رندا على – مداميكرغم مرور أيام قليلة على الذكرى الرابعة لمجزرة المؤسسة، الا أن الحدث لايعود اليوم من باب الاستذكار الزمني، بقدر مايفرض نفسه كسؤال مفتوح حول العدالة ومابقي من ذاكرة الناس، تجاه واحدة يصفها المراقبون انها من أبشع الوقائع التي سبقت حرب الخامس عشر من أبريل، فبين مآسي الحرب الراهنة التى طغت على كل شيء تبقى المجزرة شاهدا معلقا على مسار عدالة لم يكتمل، وفي هذا السياق ، استطعنا الوصول إلى مجموعة من الشباب الذين شاركوا في موكب ذلك اليوم لاستعادة مارسخ في ذاكرتهم من تفاصيل المجزرة ومابقي من اسئلتها المعلقة حول الحقيقة والانصاف:والى تاريخ “17 نوفمبر ” تعود ذاكرة الثائر عباس كاريكا من أبناء بحري، يقول أن الحشود بدأت تتجمع عند الساعه الحادية عشر والنصف صباحا من داخل أحياء بحرى ، من خلال التجمع عند النقاط المذكورة المحددة مسبقاّ، واستطاعت الحشود أن تحتشد في غضون ساعات وخصوصاً في شمال مدينه بحري عند محطه الكيلو،وفي وسط بحري وجنوب حيث تجمع المتظاهرون في عدة نقاط حول المؤسسة بحري، فكان الموكب ضخما جدا بعد أن اتجهت مواكب شمال بحري بشارع المعونه حتي شركه الزرقاء ثم انحرفت يساراً على منزل الشهيد ماب، مرورا بمستشفى البراحة والسوق المركزي حتي ميدان الرابطه شمبات، يقول عباس: هنا اندلعت المواجهه ما بين المتظاهرين والقوات الامنيه، وكانت الهتافات وقتها بسقوط الانقلاب واستمرار الثورة واستحالة الردة.وقال كاريكا إن موكب وسط وجنوب بحري تعرض للعنف المفرط منذ الساعه 12 ظهرا من قبل القوات الامنيه، و سقط وقتها اول شهيد بالقرب من ميدان الشعبيه برصاصة اخترقت رأسه وهنا تغير كل شيء وبدأ إطلاق النار الذي كان في البداية بصورة متقطعة من فترة الى اخرى ، ولكن عندما وصل موكب شمال بحري تم إطلاق النار بكثافة وسقط الشهداء واحدا تلو الاخر.وفي غضون ساعات فقط فقدنا الاصدقاء وخيرة شباب مدينه بحري، خصوصا أننا في مدينه بحري لم نعتاد علي مظاهر الموت بتلك الصورة المعروفه.ويواصل كاريكا: عندما اقتحمت مواكب شمال بحري مع وسط وجنوب بحري في المؤسسه، في هذه اللحظة كانت هناك قوات امنيه إضافية قادمه من بحري، قامت بإطلاق النار بصورة عشوائية وهنا بدأ المتظاهرين بركضون إلي الخلف واثناء المطارده، كان يسقط الشهيد تلو الشهيد وهناك ومن كان يحمل من يسقط، ومن يحمل الدواء والعلاج الإسعافي،كاريكا يتذكر الاحداث كما هي بالضبط ، ويقول عند كل ذكرى تمر على مذبحة المؤسسة، لا تفارقنا لحظه فقد الرفاق والأصدقاء، ومظاهر الدماء على الطرقات، وايضا مظاهر أسر الشهداء ويؤكد أن كل تلك المشاهد المؤلمة تجعل الذكرى راسخة في عقولنا ، وتطاردنا مشاهد الموت المتكررة يوميا.ولم يتبدل شيء بعد المجزرة وظل اصرارنا على تحقيق مطالبنا لكن أصبحنا أكثر حرصاوتبدلت الخطط لتلافي فقد الرفاق وحفاظا على الشباب من بطش الأجهزة الأمنية .وحول التحقيقات يؤكد كاريكا انهم لم يتلقوا أي جديد حتى اللحظة، وقتل كنا نسمع فقط ان التحريات جاريه حتى الانولكن قمنا قبل اندلاع الحرب باجراءات نبش قبور بعض الشهداء الذين لم يتم تشريحهم مثل الشهيدة ست النفر احمد بكار.