إعلان كوكادام واتفاقية الميرغني-قرنق: دروسٌ للمبادرةِ الرباعية لتفادي تفكيك ما تبقّى من السودان (4 -5)

Wait 5 sec.

*د. سلمان محمد أحمد سلمان1ناقشنا في المقال الأول من هذه السلسلة من المقالات نجاح انتفاضة أبريل عام 1985 في إسقاط نظام نميري، وقيام الحكومة الانتقالية بشقيها – المجلس العسكري الانتقالي برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، ومجلس الوزراء الذي ترأسه الدكتور الجزولي دفع الله. كما نقل ذلك المقال الصورة المرتبكة التي تواصلت بها الحكومة الجديدة مع قيادة الحركة الشعبية لمناقشة قضية الجنوب.ناقش المقال الثاني نجاح تلك الاتصالات بعد تولي التجمع الوطني لإنقاذ الوطن أمرها، والتوصّل إلى إعلان كوكا دام في 22 مارس 1986 بين التجمع الوطني والحركة الشعبيىة. كما ناقش المقال بنود الإعلان والتي انبنت على عقد مؤتمرٍ دستوري ليؤسّس لبناء السودان الجديد، وتضمّنت الشروط المسبقة التي تمهّد وتساعد على خلق الجو الملائم لعقد المؤتمر الدستوري، والتي شملت رفع حالة الطوارئ، وإلغاء قوانين سبتمبر 1983 وكل القوانين المقيّدة للحريات.تعرّض المقال الثالث بقدرٍ من التفصيل لخطط الحركة الإسلامية لإفشال لقاء وإعلان كوكا دام، ونجاحها في ضمِّ الحزب الاتحادي الديمقراطي، ومن بعده حزب الأمة، إلى صفّها. تعرّض المقال إلى الانتخابات التي جرت بعد عامٍ من نجاح الانتفاضة واستلام السيد الصادق المهدي لرئاسة الوزارة، وإلى اللقاء الفاشل بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق. ناقش المقال بعد ذلك التطوّرات التي أدتْ إلى نجاح هذه المجموعة في وأد إعلان كوكا دام، وتقوية التحالف بين الإسلاميين وحزب الأمة، ودخول الإسلاميين الوزارة مع حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي (الحكومة الثالثة للسيد الصادق المهدي في تلك الفترة.)غير أن ميلاد وتمدّد تحالف حزب الأمة والإسلاميين قاد بدوره إلى تطوراتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ أدّت إلى إعادةِ تركيبة موازين القوى واستراتيجيتها لمواجهة هذا التحالف. وفيما يختص بقضية الجنوب فقد قادت تلك التطورات إلى بعث إعلان كوكا دام مُعدّلاً تحت مسمى اتفاقية الميرغني قرنق، كما سنناقش في هذا المقال.2جاءت مبادرة السلام السودانية بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية كنتيجةٍ لعوامل داخلية وخارجية معقّدة ومتشابكة. فكما ذكرنا من قبل، لم يشارك الحزب الاتحادي الديمقراطي في لقاء كوكا دام، ولم يؤيد أو يصادق على إعلان كوكا دام، بل لاذ بالصمت في سلبيةٍ واضحة، وترك معركة معارضة إعلان كوكا دام لحزب الأمة، وللجبهة القومية الإسلامية وإمكانياتها الإعلامية الضخمة. بل إنه من الضروري إضافة أن تلك الهجمة الإعلامية الهائلة والشرسة من الجبهة القومية الإسلامية هي التي أرعبت قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي وجعلت الحزب يلزم الصمت تجاه كوكا دام ومقرراتها، خصوصاً في مسألة إلغاء قوانين سبتمبر.من الناحية الأخرى كان السيد الصادق المهدي يتذرّع برفضه لإعلان كوكا دام بالادعاء المتواصل أن حليفه في الائتلاف الحكومي، الحزب الاتحادي الديمقراطي، لا يؤيد اتفاق كوكا دام، وأنه لا يستطيع التحرّك في اتجاه كوكا دام بدون هذا الحزب الحليف. وكما ذكرنا في المقال السابق فقد كان هذا التذرّع مصدر دهشة وسخرية المراقبين. فقد التقى الدكتور جون قرنق بالسيد الصادق المهدي بوصفه رئيساً لحزب الأمة، وليس بوصفه رئيساً للوزراء.