*بروفيسور: مكي مدني الشبلي المقالات الاقتصادية الثمانية التَدَبٌّر المُبَكِّر رغم أن الخطاب العام في السودان والمجتمع الدولي ينشغل إلى حدٍّ كبير بالبحث عن وقفٍ لإطلاق النار وسبل إسكات البنادق. غير أن إخماد صوت السلاح، على ضرورته القصوى، لن يكون كافياً لبناء سلامٍ مستدام ما لم يُقترَن بقدرة البلاد على إعادة تأسيس اقتصادٍ مدني فاعل ودولةٍ اجتماعية قادرة على تحقيق العدالة وتوفير سبل العيش والأمل للمواطنين. وفي هذا الأفق الأوسع، تأتي هذه السلسلة من المقالات الاقتصادية لتقدِّم إسهاماً فكرياً مرتباً زمنياً ليأخذ حيّزاً جوهريّاً في الحوار المدني الموازي للتفاوض العسكري الذي ينبغي أن يواكب، بل يوجّه، المسار العسكري والسياسي الجاري حالياً.وتنطلق هذه السلسلة من المقالات من حقيقة أن خيارات السودان الاقتصادية في المرحلة الانتقالية القادمة لا يجوز أن تُختزَل في شعاراتٍ تبسيطية من نوع ”الاعتماد على الذات“، وهي شعاراتٌ تَضاعَف فقدان موثوقيتها بعد الدمار الشامل الذي ألحقته حرب أبريل 2023 ببنية الدولة والاقتصاد معاً. فـ”الذات“ التي يُزعَم الاعتماد عليها قد استُنزِفت تماماً بفعل الخراب وفقدان رأس المال الإنتاجي والمؤسسي. الأمر الذي يجعل من إعادة الانخراط الاستراتيجي مع المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، خياراً عقلانياً لا تعبيراً عن تبعية، بل عن إرادة بقاء جماعية ورغبة في إعادة البناء.ومن هذا المُنطلَق، تتجاوز أهمية هذه المقالات الثمانية البُعد الاقتصادي البحت، لتسهم في تأسيس حوار مدني فكري حول إعادة الإعمار والتنمية، يُعيد تعريف علاقة السودان بالمؤسسات الدولية على أساس الشراكة السيادية لا العزلة ولا التبعية. وتتمثل رسالتها الجوهرية في أن طريق التعافي لن يُشقّ عبر ساحات القتال ولا شاشات الفضائيات، بل عبر عقدٍ اجتماعي واقتصادي جديد يزاوج بين الواقعية المالية والعدالة الاجتماعية، ويحوّل التعاون الدولي إلى أداةٍ لبناء الدولة لا إلى وسيلةٍ للوصاية عليها. وعليه فإنه لمن غير اللائق بعد الحرب المدمرة اجترار الجدل القديم الذي لازم المؤتمر الاقتصادي الأول في سبتمبر 2020 وأضاع عاماً كاملاً عطّل التوافق على نهج واقعي لإدارة الاقتصاد السوداني.حين استعادت البلاد أنفاسها بعد انتفاضة أبريل 1985، بدا السودان وكأنه يقف على أعتاب نهضة وطنية جديدة. فقد أطاحت الجماهير بأحد أطول الأنظمة السلطوية في إفريقيا، ورفعت شعاراتٍ عميقة الدلالة: الخبز، الحرية، والعدالة الاجتماعية.لكن ما بين الأمل الشعبي الكبير والواقع الاقتصادي المرير، تَكشّف سريعًا أن الديمقراطية وحدها لا تكفي لإنقاذ اقتصادٍ أنهكته الحروب وسوء الإدارة والتبعية البنيوية للخارج.إرث ثقيل واقتصاد مترنّحورثت حكومة السيد الصادق المهدي وضعاً اقتصادياً شبه منهار: دين خارجي تجاوز 10 مليارات دولار، تضخم يقارب 40%، عجز في الموازنة العامة، وانهيار في البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية التي كانت تمثّل العمود الفقري للاقتصاد الوطني. وكان على الحكومة أن تختار بين خيارين كلاهما قاسٍ: إما الالتزام ببرنامجٍ صارم من التقشف وفق شروط صندوق النقد الدولي لإعادة جدولة الديون، أو تبنّي نهجٍ وطني قائم على تعبئة الموارد الداخلية في ظلّ ضعف الإيرادات وغياب الاستقرار المؤسسي.وفي ظلّ مناخٍ سياسي مضطرب، لم تستطع الحكومة أن تمضي بثبات في أيٍّ من الاتجاهين. فالمجتمع كان يطالب بتحسين المعيشة لا بمزيدٍ من التقشف، بينما كانت المؤسسات الدولية تشترط إجراءات مؤلمة قبل تقديم أي دعم.