنادت دوائر عربية للتضامن مع شعب السودان في أثر الإبادة الجماعية داخل الفاشر التي وصفت بها مَقاتل “الدعم السريع” في المدينة. فصدر التضامن صريحاً من دوائر سياسية ومهنية، ومن أقلام كتاب، إلى مدرجات دور الرياضة. فالمؤتمر العام للأحزاب العربية بقيادة منصف المرزوقي وصف هذه المَقاتل بأنها “تطهير عرقي” و”إبادة جماعية” وطالب بدمغ “الدعم السريع” كمنظمة إرهابية. وعبر أعضاء في اتحاد المحامين العرب عن استنكارهم لتلك المقاتل. وشق نداء جماهير الرياضة في نادي الأهلي المصري والترجي التونسي ونادي الجيش الملكي والبيضاوي المغربيين، أن “التفتوا للسودان وأغيثوا شعبه” و”كل العيون على السودان، الكل خائف وجبان”. وحتى شباب داخل غزة وعدن جهروا بالتضامن.وعلى نبل ذلك الخروج نصرة لضحايا الفاشر إلا أنه مما ينطبق عليه قولنا “ما مشحودين” (مشحوذون)، أي إنهم أهل دار فيه. فلم تخف قوات “الدعم السريع” صدورها عن عرقية العروبة منذ أنشأتها “حكومة الإنقاذ” في صورة الجنجويد ثم حرس الحدود وغيرها خلال عام 2004 لقمع الحركات المسلحة في دارفور التي انتسبت إلى “الزرقة”، أي الأفارقة. ومصطلحهم في هذه الحرب كعرب، مشين يدور حول “عبد” “وأسود” في صوره المختلفة. وهو مصطلح التهوين من الآخر تهويناً يجعله آيلاً للشطب من الدنيا كمجرد هوام. وهذا هو “الجنوسايد” تعريفاً وهو أن تقتل الآخر لمجرد أنه وجد على هذه البسيطة. فجاء ضمن فيديو لمقاتل من “الدعم السريع” قوله “ديني وإيماني تاني زول أزرق في السودان ما يقعد نهائي”. وهو ما استلهمه من قول عبدالرحيم دقلو القائد الثاني لقوات “الدعم السريع”، في الفاشر، ثلاثاً بعد احتلالها إنه لا يريد من هذه الحرب أسيراً قط. وقد كان. ولم يـتأخر مناصرو “الدعم” في العالم العربي من تزكيتهم على هويتهم العربية. فاستبشر معلق من قناة “سما” باحتلال “الدعم السريع” للفاشر بقوله إن القبائل العربية حسمت المواجهة في تلك المدينة التي استعانت فيها “الزرقة” بقبائل أفريقية ما أجدتهم شيئاً.لم تتعاف سمعة العرب في أفريقيا بعد من فظائع نفس “الدعم السريع” خلال عام 2004 ضد “الزرقة” في دارفور بإرشاد “نظام الإنقاذ”. وهي الفظائع التي وصفتها الأمم المتحدة بجريمة ضد الإنسانية، فيما قالت أميركا على لسان وزير خارجيتها آنذاك كولن باول إنها “إبادة جماعية”. وسادت عن تلك الواقعة السردية التي أذاعتها منظمة “أنقذوا دارفور” في أميركا وسائر العالم من أن النزاع في دارفور كان بين عربها وحكومتهم، وأفارقتها.وعلى حسن نية وصدق من لبوا نداء منظمة “أنقذوا دارفور”، إلا أن السردية لم تخل من دس لوبيات أميركية مسيحية وصهيونية، تمثلت الأخيرة في متحف الهولوكوست بواشنطن، أرادت النَّيل من العرب وإسلامهم. وهذا ما حدا بالأكاديمي محمود ممداني للقول إن “أنقذوا دارفور” شيطنت العرب في كتابه المرموق “منقذون ومنقذون”.ستخيم مقاتل “الدعم السريع” للزرقة في الفاشر والجنينة في أول الحرب، كسحابة شؤم على العرب وهم في حال عامة لا تسر صليحاً. ومع ذلك يصح على المواجهة الحالية ما صح على سابقتها في رأي أفضل دارسي سياسات الأعراق داخل دارفور من أن سردية “عرب ضد زرقة” قصرت الصراع على الهوية، حتى قالت الأكاديمية جولي فلنت إن “أنقذوا دارفور” نظرت إلى دارفور في سرديتها كمكان بلا تاريخ. والموضوع معقد جداً، لتحوله إلى منصة لعرض علو خلق من تضامنوا مع دارفور ومتانته. وقال ممداني إن نفس السردية خلدت استقطاب عرب وزرقة ولم تسفر عن بلوغ أي حل من أي نوع دون أن تدخل الأمم المتحدة بالفصل السابع. وحدث ذلك خلال عام 2007.