من هنا ثارت التساؤلات حول الأسباب التي دفعت بالحزب الاتحادي الديمقراطي، فجأةً وبلا مقدمات، إلى التغيّر مائةٍ وثمانين درجة، وإلى السعي وتوقيع مبادرة السلام السودانية مع الحركة الشعبية في 16 نوفمبر عام 1988، رغم موقفه السلبي لمدة أكثر من عامين من إعلان كوكا دام.3يعتقد الكثيرون أن مصر بحكم علاقتها الوطيدة بالحزب الاتحادي الديمقراطي هي التي دفعت بالحزب في اتجاه ذلك التغيير. فقد سدّدت الحركة الشعبية ضربةً موجعةً إلى آمال مصر في زيادة مياه النيل، وانسياب تلك الإضافات من المياه كاملةً إلى مصر، بهجومها الناجح على قناة جونقلي في فبراير عام 1984. وقد أوقف ذلك الهجومُ العملَ في القناة التي كانت قد أوشكت على الاكتمال. كما أوقف العملَ في الدراسات الخاصة بقناة جونقلي الثانية التي كان سيبدأ العمل قيها بعد اكتمال القناة الأولى. وظلّ الحفار الضخم والمُكلّف، والذي سيصعب نقله أو صنع مثيله، يتآكل تحت وقع الأمطار الاستوائية وحرارة الصيف، ويغمره الصدى والتراب كل يومٍ يمر.كانت مصر تأمل أن تعود الشركة الفرنسية لتكمل القناة بعد أسابيع، أو شهور على الأكثر، من مغادرتها جنوب السودان في شهر فبراير عام 1984. غير أنه وضح لمصر أن الحركة الشعبية، بقوتها العسكرية الهائلة، ومعرفتها الدقيقة بمداخل ومخارج غابات الجنوب الاستوائية ومستنقعاته الضخمة، لن تسمح بعودة الشركة وإكمال القناة، وأن المسألة تحتاج إلى مفاوضاتٍ واتفاقٍ جديد مع الحركة الشعبية، وليس مع حكومة الخرطوم التي خرج الأمر من يديها تماماً. عليه فقد خلصت مصر إلى أنه بدون السلام في جنوب السودان فلا مستقبل لبرامجها وطموحاتها المائية في جنوب السودان.4وقد كانت الحرب الأهلية الأولى من عام 1955 وحتى عام 1972 السببَ الرئيسي لعدم البدء في حفر قناة جونقلي التي كان الطرفان قد اتفقا على المبادئ والخطط الأساسية المتعلّقة بها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959.لا بد من إضافة أن الدكتور جون قرنق قد كتب رسالة الدكتوراه عن تنمية منطقة جونقلي وعن القناة المقترحة، لذا لم يكن مستغرباً أن تكون قناة جونقلي، مع مواقع النفط، أول هدفين عسكريين للحركة الشعبية في حرب الجنوب. وقد تم لها ذلك بنجاحٍ كامل كما ذكرنا أعلاه.وقد خلصت مصر أيضاً إلى أن التدهور الاقتصادي والسياسي الذي يواجهه السودان، والذي سيؤثّر لا محالة عليها، وعلى كافة مصالحها في السودان، سببه الرئيسي هو الحرب الدائرة في جنوب السودان. وكانت الحركة الشعبية قد نجحت أيضاً في ضرب مواقع النفط في الجنوب بعد أن بدأت شركة شيفرون العمل في إنتاجه. وقد تم ذلك في نفس الوقت الذي نجحت فيه الحركة في ضرب موقع قناة جونقلي .5لا بد من إضافة أن التحالف الجديد والمتنامي بين الحركة الإسلامية وحزب الأمة كان مصدر قلقٍ جديدٍ وكبيرٍ لمصر ولمصالحها السياسية والاقتصادية في السودان، خصوصاً وأن طرفي التحالف لهما عداءات تاريخية مع مصر. عليه فقد رأت مصر ضرورة مواجهة هذا التحالف بخلق تحالفٍ موازٍ ومضادٍ يجمع بين حليفها، الحزب الاتحادي الديمقراطي، والحركة الشعبية لتحرير السودان، لمواجهة تحالف حزب الأمة والإسلاميين، ولتقوية وجودها وحماية مصالحها في السودان.وكان الحزب الاتحادي الديمقراطي نفسه قد أصابه قلقٌ كبيرٌ بسبب التقارب الذي كان يزداد يوماً بعد يوم بين حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية. فالتنظيمان يجمعهما العداء المحكم للحركة الشعبية، إضافةً إلى العلاقة الدينية والتاريخية والسياسية، وكذلك الروابط الأسريّة. وقد وضح للحزب الاتحادي الديمقراطي أن حزب الأمة قد وجد حليفاً جديداً مكانه، وأن على الحزب إعادة حساباته على ضوء هذه التطورات.