عمار الباقرتداولت وسائط التواصل الاجتماعي، وبكثافة شديدة، مقطعاً لنائب رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي في تحالف صمود، أثناء لقائه مع مذيعة قناة سكاي نيوز بتاريخ 12 نوفمبر 2025م. في هذا اللقاء تلعثم الباشمهندس خالد عمر يوسف، الملقب بـ”خالد سلك”، قليلاً حينما قاطعته مذيعة القناة بطريقة غير احترافية قطعت حبل أفكاره وهو يتحدث، وسألته مباشرة عن محمد حمدان دقلو.انتابني إحساس غير مريح من مستوى التسطيح والابتذال الذي تم به تداول المقطع، ومن الكثافة غير الطبيعية التي جرى بها نشره. ثم حدثني من أثق في دقة رصدهم بأن لهذه الحملة مصدرين: غرف إعلامية تابعة لعناصر الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، وبعض الناشطين الطامحين لتبوؤ موقع الوكيل الذي يشغله المهندس خالد سلك ورفاقه لدى قوى الهيمنة الإقليمية والدولية عبر رافعة الجيش وما يسمى بـ”الحرب الوجودية”، والذين اصطلحنا على تسميتهم بـ”نجوم الهبوط الناعم الجدد”.بعد ذلك رجعت إلى اللقاء كاملاً على منصة يوتيوب، ووجدت فيه ما أثار دهشتي واهتمامي معاً. فقبل أقل من دقيقتين من المقطع المتداول، أدلى الباشمهندس خالد سلك بتصريح هو ـ في تقديري ـ الأخطر طيلة مسيرته السياسية، وأراه شخصياً انعطافاً كبيراً في تصوراته الفكرية والسياسية، التي لطالما اتسمت بقدرٍ من البراغماتية والنزعة الفردية وقلة الثقة في العمل الجماعي. فقد صرح الرجل ولأول مرة نصاً:“نحن والله نعتمد أولاً وأخيراً على شعبنا.”ثم استرسل متحدثاً عن ثورة ديسمبر العظيمة التي شارك فيها غالبية الشعب السوداني.هذا زعم كبير وجديد، والسؤال المهم هنا:هل تغيرت مواقف الرجل من العامل الخارجي، وبات أكثر انفتاحاً على العمل القاعدي وسط جماهير الشعب السوداني في الداخل؟ أيضاً نجد أن هذا التصريح يتناقض تماماً مع ما قاله في مناظرة شهيرة عام 2020م، ولم يتراجع عن هذا القول حتى اللحظة، حين أنكر وجود ما يسمى “الجماهير”، واعتبرها مجرد “مجموعات مصالح”.يبرز هنا سؤال مشروع:هل تراجع الرجل عن مواقفه السابقة بما يشكل قطيعة مع المدرسة الفكرية والسياسية التي يتبناها؟ أم أنه مجرد خطاب سياسي تقتضيه ظروف اللحظة؟وهل يمثل هذا التصريح توجهاً سياسياً جديداً وأكثر انفتاحاً تجاه العمل الجماهيري وسط مختلف قطاعات الشعب السوداني بالداخل؟ أم أنه جزء من لعبة السياسة وتكتيكاتها؟في تقديري المتواضع، هذا هو لبّ اللقاء وما يستحق فعلاً النقاش والتداول، فهو ما يحدد موقفنا من الرجل ومن حزبه ومن تحالفاته سواء كانت “صمود” أو غيرها. أما الاحتفاء السطحي والتندر بلحظة تلعثم سببته مقاطعة عابرة من مذيعة، فهو في رأيي ضرب من التسطيح والابتذال المضر ببيئة العمل السياسي ، وهو فعل مضر بالعمل بطريقة التعاطي مع القضايا الوطنية وبمظهرنا أمام شعبنا والعالم.إن موقفنا من الرجل ورفاقه في قوى اليمين بشقيه التقليدي والليبرالي، ليس موقفاً صمدياً نابعا من خصومة شخصية أو عدم استلطاف، بل هو موقف من الممارسة السياسية السالبة لهذه القوى التي ظلت قليلة الثقة في شعبها، بل ودرجت على التخلي عنه في أحلك اللحظات لتلقي بكل بيضها في سلة القوى الدولية والإقليمية لتحل لها مشكلاتها وتصفّي لها خصوماتها بالإنابة عنها وعن شعب السودان.ويعلم الجميع أولئك الذين تجنح ممارستهم السياسية للعنف الجسدي واللفظي، وأولئك الذين ظلوا يسعون إلى عسكرة السياسة في السودان ومصادرة الفكر والمنطق داخلها، حتى فجروا البلاد والساحة السياسية، وارتدت عليهم دائرة العنف فاسودّت وجوههم بما اقترفت أيديهم.في المقابل، ظلّ الشيوعيون السودانيون وأصدقاؤهم من القوى الديمقراطية والثورية، عبر تاريخهم الطويل، يرفعون من مستوى الممارسة السياسية ويربطونها بالفكر والثقافة. وقد ظلوا يتخيرون أسلوب الحوار الهادئ والبنّاء لشرح مواقفهم وتنوير الجماهير بها، ولا يتسامحون مع الابتذال والتهريج في السياسة، حتى في أحلك المواقف.لنتذكر معاً كيف انتهر الشهيد عبد الخالق محجوب جلاديه في المحكمة التي عقدها له السفاح نميري عام 1971م، حين حاول بعض أعضاء المحكمة الاستهزاء بالحزب وتحويل المحكمة إلى ساحة للتهريج. فالسياسة نشاط محترم وجدّي، حتى وإن كان ذلك على بُعد خطوات من أعواد المشانق.ويتداعى إلى الذهن تعليق سكرتير حزبنا الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد في موقف مشابه، حين قال:“نظّفوا ساحة السياسة من الحسكنيت والضريسة لنتصارع فيها صراع نوبة؛ صراعاً ملؤه الفكر والثقافة والمواقف النزيهة والمتجردة.”وذلك ما أكسب حزبنا والقوى الثورية في بلادنا احترام الشعب، واحترام الخصوم قبل الأصدقاء.إن ما جرى في هذا اللقاء، وما صاحبه من تندر وتعامل سطحي، يكشف عمق الأزمة التي نحن في حاجة إلى التصدي لها. فبدلاً من الانشغال بالفكرة والموقف والمسار السياسي، ينصرف الكثيرون منا إلى لقطات مقتطعة لا تبني وعياً ولا تقود نقاشاً. إن معركتنا الحقيقية اليوم هي معركة وعي وخطاب وممارسة سياسية راشدة تعيد الاعتبار للجماهير وللنقاش الجاد، وللسياسة بوصفها عملاً أخلاقياً قبل أن تكون صراعاً على النفوذ.دعونا نردّ الأمر إلى الشعب السوداني، برفع رايات العمل السياسي القاعدي والتوجّه نحو الداخل، والارتفاع بمستوى عرض القضايا والخيارات أمام شعبنا. فلن ينهض هذا البلد إلا حين نرتقي بأدواتنا في النقد، ونوجّه اهتمامنا إلى الأفكار لا إلى العثرات، وإلى المواقف لا إلى اللحظات العارضة. فالأوطان لا تُبنى بالتهييج ولا بالسخرية، وإنما بالفكر والعمل والنقد المسؤول.The post السياسة بين الجد والهزل: دفاعاً عن بيئة العمل السياسي ورفضاً للتسطيح والابتذال appeared first on صحيفة مداميك.