تمزق الذات وتشظي المكان

Wait 5 sec.

فتحي عثمانتتميز كتابة عبد اللطيف علي الفكي بالصعوبة وكثافة التركيب والدلالة، ولا ينحل عسرها إلاّ بعد القراءة الثانية أو الثالثة. الفكي رغم أنه يعيش ويعمل في وسط أكاديمي أنجلو ساكسوني إلا أن كتابته تعكس أداء ولغة الفلسفة الألمانية القارية خاصة عند هايدغر، والذي يصف عبد الغفار مكاوي لغته في مقدمة ترجمة كتابه “نداء الحقيقة” بالصعوبة حتى عند القراء الألمان أنفسهم. والسبب في ذلك يعود إلى صعوبة المواضيع التي يعالجها هايدغر وهي متعلقة بالميتافيزيقا أساساُ، وهو أمر يتطلب منه – حسب ما يشير مكاوي- جهداً في سك المفردات والمفاهيم الجديدة، ويؤكد مكاوي أن مغالبة ومكابدة لغة هايدغر تعود بمتعة وفائدة وفيرة، وكذلك هي كتابات الفكي، ومقاله الأخير بعنوان: “الذات المكانية وتطوير المكان”.والذي تصدى له بالتعقيب صديقنا إبراهيم برسي، صاحب الأسلوب التفكيكي والقدرة المدهشة على كشف الدلالات الغائرة، وجر حبالها من الأوتاد القاصية وجمعها في عقدة مفهومية متينة الربط، لا تنفصم عراها، وتضيف متعة وفائدة جمة. وهو بذلك يشبه الناقد فالتر بنيامين، وإن كانت كتابة برسي أكثر وضوحاً ومباشرة من كتابة بنيامين السريالية.وبقدر ما يحلّق مقال الفكي في الميتافيزيقا بتقصي علاقة الذات بالمكان، يعيد برسي الجدل إلى حيز “المُعاش”؛ حيث تدور معركة الإنسان بأفكار، وأحياناً بدونها، متجاوزة “ما وراء” المُعاش، حيث أن الوجود لا يتعدى المسافة الزمنية بين المهد واللحد، وأن الوجود الأخروي شأن آخر رغم الإيمان به.بين هذين المقالين وجدت نفسي منجراً إلى الإدلاء برأي آملاً أن يضيف إلى العدستين اللتين يرى من خلالهما الفكي وبرسي موقع الذات في المكان. وافتراضي الابتدائي هو أن الذات – أو ذواتنا – بتحديد أدق مكسورة كسراً لا ينجبر صدعه بين البلد والوطن، فكيف ذلك؟البلد مربط خيول الحنين:في العام الافتراضي 1805 سمع الشنقيطي ساكن الضفة الغربية لمقرن النيلين بمرض أمه وعزم على شد الرحال لرؤيتها في فراش مرضها. أسرج الرجل دابته وحمل زاده متوجهاً إلى بلاد شنقيط (موريتانيا اليوم)، وسار في رحلته متجاوزاً بلاد فزّان وأخر ديار المغرب. يصحبه في رحلته الحنين: الحنين إلى “خبز أمه”، وقرع الدفوف في الأفراح وحتى عواء الكلاب والذئاب خارج خيم الطفولة. وتتوزع ذات الشنقيطي هذا بين “مكان” يسكنه ومكان آخر شب فيه وترعرع، والمكانان بلدان.فالبلد ناس وأطيان ومساكن وهؤلاء الناس ينصبون الحدث شاهداً ودالاً على زمانهم. فالتقويم عندهم هو سنة التسّاب وسنة الكتلة (المقتلة) وسنة دخول الترك والخواجات. والتضامن في الإنتاج أهم أدواتهم في تعظيم المكاسب الاقتصادية عبر “الحصاد الجماعي”، وحاضرتهم القرية، وزعيمهم العمدة ومفتيهم وقاضيهم الشيخ والحدود عندهم، إن وجدت، لا تحتاج إلى وثائق لعبورها؛ لأن الخطوط الأفقية لم تتحول بعد إلى حواجز وموانع.ورحلة الشنقيطي، في مثالنا، لا تشق أوطاناً، بل بلداناً. وتكوين أوطاننا الحالية في العادة هو من خمسين إلى ثمانين بالمئة من هذه البلدان.ونحن إن كنا اليوم نعيش في مدن، فإن سمات هذه المدن هي سمات حواضر البلدان، من تكوين وجداني، وولاء، وحنين حتى الحب والكراهية عندنا تحمل سمات البلدان وإن أخذت صفات الأوطان.الجغرافيا ومولد خطوط المكان السياسية:تدور أزمتنا الراهنة حول أس غائر يتمثل في “إشكال الانتقال من البلاد إلى الوطن”؛ ذلك الانتقال يفرض تحوّلاً ليس في شكل المكان فحسب، بل ساكن المكان نفسه: وجدانه، وعلاقاته، وكينونته. وهذا ما يلتقطه كلا من الفكي وبرسي كل من منظوره.