وقد تأكد ذلك التحالف وبرزت قوته عندما قام السيد الصادق المهدي بإشراك الجبهة القومية الإسلامية، مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، في الحكومة الثالثة التي شكلها في شهر مايو عام 1988. وقد أكدت وزادت تلك الخطوة من شكوك الحزب الاتحادي الديمقراطي أن حزب الأمة يسعى إلى خلق حلفٍ مع حليفٍ جديدٍ بديلا له.6وكما ذكرنا من قبل فقد كان الغرض من إشراك الإسلاميين في تلك الحكومة هو وقف النقد القوي والجارح والمظاهرات الصاخبة المنتظمة التي كان ينظمها الإسلاميون ضد حكومة السيد الصادق المهدي بهدف إضعافها ثم إسقاطها من خلال الانقلاب العسكري الذي كان الإسلاميون يخططون له.لهذه الأسباب فقد حرّكت مصر حليفها التاريخي في السودان، الحزب الاتحادي الديمقراطي، في اتجاه لقاء الدكتور جون قرنق في محاولة للوصول لاتفاق سلامٍ معه، ولتحالفٍ يقود ويطبّق الاتفاق، ويحمي وينمّي مصالح مصر في السودان.7من الجانب الآخر، فقد كانت الحركة الشعبية في حاجةٍ كبيرة إلى قناة اتصالٍ تعيد ارتباطها بالشعب السوداني بعد أن تفرّق التجمّع الوطني لإنقاذ الوطن، وتشتّت بعد شهور من انتفاضة أبريل عام 1985، وفشل في تفعيل إعلان كوكا دام رغم كل التأييد الذي لقيه الإعلان من جماهير الشعب السوداني في الشمال والجنوب. وقد ساهمت انتخابات أبريل 1986 في نهاية ما تبقّى للتجمع من دورٍ في الحياة السياسية.8إضافةً إلى هذا فإن إثيوبيا كانت محتاجةً لحلٍّ لقضيةِ جنوب السودان يقوم على الوحدة كي تستخدمه كسلاحٍ سياسي ودبلوماسي وقانوني لمشاكلها مع حركات التحرير الإريترية المطالبة بالانفصال عن إثيوبيا. فلا يعقل أن تقف إثيوبيا في جانب انفصال جنوب السودان وتعارض في نفس الوقت محاولات إريتريا للانفصال. لذا فقد كانت إثيوبيا تدفع في اتجاه إعادة الحياة إلى عملية التفاوض بين السودانيين المتناحرين تقود إلى حلّ ينبني على وحدة السودان.وكانت إثيوبيا محتاجةً أيضاً لتنهي أو على الأقل تقلّل من عونها العسكري اللامحدود إلى الحركة الشعبية، ولتظهر بمظهر الدولة التي تحاول مساعدة السودان المنهك في حلِّ مشاكله المعقّدة، وليست الوقود الذي يغذّي الحرب في كرمٍ وسخاء منذ عام 1983. وكما ذكرنا من قبل فقد كانت إثيوبيا هي الوسيط لاتفاق أديس أبابا بين حكومة النميري وحركة تحرير السودان في عام 1972.9عليه فقد كانت هناك مساحةٌ واسعةٌ التقت وتطابقت فيها المصالح المصرية والإثيوبية ومصالح الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان. ومن هنا برزت فكرة الدفع في اتجاه بناء تحالفٍ جديد بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان.10تمّت عدّة اتصالاتٍ ولقاءاتٍ دبلوماسية بين هذه الأطراف وتواصلت لبعض الوقت. ونتج عن هذه الاتصالات الاتفاق أن يتم اللقاء بين القيادات العليا في الطرفين مُمثّلةً في السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق بنفسيهما، وليس عبر مندوبيهما، كما حدث مع التنظيمات السياسية الأخرى في لقاء كوكا دام في مارس عام 1986.