البرلمان مرآة الانقسام لا منصة القرارتحوّل البرلمان المنتخب إلى ساحة لتصفية الحسابات أكثر منه أداةً لصنع القرار الوطني.حزب الأمة تبنّى موقفًا وسطًا يدعو إلى قبولٍ مشروطٍ بالإصلاح مع حماية الفقراء.الاتحادي الديمقراطي رأى أن التعاون الكامل مع المؤسسات الدولية سيعيد الثقة والاستثمارات.الحزب الشيوعي رفض سياسات الصندوق باعتبارها ”إملاءات استعمارية جديدة.“أما الجبهة الإسلامية القومية فقد رأت في فشل الحكومة فرصةً ذهبية لتقويض الديمقراطية نفسها عن طريق الإضرابات والمظاهرات غير المشروعة، مروّجة لخطاب ”البديل الإسلامي للاقتصاد“.وهكذا أصبح النقاش الاقتصادي غارقاً في الاستقطاب الأيديولوجي بدل أن يكون ميداناً لتوليد إجماع وطني حول أولويات الإصلاح. ولم تنجح الحكومة في تمرير أي حزمة إصلاحية متكاملة، إذ كانت كل خطوة نحو التقشف تُقابل بموجة رفض من الشارع، وكل محاولة للحفاظ على الدعم تُواجه بضغطٍ من الدائنين.الإدارة المنقسمة… والشلل المؤسسيداخل الجهاز التنفيذي نفسه، افتقدت حكومة المهدي إلى التناغم بين وزارات المالية والتخطيط والتجارة، فكانت السياسات تتبدّل بتبدّل الوزراء والائتلافات الحزبية. لم يكن هناك برنامج اقتصادي وطني واضح المعالم، بل قرارات متقطّعة لا يربطها إطار مؤسسي جامع. كما تردّد رئيس الوزراء نفسه بين مطلب العدالة الاجتماعية وضغط الشركاء الخارجيين، وهو ما جعل الحكومة تبدو عاجزة أمام شعبها ومترددة أمام المجتمع الدولي.الأثر الاجتماعي: اقتصاد بلا سند شعبيدفع المواطن السوداني الثمن الأكبر. فقد استمر تدهور الأجور والقدرة الشرائية، وارتفعت أسعار الخبز والوقود، وازدادت البطالة في المدن والأرياف على السواء. وفي غياب شبكات حماية اجتماعية فاعلة، أخذت الطبقة الوسطى في الانكماش لصالح اقتصاد المعيشة اليومية، ما أضعف قاعدة الدعم المدني للديمقراطية الناشئة. كما فشلت الحكومة في ترجمة خطاب ”العدالة الاجتماعية“ إلى سياسات واقعية، فبدا الإصلاح المالي وكأنه إجراء فوقي لصالح الخارج لا المواطن.من الانقسام إلى الانهيارلم يكن سقوط النظام الديمقراطي في يونيو 1989 حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة منطقية لمسارٍ طويل من الشلل السياسي والانهيار الاقتصادي.ففي غياب الرؤية المشتركة، أصبح الانقلاب العسكري يبدو للبعض ”حسمًا للفوضى“ لا تقويضاً للديمقراطية. وهكذا مهد الانقسام الحزبي الطريق أمام تحالف الإسلاميين والعسكريين الذين قدموا أنفسهم كبديلٍ منضبط قادرٍ على ”إنقاذ الوطن“.الخاتمة: دروس مرحلةٍ ضيّعت فرصة الإصلاحتُظهر تجربة الديمقراطية الثالثة أن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يستمر من دون قاعدة اقتصادية متينة. فالإصلاح الاقتصادي، كي ينجح، يحتاج إلى عقد اجتماعي واضح يوزّع التكاليف بعدالة، وإلى إجماع سياسي يضمن الاستمرارية.لقد سقطت الديمقراطية الثالثة ليس لأنها تعاونت مع صندوق النقد الدولي أو رفضته، بل لأنها لم تنجح في إدارة خلافها الداخلي حول طبيعة الإصلاح نفسه. ففي النهاية، كانت تلك المرحلة بمثابة تحذير مبكر لما سيأتي بعدها: أن انهيار الثقة بين النخب والمجتمع هو أخطر ما يهدد أي تجربة ديمقراطية.لم تسقط الديمقراطية الثالثة لأن الاقتصاد فشل، بل فشل الاقتصاد لأن الديمقراطية الثالثة لم تجد من يحميها من انقلاب الإسلاميين.___________________________________________*المدير التنفيذي لمركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post الاقْتِصَادُ والسِيَاسَةُ فِي الدِيْمُقرَاطِيَّةِ الثَالِثَةِ: عِندمَا سَقَطَ الإصْلَاحُ فِي فَخِّ الإسْلَامِييْن appeared first on صحيفة مداميك.