ولو استعرنا أدوات أفلام الخيال العلمي وتصورنا أسطوانة مشابهة للمصاعد يسقط عليها ضوء أحمر من أعلى يدخلها المرء، فيصب عليه ضوء أخضر ثم فجأة يجد نفسه في مكان وزمان آخرين، ومثل “تجربة المخ في البرطمانية” الشهيرة، نسأل هل شمل هذا الانتقال في الزمان والمكان فكر وشعور ووجدان هذا المسافر الذي انتقل – افتراضاً- من القرن الحالي إلى القرن الثلاثين.لسنا بحاجة إلى هذه التجربة الافتراضية لوضع تمزقنا في الانتقال من البلد إلى الوطن تحت المجهر والمعاينة.فالإنسان الأول الذي وضع يده على أرض خالية هاتفاً: “هذه أرضي” لم يكن بهتافه المسرور يعلن بدء مفهوم “المِلكية” فقط، بل كان يبدأ الجغرافيا التي “تحدد” هذه المِلكية. فهنا شهد المكان أول تحول من المشاع “تيرا ريس نوليوس” حسب المصطلح اللاتيني، إلى “الحيازة” التي تقوم الجغرافيا برسم خطوطها وفقاً لمفهومي “الجمع والمنع”. الجمع: لما تحتويه الأرض وما تحت الثرى، والمنع: ما يمنع الآخرين من التعدي أو مشاركته الاستحواذ. ولكأن هذه العملية في آليتها وجغرافيتها استوفت شروط التعريف العلمي “المانع الجامع”، فأصبحت مِلكاً موسوماً بخطوط الجغرافية لزيد من الناس.في الاقطاعيات والدول القومية اللاحقة كان “الاتساع” في المكان ووضع خطوط وحواصر الجمع والمنع بوضع اليد والتملك هو أساس “تحديد المكان السياسي”. فعندما وصل الطليان إلى الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر في عام 1869 قاموا بشراء قطعة أرض على الساحل لتكون “محطة” للتزود بالفحم والإمدادات وصيانة السفن العابرة. هذه “المحطة” في المكان رُفع عليها العلم الإيطالي، ومُورس فيها عملياً مفهوم الجمع والمنع تحت مسمى السيادة، وأصبحت هذه المحطة نواة للمستعمرة الجديدة وأصبحت المستعمرة نواة الوطن اللاحق.فعندما بدأت الجغرافيا في رسم الأوطان وحدودها كانت مثل “بوكمون” تبتلع البلدان ابتلاعاً؛ ربما لصالح سكان آخرين من القادمين من وراء البحار أو من الراحلين من البلد على الوطن. لذلك كان تحديد الخطوط أفقياً (يرسم حائطاً معنوياً) ويحتاج إلى جوّاز عبور، والاسم من الفعل (جاز) أي عبر، كما نقول جاز الصراط. والعبور هذا لا يتم على طول الخط المرسوم، بل عند “نقطة” محددة في الساحل أو البر تسمى “ميناء”، ومن هنا جاءت تسمية الوثيقة باس/بورت، ولذلك كانت ترجمة الميناء الجوي محايثة للمفهوم أكثر من ترجمة مطار التي تعبر عن إقلاع الطائرات، مع ورود تساؤل لماذا لا يسمى “المهبط” بدلاً من المطار؟إذن لن يكون الشنقيطي قادراً بعد 2005 على السفر عبر نفس البلدان، بل عليه ان يسافر عبر “أوطان” وعليه كذلك أن يمتلك الوثائق العابرة للخطوط الجغرافية والتي تعينه على جوّاز الموانئ البرية والجوية.وفي انتقال إشكالي في جوهره ومخبره وجد سكان البلد أنهم من “جنسية” لا من قبيلة، وتحول العمدة إلى رئيس، والشيخ إلى مفتي، وتحول اقتصاد التضامن إلى “سوق عمل” وأصبح سكان البلد بحاجة إلى حراس لأمن الداخل وحراس من أعداء الخارج، وإلى علم وشارات ولغة تدعم خطوط المكان، الذي تحول فيه البلد عبر أسطوانة السفر في الزمان إلى مدينة.بما أن هذه، الرحلة من البلد إلى الوطن، غالباً ما تعمد بالدم، أصبح نسيج الذات ممزقاً ومشتتاً بين مكانين والشاهد هو تجليات ونتائج هذه الرحلة.وبين الذات المكانية وتطوير المكان عند عبد اللطيف علي الفكي وتعقيب إبراهيم برسي بتركيز الإشكال في علاقات الذوات في المكان وتشكله الأساسي يقع هذا المقال الذي يحيل الإشكال إلى بناء الأوطان على أنقاض البلدان بما يخلق تمزق للذات وتشظي للمكان تتجلى مظاهره في الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة بكل تبدياتها.The post تمزق الذات وتشظي المكان appeared first on صحيفة مداميك.