عبد اللطيف علي الفكيتقف عبارة ’المكوِّنات‘ وقوفاً ذا فهم تفكيكي في استبدال ’البدايات‘. لأن السؤال الكبير هل هناك ثَـمَّـة بداية؟ هو سؤال أصبح – فيما بعد الحداثة – سؤالاً ميتافيزيقياً من الدرجة الأولى. فالتفكير الميتافيزيقي؛ هو الذي يتحدث عن البدايات في سيرٍ متسلسل داعماً خطيَّـة العِلة والمعلول. وذلك، دون اعتبار الاصطدام بالعلاقات الكامنة – غير الملاحظة – التي تساهم في التشكُّل المستمر من عناصر مختلفة لبنية ذات علاقات متجانسة قابلة للسُكْنَى. وقَبُول السُكْنى يعني قَبُول التفاعل بين تلك العلاقات الحية بعضها ببعض.هذا التفاعل هو تفاعل انبثاق. وهو الانبثاق الذي يجب علينا أن نفهمه في كونه انبثاقاً من ذات نفسه. فما معنى انبثاق من ذات نفسه؟ إنه يعني تفاعلاً مستمراً للعلاقات الحية في مكانٍ بعينه دون إقصاء، ودون إقحام برَّاني لنوع ذلك الانبثاق. فمثلاً، فلنتأمل هذا الانبثاق من ذات نفسه في علاقات حية في مكانٍ ما:انبثاق من ذات نفسه هو سن؛ انبثاق من ذات نفسه هو صن؛ انبثاق من ذات نفسه هو قن؛ انبثاق من ذات نفسه هو كن . . . إلى آخره من انبثاقات لا متناهية. (حيث ن دالة على علاقات حية في مكانٍ ما). هنا (انبثاق كن) لا يكون أخيراً، ولا هو بـمُـخّوَّل له إقصاء (انبثاق سن). وفوق ذلك لا يأتي بعنصر مقحَم على (ن) كأن تصبح كط؛ ويتم التأثير المدبر نحو سن لتصبح سط.. هذا هو الفهم المكاني لمكوِّنات فضاء المكان؛ خارج العنصر البرَّاني (ط) المؤدِّي إلى خلاء التفكير الميتافيزيقي. لذلك سنطلق عليه فضاء المكان متميزاً من المكان. فبينما فضاء المكان من خصائصه انبثاقات لا متناهية، نجد المكان يشير إلى خصيصة الجهة فقط: في حيثوية المساحة والإقليم والمديرية والقطاع والغرفة والمسافة، إلخ.هنا ذاتان مكانيتان حسب فضاء المكان والمكان؛ هما الذات المكانية في سُكنى فضاء المكان، والذات الحيثوية في امتداد جهوي للمكان. الذات المكانية هي ذات غير قابلة للإحصاء، والتصنيف، إنها وجود إمكانية في ارتفاع نوعي لفضاء المكان. أما الذات الحيثوية هي القابلة للإحصاء العددي كما هو في التعداد السكاني، والتصنيف (ذكر، أنثى، متعلم، أمي، خريج، الفئة العُمْرية، معدَّل العُمْر . . . إلخ). وبهذه الوظيفة والخصائص تبقى الذات الحيثوية هي مصادر علمية لتحقيق تلك الإمكانيات في فضاء المكان. لأن فضاء المكان معنيٌّ – في الدرجة الأولى – بأجيال قادمة، وليس بـمَـحْقِ تلك الأجيال عبر إفساد تفعله سلطة القاطنين الآن، في حد الإهدار الأقصى، أو بـمَـحْقِ تلك الأجيال عبر سلطة تغض الطرف للأجيال القادمة، في الحد الأدنى للإهدار. مما يُشكِّل ذاتاً ثالثة هي الأدنى نطلق عليها الذات القاطنة. هذه الذات القاطنة هي دنيا الذوات لأنها لا تقوم مقام الذات المكانية في تفعيل انبثاقات المكان الحيوية، ولا مقام الذات الحيثيوية القابلة للإحصاء الدقيق؛ بل هي ذات قاطنة تستهجن كل ما هو يقود نحو فهم المكان وعلاقات المكان؛ بالجملة، نحو مستقبل تلك العلاقات.عمومية رقم 1– الذات المكانية: تعمل في وفرة علاقات مكانية ذات انبثاق من ذات نفس علاقاته؛ وهو التفاعل المستمر لتلك العلاقات الحية في مكانٍ ما، أو في جزءٍ من مكانٍ ما؛ ويعمل هذا التفاعل دون إقصاء أو إقحام عنصر أو عامل برَّاني خارج علاقاته. هنا الذات المكانية هي: وجود إمكانية في ارتفاع نوعي لفضاء المكان.