وجد الحزب الاتحادي الديمقراطي في تلك المبادرة فرصةً ليخرج من الموقف الحرج الذي وضع فيه نفسه بمقاطعة كوكا دام، وقرّر محاولة الكسب السياسي من هذه السانحة في وجه تحالف حزب الأمة والإسلاميين، وفي ظل النكسات المتواصلة التي كان الجيش السوداني يتعرّض لها، ومع المعارضة الشعبية المتزايدة للحرب في جنوب السودان.11قامت إثيوبيا ومصر بترتيب لقاءٍ بين السيد سيد أحمد الحسين الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي، وبعض قادة الحركة الشعبية في بداية نوفمبر عام 1988 في أديس أبابا، للتعارف والاتفاق المبدئي على نقاط الاتفاق المزمع توقيعه بين الدكتور جون قرنق والسيد محمد عثمان الميرغني. وقد تم ذلك اللقاء كما خُطِط له.بعد اتصالاتٍ قادتها مصر مع إثيوبيا نجحت الأخيرة في إكمال الترتيبات الخاصة بلقاء الدكتور جون قرنق مع السيد محمد عثمان الميرغني في أديس أبابا في 16 نوفمبر عام 1988.غادر السيد محمد عثمان الميرغني القاهرة إلى أديس أبابا حيث تمّ اللقاء بين الرجلين. وقد كان ذلك أول لقاءٍ بين قيادات الحركة الشعبية وقياداتٍ سياسيةٍ سودانيةٍ على هذا المستوى العالي منذ اجتماع السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق الفاشل في يوليو عام 1986. وكان كذلك أول لقاءٍ بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان.12لا بُدَّ أن دكتور قرنق قد ابتسم في زهوٍ وهو يشهد ميلاد حلفٍ جديدٍ بينه وبين من رفض الحضور إلى كوكا دام في عام 1986، ولزم الصمت والسلبية تجاه مقرراتها على مدى عامين ونصف قبل أن يلتقيه في أديس أبابا. ولا بُدَّ أنه أحس أنه على وشك أن يسدّدَ ضربةً موجعةً إلى خصمه في الخرطوم، السيد الصادق المهدي، بتكوين حلفٍ جديدٍ يستطيع أن يفرض قدراً من الضغوط على السيد الصادق المهدي وحلفائه في الجبهة القومية الإسلامية.وكما ذكرنا أعلاه كان الحزب الاتحادي الديمقراطي يحتاج هو الآخر إلى حليفٍ قوي في مواجهة تحالف حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية، ويحتاج أيضاً أن يخرج من العزلة والوضع الحرج الذي وضع فيه نفسه تجاه اجتماع واتفاق كوكا دام، والذي اتضح له أنه كان خطأًً كبيراً يجب تصحيحه على وجه السرعة.13عليه فقد تبادل الرجلان العناق والابتسامات حال لقائهما في أديس أبابا في صباح يوم 16 نوفمبر عام 1988، قبل أن يبدآ الحديث عن مشاكل السودان. فها هو الدكتور جون قرنق السياسي البارع، والعسكري الأكاديمي المسيحي، المتهم بالشيوعية والعمالة للمعسكر الشرقي، والذي فاقت شهرته الآفاق وقام باستنزاف الجيش السوداني في جنوب السودان، وبدأ عملياته العسكرية في الشمال، يتعامل باحترامٍ وكياسةٍ ولطفٍ مع رجل الدين والطائفية والسياسة السوداني، ويناديه بـ “مولانا”، اللقب المفضّل للسيد محمد عثمان الميرغني.من الجانب الآخر ها هو السيد محمد عثمان الميرغني يقوم بنفسه بالسفر إلى أديس أبابا التي لا يعرفها (وهو لا يسافر عادةً إلّا إلى القاهرة وجدّة وأحياناً إلى لندن) ليقابل دكتور جون (كما كان يسميه) في إثيوبيا التي أصبحت مقراً للحركة الشعبية، ويتخلّى عن محاولاته عقد اللقاء في القاهرة التي يعرفها ويثق فيها، بعد أن رفضت الحركة الشعبية فكرة اللقاء في القاهرة.قرر الرجلان بمجرد لقائهما أن كلاً منهما يمكن أن يثق بالآخر ويعمل معه، وأنهما في حقيقة الأمر يحتاجان إلى بعضهما البعض. كان الدكتور قرنق يحتاج إلى جسرٍ سياسيٍ جديدٍ يربطه بالشعب السوداني داخل شمال البلاد بعد فشل التجمّع الوطني في المضي قدماً باتفاق كوكا دام، وتشتّته بعد انتخابات عام 1986. وكان السيد محمد عثمان الميرغني يحتاج إلى حليفٍ في مواجهة التحالف الشرس بين السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي.14كان ما حدث في أديس أبابا في 16 نوفمبر عام 1988 هو العكس تماماً لما حدث هناك في 31 يوليو عام 1986 عندما تحوّل لقاء السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق إلى حوار الطرشان، وافترق الرجلان بعد اتهامِ كلٍ منهما الآخر بعدم الجدّية، وحتى بدون أن يمد أحدهما يده للآخر لحظة الوداع.