ويؤكد كاريكا أن الحرب هي وسيله لطمس الحقائق ولكنه يقول انها ايضا كشفت لنا كثير من المتخبي وغير المعلن، مؤكدا في ذات الوقت أن فاجعة (١٥/ أبريل) أكبرمن ما حدث في مجزرة (١٧/نوفمبر)وشدد أن مجزرة بحرى ستظل راسخة عند الثوار وان اصبحت ثانوية بالنسبة للشعب السوداني مقرا بأن جرائم الحرب الحالية أكبر بكثير مما حدث في مجزرة بحرى..وأكدت عضو محامي الطوارئ رنا عبدالغفار أن الوضع القانوني لقضية مجزرة المؤسسة ببحري التي وقعت في (17/نوفمبر 2021) مازال غير واضح, مشيرة الى أن النيابة العامة لم تفتح تحقيقا موحدا في المجزرة كملف واحد، بل تم التعامل مع كل شهيد بملف منفصل وأضافت أن بعض الأسر لم تتقدم ببلاغات بسبب ضعف الثقة في إمكانية تحقيق العدالة. وأوضحت عبدالغفار أنه لم تعلن اي نتائج رسمية حول التحقيقات التي أجريت في بلاغات شهداء المجزرة حتى يوم اندلاع الحرب، اذ شهد السودان عقب انقلاب اكتوبر 2021 تدهورا أمنيا وسباسيا وعدليا أدى الى صعوبة متابعة القضايا القانونية.وبينت أن أبرز العقبات التي أعاقت الوصول الى العدالة تمثلت في ضعف التحقيقات وعدم قدرة النيابة – حتى وإن رغبت- على اجراء تحقيق شامل وشفاف اضافة الى الضغط السياسي من الاجهزة الامنية والعسكرية، ونقص الادلة وصعوبة جمع الشهادات بسبب السيطرة الأمنية التي أثرت على عمل النيابة، وقالت عبدالغفار لمداميك أن إعادة احياء الملف قانونيا في ظل الحرب الحاليةأمر بالغ الصعوبة، لأن الأسباب التي عرقلت العدالة في السابق مازالت قائمة، بل تفاقمت أكثر وأكثر، ومع ذلك يمكن للمنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الانسان يمكنهم الضغط على السلطات لاعادة فتح التحقيقات لكن لايمكن اجراء تحقيق عادل وشفاف أو الوصول الى محاسبة الجناة في ظل الوضع الأمني الراهن.يقول محمد صلاح أحد الثوار في الموكب أن عدد المتظاهرين في 17 نوفمبر كان كبير جدا لكن بسبب وصول افراد الشرطة والامن للمؤسسة قبل الثوار ، توزعت الكتل الكبيرة للثوار على اربعة اتجاهات شارع الزعيم الازهري شرقا ناحية أحياء المزاد والمغتربين، غربا ناحيةحي الشعبية ..وشارع المعونة جنوبا ناحية شمبات وشمالا ناحية الديوم ، وكان يتم اطلاق الرصاص الحي عبر قناصة موزعين في المباني العالية من قبل وصول الثوار .ويتابع”كنت مع الكثيرين في شارع الزعيم الازهري ناحية ميدان النجوم وهو الاتجاه الذي استشهد فيه احمد علي (ملي) من ابناء الشعبية ومحمد انور من أبناء الدناقلة جنوب،في اثناء وقوفنا تحت ظل احد الاشجار محاولين تفادي الرصاص الحي، صرخت شابة بجوارنا انها رأت قناص في احدى البنايات ، بعد صرختها٠ مباشرة قام القناص بتوجيه عدد كبير من الطلقات باتجاهنا وكنا شبه مكشوفين له ، في الحقيقة كانت لحظة رعب حقيقي ومسافة قريبة جدا من الموت .لحظتها ومع وجود عدد كبير جدا من الاصابات والشهداء لم يكن هناك زمن ولا رغبة في الاحتفاء بالنجاة من الموت.يواصل محمد صلاح : اكتر لحظة كانت عادية وتحولت فيما بعد لذكرى مؤلمة، هي لقاء عابر لمدة دقيقة مع محمد انور داخل الشعبية ونقاش حول مفاجأة العساكر في المؤسسة مباشرة او ارهاقهم عبر موجات .. بعدها بعشرة دقايق تقريبا محمد كان شهيد .