– الذات الحيثوية: هي الذات القابلة لتحقيق ثقافات المكان من خلال الإحصاء السكاني الدقيق الذي يقوم بالفرز الحيوي والمعيشي والثقافي المتحقق للمكان. إنه الـمصدر العلمي للذات المكانية.– الذات القاطنة: هي الذات التي تجعل مكاناً ما مجرد مكانٍ مُعْطَى خارج أي نظام، وأحياناً حين تمتلك القوة لتفرض ما هو خارج النظام نظاماً وسلطة. تاريخياً، هي الذات القاطنة ما قبل وجود الدولة المتقيدة برأسمال عالمي، وهذه الذات القاطنة قابلة لإعادة عناصرها مرة أخرى بصورةٍ ماضوية في أكثر الأحوال، بغض النظر للعلاقات الحية المتطورة التي يُبرزها واقع متحقق للذات المكانية، تمت علمية تحقيقه من خلال وسائل الذات الحيثوية.تُبْرِزُ لنا هذه العمومية رقم 1 تعامل الذات ديالكتيكياً مع المكان. فعند الذات القاطنة المكان ليس شيئاً سوى مطروح طرحاً مُعطَى. فهو مُعْطَى خارج علاقات أية سلطة، بالنسبة إلى الذات القاطنة. لذلك ليس ارتباكاً حين نقول إن الذات القاطنة تأخذ المكان كمعطىً أخذاً ذاتياً، وليس كمعطى تحقيقياً في علاقات المكان وسلطة المكان. فالمبدأ لهذه الذات أنها لا تبدأ من ملموس أشياء المكان، أو طقم أشياء المكان؛ بل في تجريده كمعطىً ذاتي. الـمُعطَى المكاني x هو سابق للذات القاطنة؛ بحكم أن هذا المعطى المكاني هو تحقيق في علاقات المكان. لذلك إذا أسمينا x اسم Q، فإن Q صحيحة؛ اعتماداً على تحقيق زائد على x. فصحتها لا تقوم على مجرَّد التسمية وإنما على تحقيق زائد. وهو عكس ما يفعله المذهب الاسمي كما عند الذات القاطنة. فهي تطلق أسماءً حيث لم ترفع الماضي، بل تعيده في أسمائه؛ لأن من المحال تكرار العلاقات من زمان ومكان آخر غير زمان ومكان الذات المكانية. في تفعيل هذه الأزمة المكانية ينقاد المكان إلى خرابه.ولأن الوعي عند الذات المكانية ينمو بطريقة ما نحو المكان سواء أكان سلباً في خراب المكان بأفعال الذات القاطنة أو ايجاباً بإنتاج المكان من خلال وسائل الذات الحيثوية. عند خراب المكان سلبياً تعي الذات المكانية بالعلاقات التي أدت إلى نواقص المكان؛ فتتخلَّص من تلك النواقص لاحقاً بطريقة عزلها. أي عزل الخطأ. هذا هو الوعي الـمُنتج من سلبيات الذات القاطنة. أما الوعي عند الذات المكانية الـمُنتج من ايجابيات العلاقات المكانية هو في تكوين نظام مفتوح قابل للتطور عبر الأجيال، ومستقبل الأجيال. فإذا كان ذلك عن طريق العزل، فإن هذا عن طريق العناية.المفتاح الوحيد لمعرفة تحقيق العناية في المكان وأنها شاهدة ٌ فيه هو أن الارتباك – الذي يؤدِّي الذات إلى مغادرة المكان – قد غادر هو نفسه المكان. لا تقف العناية في حدود ذلك، بل تصبح معطىً. وحين نقول أصبحت العناية معطىً، إنما نقصد أن المكان وعالم الذات المكانية قد أصبحا في متناول اليد. هذه المرحلة يطلق عليها هيدجر “دوزنة المكان”. ويهذه الدوزنة يتهيـَّـأ المكان ليصبح وجوداً في العالم، في وفرة تعدد اختياراته حتى لا تستفزك حاجةٌ لا مكان لها. فكل الحاجات لها مكانها في تلك الوفرة. تتصدَّر ثلاثة أشياء هُنَّ معوقات لدوزنة المكان: أ: الغواية اللغوية، ب: التغرير الديني، ج: الوهم الأممي. وهذه المعوِّقات هي السبب الأساسي لجعل دوزنة المكان غائبة عن المكان بصورةٍ مُفرَطة.The post الذات المكانية وتطوير المكان appeared first on صحيفة مداميك.