بعد فترةٍ قصيرة من الحديث عن السودان ومشاكله والحرب المدمّرة الدائرة، هناك التفت السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق إلى ما التقيا من أجله. وبعد نقاشٍ لم يتجاوز ساعاتٍ وقّع الرجلان باسم الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان في 16 نوفمبر عام 1988 على اتفاقٍ تمت تسميته “مبادرة السلام السودانية.” وقد عُرِفت تلك المبادرة أيضاً “باتفاقية الميرغني قرنق” وهو الاسم الذي سارت به.15أشارت ديباجة الاتفاقية إلى فهم الطرفين العميق لكل معاناة جماهير الشعب السوداني الصبور، والتوافق على السلام، وإلى الإيمان بوحدة البلاد شعباً وتراباً، والرفض لكل السياسات البالية التي ترمي إلى تصعيد الحرب والدمار والشقاء بكل أشكالها، والتي تؤدي إلى تفريق وحدة الصف. كما أشارت إلى ضرورة العمل المتواصل لإثراء وتركيز الحياة الديمقراطية في ربوع السودان الحبيب.أكدّت الديباجة أيضاً اقتناع الطرفين التام بأن السلام الحقيقي لا يمكن تأطيره في مشكلة الجنوب، بل لا بد من النظر إليه على أساس أن مشاكل السودان قوميةٌ في الأصل، وعليه لا يمكن حلّها إلّا عن طريق الحوار الجاد الواضح والمتواصل بين كافة القوى السياسية السودانية، على أساسٍ من المساواة، في المؤتمر الدستوري المرتقب.16أشار الاتفاق إلى أن قيام المؤتمر الدستوري ضرورةٌ وطنيةٌ مُلحّةٌ توجب على كافة القوى السياسية السودانية العمل الدؤوب والمخلص لتهيئة المناخ الملائم لقيام المؤتمر، وإلى توصّلِ الطرفين إلى الاتفاق على العوامل الأساسية والضرورية لتهيئة المناخ الملائم للمؤتمر.أوضح الاتفاق أن الموقف الثابت للحركة الشعبية هو إلغاء قوانين سبتمبر 1983 واستبدالها بقوانين 1974، إلا أنها وفي هذه المرحلة، وانطلاقاً من حرصها على قيام المؤتمر الدستوري، تتّفق مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، وإلى حين قيام المؤتمر الدستوري، على تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمّنة في قوانين سبتمبر 1983، وأن لا تصدر أيُّ قوانين تحتوي على مثل تلك المواد وذلك إلى حين قيام المؤتمر الدستوري والفصل نهائياً في مسألة القوانين.بالإضافة إلى هذا، شملت الاشتراطات لقيام المؤتمر إلغاء كافة الاتفاقيات العسكرية المبرمة بين السودان والدول الأخرى والتي تؤثّر على السيادة الوطنية، وكذلك رفع حالة الطوارئ ووقف إطلاق النار.17اتفق الطرفان على تشكيل لجنةٍ تحضيرية قومية لتقوم بالتمهيد والإعداد لانعقاد المؤتمر القومي الدستوري، ولوضع مشروع جدول أعماله وتحديد مكانه وإجراءات انعقاده، على أن تعقد اللجنة اجتماعها الأول حال تشكيلها. واتفقا كذلك على ضرورة انعقاد المؤتمر القومي الدستوري في مكانٍ تقرّره اللجنة التحضيرية القومية حيث تتوفّر كافة الضمانات الأمنية التي ترضي الأطراف المعنية، وعلى ضرورة انعقاد المؤتمر القومي الدستوري في تاريخ 31/12/1988 في حالة تنفيذ البنود الوارد ذكرها في الاتفاق بما يرضي الأطراف المعنيّة. وناشد الطرفان كافة القوى السياسية السودانية الانضمام الفوري لهذا الجهد الوطني المخلص من أجل السلام واستقرار البلاد.18وهكذا وضح أن مبادرة السلام السودانية هي في حقيقة الأمر إعادةٌ لإعلان كوكا دام مع تعديلٍ له فيما يختص بقوانين سبتمبر التي وافق الطرفان على تجميد العمل بها إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، بدلاً من إلغائها كما نادى إعلان كوكا دام.