، يرى محمد صلاح أن استمرار فرص للموت اكبر من الحياة في السودان مع استمرار حكم العسكر، وأن الحرب امتداد للعنف الموجود اصلا ، الذي لاترتبط أسبابه بمؤامرة ولا بحرب كما يروج البعض وإنما هي اسباب موجودة داخل السودان ” رغبة الكيزان في السلطة و طموحات العسكر واحلام العنصريين بالتخلص من الاخر المختلف عرقيا واكد ان تلك الأسباب تكاملت لصناعة عنف الحرب، ونحن لم ننجوا حتى الان، ولذلك لانستطيع الاحتفاء بلحظة النجاة وحتى النزوح والتشرد جزء من مطاردة الموت للسودانيينوفي ظل وجود سلطة مجرمة منحاز لها القضاء لاتوجد عدالة هكذا يقول محمد الذي اضاف: كنت اتمنى لحظة يتم فيها القبض على القناص وتقديمه للمحاكمة تكون هي اللحظة الخالدة ، لحظة العدالة، لكل الشهداء وضحاها عنف الدولة ، لكن على عكس الامنيات، ذهب عدد كبير من الثوار الى جانب القناص واصبحت انا المنادي بالحرية والسلام والعدالة مجرما ، واصبح القناص بطلا وطنيا عظيما !!!ودأنور .. حافظ القرآنوكغيره من شهداء الثورة التى كأنما كانت تختار شهدائها بعناية فللشهيد محمد أنور مآثر يرويها الرفاق، وسقط أنور نتيجة اصابته برصاصة مباشرة في الصدر أودت بحياته قبل نقله للمستشفىأ..ح صديق الشهيد محمد أنور،فضل حجب اسمه و كان أ.ح قريباً منه حتى لحظة استشهاده، وبألم استرجع مع ” مداميك” اللحظات التي سبقت صعود روح الشهيد الى بارئها ، مارواه أ.ح عن تلك اللحظات يمكن تلخيصه بوصفها لحظات مفعمة بالشجاعة، اذ كان الشهيد ود أنور قبل وفاته بلحظات يقف في في بداية الجموع المحتشدة، وقد استشهد قبله بقليل شاب من أبناء الشعبية اسمه أحمد على ( ملي) ، عبر اطلاق رصاصة مباشرة على رأسه وكان الناس في الموكب يصرخون بأن هامة رأسه خرجت بعد دخول الرصاصة في الرأس ، فأخذ الشهيد محمد أنور يصرخ من بعيد في وجه العسكر مستنكرا قتل الشهيد وكان يصرخ بأعلى صوت: “مابتخافوا الله.. حتمشو وين من الله”، ومنذ اللحظة التى اطلق فيها الرصاص على ( ملى) ظل ( محمد أنور ) واقفا في مقدمة الموكب ولم يعود للوراء أبدا رغم ان ذلك اليوم كان مليئاً بالموت والاصابات بالرصاص المباشر.ورغم عدم غياب محمد عن أي موكب، لكن من مفارقات الاقدار أنه لم يكن يرغب في الخروج في ذلك الموكب تحديدا،فقد كان محمد يرفض التوجه الى القصر الجمهوري، باعتبار أن مواكب الخرطوم وأم درمان قررت عدم الذهاب الى هناك، وأن توجه موكب المؤسسة بمفرده الى هناك يشكل خطراً كبيراً، وخرج الناس مع الموكب من حي الدناقلة جنوب الحي الذي يسكنه ود أنور (زين) الذي لم يخرج مع الموكب لأنه كان يعترض اصلا على ذهاب الموكب إلى القصر.يقول أ.ح:” في يوم الموكب خرجنا جميعا من الحي، وذهبت – والحديث ل أ.ح- أولا لاتبين الأمر لأننا سمعنا أن هناك قوات أمنية فرقت التجمع الذي بدأ يتكون في المؤسسة قبل أن ننضم اليه، لذلك ذهبت الى هناك لاتبين الطريق قبل تحرك موكبنا لأن الموكب فيه بنات ونساء من الحي”.ويتابع أ.ح: ” وجدت أن الموكب قد تحرك وكانت المفاجأة أن محمد أنور قد أتى سألته عن سبب مجيئه رغم انه أعلن خلاف ذلك رد علي بعبارة ( مابقدر)، في إشارة الى انه لايستطيع عدم المشاركة مع الموكبوبعد أن دخل الموكب حي الشعبية كنا مجموعة من الشباب ومن بيننا محمد أنور نفسه ، وباشرنا تقفيل الشارع لمنع الأجهزة الأمنية التي تستخدم العنف المفرط من ادراكنا من الخلف، وبعد ان تحركنا لم التقيه بسبب حدوث ضرب ثقيل وتفرق الناس”.