ما بوسع العرب عمله لدارفور والسودان إلى جانب التضامن الذي بدأت بشائره ويحمل إمكانية أن يضع أموراً كثيرة في نصابها؟ ومن ذلك تحييد دولة الإمارات التي اصطفت مع “الدعم السريع”. ويحدث للمرة الأولى مثل هذا الاصطفاف مع طرف غير الدولة السودانية، من أي مركز عربي خلال صراعات السودان الطويلة. ولكن لا يغني هذا كله عن التواضع على استراتيجية عربية لا للعرب في السودان فحسب، بل لسائر عرب الساحل الأفريقي الذين تداخلوا مع “الدعم السريع” تداخلاً مستنكراً عبر عنه وصف بعض لهم بـ”عرب الشتات”. وهي نبذة على خليقة الارتزاق، لا اصطلاحاً، وغطت على السياسات التي ألجأتهم إلى ما ألجأتهم إليه.ومن لزوم هذه الاستراتيجية أن نسمي هؤلاء العرب باسم يعين على فهم إشكالهم حيث هم. واقترح أحدهم أن نسميهم بـ”عرب الحافة”. وأراد به العرب الذين حملتهم هجراتهم التاريخية إلى خط التماس مع شعوب أفريقية مختلفة بعرض القارة من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي. وهو الخط الذي تواضعنا على قسمة أفريقيا عنده إلى أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء. وقوله “بعرب الحافة” جاء في وجهة استشعار الخطر على وجودهم القومي في تلك البقاع، بغض النظر إن كانوا هم من جنوا على أنفسهم، أو غيرهم جنوا عليهم. وهذا الاستشعار من نذر النكبة التي قد تأخذهم كالصيحة إن لم يحسنوا إلى أنفسهم أو إلى غيرهم. فأول ضحايا هذا الجرف، كان عرب زنجبار عام 1964 الذين تعرضوا لـ”جنوسايد” (إبادة جماعية) لم يتفق للعالم الإقرار بها بعد. بينما اكتنف عرب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى ومالي ونيجريا وتشاد والجاليات اللبنانية غرب أفريقيا متاعب كثيرة مختلفة ضمن سياقات سياسات محلية وكوكبية كتأسيس الدولة القومية – الوطنية بعد الاستعمار، والذاكرة التاريخية، والحرب الباردة، والصراع العربي – الإسرائيلي، والحرب على الإرهاب، وعلاقات الجنوب بالشمال، والعولمة. ورمت بكلكلها عرب الحافة في أتون وجودي وسياسي عصيب.الأصل في مشكلة هؤلاء العرب ليس حقيقة أنهم عرب، بل حقيقة أنهم “بادية” مثل غيرهم كالفولاني والطوارق. فسكنوا بيئة جافة أحسنوا إليها بمكر الرعي الذي يستثمر بالترحل ما تجود به في أنحائها بتقطير موسماً بعد موسم. ثم ضربها جفاف الساحل المشهور منذ السبعينيات فزلزل قواعد إنتاجها التقليدي، أو ألغاه. وليست هذه آخر ضروب شقائها. فلما احتاجت للدولة التي لم تشتغل بهم من قبل، ولا اشتغلت بهم الدولة إلا كيداً كما سنرى، لم تحسن لهم بالتنمية. خلافاً لهذا عرضت عليهم استئجارهم لحرب التمرد عليها كما فعلت “الإنقاذ” بالبادية في دارفور. وهذا هو الأصل في نشأة الجنجويد، “صعاليك عرب” من فرط الفاقة، الذين هم أصل “الدعم السريع”.