وقد كان ذلك حلاًّ وسطاً يحفظ لكلٍ من الطرفين ماء وجهه ومواقفه الأساسية، ويعبّد الطريق لانعقاد المؤتمر الدستوري. فالحزب الاتحادي الديمقراطي ركّز في محاولاته تسويق المبادرة لجماهيريه ولجماهير الشعب السوداني على أنه لم يتم إلغاء قوانين سبتمبر، بل تجميدها حتى انعقاد المؤتمر الدستوري. بينما ركّزت الحركة الشعبية في قبولها هذا الحل الوسط على أن التجميد هو خطوةٌ أولى للإلغاء خلال المؤتمر.إضافةً إلى هذا فقد حقّقت الحركة الشعبية انتصاراً سياسياً كبيراً بقيول الحزب الاتحادي الديمقراطي أن المشكلة التي تواجهها البلاد ليست مشكلة جنوب السودان، بل هي مشاكل السودان ككل، والتي هي قوميةٌ في الأصل. وهذا يعني ضمناً قبول الحزب الاتحادي لمبدأ السودان الجديد.وقد رفع التنازلُ الذي قدمته الحركة الشعبية كثيراً من قدرها في أوساط شعب شمال السودان الذي كانت الحرب قد أوصلته إلى قدرٍ كبيرٍ من الإعياء والإحباط. وضح هذا في الطريقة التي قابلت بها غالبية جماهير الشعب السوداني الاتفاقية كما سنناقش بعد قليل.تعانق الرجلان عند الفراق كأصدقاء، وعاد كلٌ منهما إلى موقعه مقتنعاً أن تحالفاً سياسياً جديداً قد وُلِد بأسنانه في مواجهة تحالف السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي المتنامي.19عاد السيد محمد عثمان الميرغني إلى الخرطوم حيث قابلته الآلاف في مطار الخرطوم مقابلة الأبطال. فالحرب كانت قد أرهقت الشعب السوداني، وقُتِل فيها الكثير من أبنائه. وكان الكثيرون يعون جيداً أن صفوف السيارات الطويلة المكتظة في انتظارٍ طويلٍ للوقود الذي لا يدري أحدٌ متى سيأتي، وانعدام السلع والغلاء الفاحش، والتدهور في الإنتاج الزراعي والصناعي، وفقدان الجنيه السوداني لقيمته كل يوم، مردّها الرئيسي هو الحرب في جنوب السودان، والتي فقدت معظم الأسر فيها أبناء وفلذات أكباد وأصدقاء ومعارف.وقد باركت النقابات والاتحادات ذلك الاتفاق واعتقدت أنه أعاد الحياة لعملية التفاوض، ولإمكانية عودة السلام والاستقرار للسودان، ووقف القتل والدمار. كما باركه التجمع الوطني بكافة مكوناته. بل يمكن القول أن الاتفاق الجديد أعاد الحياة للتجمع الوطني بعد أن فارقته إثر قيام الانتخابات.20لكن حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية لم يعجبهما ذلك الاتفاق الذي هو انتصارٌ سياسيٌ كبير للسيد محمد عثمان الميرغني والحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو ما لم يرضاه السيد الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي. لقد أحس الرجلان أن السيد محمد عثمان الميرغني على وشك أن يسحب البساط من تحت أرجلهما ويعيد أسس وقواعد اللعبة السياسية في السودان ككل. عليه فقد قررا الوقوف بحسمٍ وحزم ضد مبادرة السلام السودانية وإفشالها مهما كان الثمن.21سوف نناقش في المقال القادم، وهو الخامس والأخير من هذه السلسلة من المقالات، خطط واستراتيجية الحليفين لإفشال اتفاق الميرغني قرنق، وكيف تم تطبيق تلك الخطط، وكيف لحق اتفاق الميرغني قرنق بسلفه إعلان كوكا دام.———————————————————*محاضر سابق بكلية القانون بجامعة الخرطوم، والرئيس الحالي لمجلس جامعة الخرطوم.The post إعلان كوكادام واتفاقية الميرغني-قرنق: دروسٌ للمبادرةِ الرباعية لتفادي تفكيك ما تبقّى من السودان (4 -5) appeared first on صحيفة مداميك.