اقتصرت محاولة فهم محنة بادية الساحل، بما في ذلك عربها، على تصويرهم كضحايا للطبيعة وظرف مكانهم الذي أمحل. وهذا ما خرجت لنقضه مقالة علمية قسيمة بعنوان “الاقتصاد الأخلاقي للبادية: نحو فهم لثورة الجهادية في مالي”، بقلم تور بنجامينسنب وبكر با (الجغرافيا السياسية 2024). فقال إن البادية في حقيقة الأمر ضحية الحكومة الحديثة قبل أن تكون ضحية الطبيعة. فلم تر مثل هذه الحكومة في محنة البادية ما رآه أهلها لأنها انطوت على حزازة حيال حياة البداة أنفسهم. وتجد هذه الحزازة في إطلاق الدولة اسم “مالي التي بلا جدوى” على شمال جمهورية مالي التي تسكنها البادية. فحياة الترحال لا تتفق مع أداء الدولة الحديثة لأسباب أهمها أنهم، باقتصادهم البدائي، لا يستنفدون إمكانات الأرض التي يحتلونها، والتي لو وظفت في مثل الزراعة الآلية لتضاعف إنتاجها. واتفق لهذه الحكومات جميعاً أن لا صلاح في البادية إلا باستقرار أهلها واستبدال أهلها حياة غير حياتهم. وترتبت على هذه السياسة أن استباحت الحكومات مراعي البادية للمستثمرين. فمتى سمعت من البادية عبارة “المسارات” في مقام الشكوى، عنوا أن أرضاً لهم اقتطعت لمشروع زراعي حديث اعتدى على مساراتهم التقليدية. فلا كفلت الحكومات للبادية استقراراً بتنمية هيأت لها حياة بديلة ولا تركتها تأكل من خشاش مراعيها القديمة.فإذا جاءتنا هذه البادية الممحونة وجودياً إلى السودان عبر “الدعم السريع” فإنها جاءت لغيرنا في الساحل بحركات ثائرة مثل “’داعش‘ في الصحراء الكبرى” على حكوماتها، ثورة أطلق عليها الغرب اسم “الإرهاب”. فأخذت مقالة بنجامينسنب وبكر با على هذا التوصيف، اكتفاءه بالماركة الدينية بمعزل عن السياسات المحلية التي اكتنفت جور الطبيعة على البداة واستثارت عندهم حساً بالعدل راكزاً في دينهم. فقالت المقالة إن الحركات الموصوفة بالإرهابية تجذرت إلى حد كبير في التهديد الذي واجه نمط الحياة الرعوية وقواعد معاش أهلها. وختمت بالقول إن “المظالم لا العقائد المتطرفة هي التي من وراء حركات الجهاد في مالي” وغير مالي.تحتاج الاستراتيجية العربية المنتظرة أن تراجع ما سبق لها أن تواضعت عليه من تعيين السودان رسولاً إلى أفريقيا. فإذا به يتعثر في الوظيفة من يوم لآخر تعثراً فقد به ثلث أرضه وشعبه الأفريقيين المؤكدين باستقلال جنوب السودان خلال عام 2011. ورأيناه مباءة إبادة جماعية لأفارقة على يد عربه عام 2004 وفي يوم المسلمين هذا. وربما كان الخطأ في الوظيفة التي وضعت على عاتق السودان لا عليه. فقد أرادت المراكز العربية والإسلامية الجامعة منه أن يكون “ثغراً” للعربية والإسلام عند مداخل أفريقيا. فتجده استضاف لتلك المهمة خلال السبعينيات مراكز إسلامية وعربية جعلت لنشر ثقافتهما في أفريقيا. وصار من الصعب على كثير من السودانيين ممن تشربوا وظيفة الدعوة القومية العربية والإسلامية أن يوازنوا بين مهمتهم كرجال دولة مسؤولين عن جماعات وطنية متباينة الثقافات، وبين مهمتهم كدعاة دعوة مخصوصة. فبينما كان واجبهم أن ينهضوا رعاة في وطنهم صاروا دعاة وكالة عن تلك المراكز. ولا أحسنوا في هذي ولا تلك كما رأينا من الحصاد النكد للعلاقات العرقية في السودان. ولا أعرف من حالفه السداد في نقد عقلية الوكالة عن العرب في السودان مثل الزعيم الجنوبي جون قرنق. فاستنكر يوماً أن يهرع ساسة السودان إلى محافل العرب يقولون إن العروبة والإسلام في خطر كلما تقاتل معهم. وزاد بأنه لا يمانع لو قالوا، السودان في خطر، فما العروبة والإسلام إلا بعض مفردات السودان القيمة. ولا أعرف من أمسك بزمام هذا المعنى أخيراً مثل الكاتب جاسم الجزاع الذي استنكر التعامل “مع السودان بوصفها غنيمة لا منظومة عربية تحتاج إلى الاستقرار”.The post نحو استراتيجية عربية لعرب الحافة الأفريقية appeared first on صحيفة مداميك.