ثم التقيت بمجموعة من الشباب المتظاهرين مرة اخرى وذهبنا في المقدمة، وتجمعنا بالقرب من مسجد الشعبية، وكنا من أوائل المجموعات المتظاهرة التي وصلت إلى هناك. وحتى تلك اللحظة لم يلتقِ بنا محمد مجدداً. وعندما اقتربت صلاة العصر ظهر محمد أنور.”يضيف أ.ح :“في بداية الموكب كنا مجموعة من الشباب، وكان معنا أيضاً الشهيد الريح، الذي استُشهد في موكب 13 يناير 2022 اي بعد استشهاد ود أنور بأقل من شهرين وهو صديقه، وظل محمد أنور وسط المظاهرات مع الموكب حتى قُتل، وكما قلتُ، فإن أكثر عبارة لن أنساها أنه كان يصرخ في العساكر بأعلى صوت: «بعدين حتمشي من ربنا وين، . بعدين حتقول لربنا شنو؟»”، أصيب محمد برصاصة مباشرة في الصدر وقد فارق الحياة في لحظتها قبل نقله لمستشفى الدولي التي كانت الدماء تسيل فيها من كل الشباب، حتى كل ما يجي مصاب برصاصة بتم انزال أحد الشهداء للأرض لترك مساحة للمصاب من كثرة الموت والاصابات بالرصاص، كان ذلك اليوم من أصعب الأيام التي مرت على الثورة وعلى مدينة بحري عموما من موت ونحيب وخوف وأشياء لايمكن للعقل البشري تحملها.واكد أ.ح أن الحرب الحالية كان لها وقع صعب على الشعب كله، لما سببته من قتل ودمار ونزوح، ويتابع” واستغرب أحد أصدقائي في ذكرى مجزرة المؤسسة قبل يومين بأن القاتل في الماضي كان مجهولا اما في الحرب الحالية فأصبح معلوما، ويواصل أ.ح بأن كل الناس ينبغي ان تعرف كيف أن أرواحنا كانت رخيصة عندما كانوا يتحدون ضدنا، أما الان عندما اختلفوا أصبح القاتل معروفا وفي الماضي عندما كنا نقف ضد المليشيات كنا نقولها واضحة دون خوف، ولكن الله غالب..ويؤكد أ.ح أن وفاة محمد أنور أحدثت جروحاً صعبة على أسرته. وكانت شخصيته متفرّدة من النوع الذي يتفق عليه الجميع، عندما تراه أول مرة تشعر وكأنك تعرفه منذ زمن، كان يخدم أسرته وكل أهل الحي وأصدقاءه.و يقول أ.ح أن جميع سكان حي الدناقلة ببحري يعرفون ذلك عن ود أنور، ويشعر كل من يلتقيه لأول مرة أنه يعرفه منذ سنوات.ويتابع أ.ح أن وفاة محمد كانت صعبة جداً، فوالده كان خارج الولاية ووالدته تقيم خارج البلاد، بينما كان يعيش في حي الدناقلة مع أخته وعمته وبقية أهله، وهو ما جعل وقع الفقد أكثر مرارة.وحول مسار العدالة، أكد أن العدالة لم تكن لتتحقق حتى قبل الحرب، وأضاف ” تم كل ما يمكن فعله في مسار التحقيقات سواء من الجهات الرسمية أو الاجسام المتبنية لقضايا الشهداء لكن هرم الدولة كان يمنع تنفيذ اي خطوة لأن القاضي والجلاد جميعهم سيكونون متعمين ثم جاءت الحرب لتطمس كل الأدلة والبراهين، أو لتعيد تشكيل الذاكرة السودانية لدى الشعب السوداني بأشياء اخرى وتستبدلها بغيرها، وأكد أن ذاكرة مجزرة المؤسسة لن تتلاشى خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة ، لكن هناك من يعملون على تجهيل الناس عمداًوطمس الحقائق باستبدالها بمرويات اخرى مستغلين ضعف الوعي رغم أن الثورة حملت قدراً كبيراً من الوعي الذي كان يتشكل الا انه لم يكن كافياً ليصل الى كل الشعب ، صحيح أن جزءا كبيرا من الناس بات أكثر وعياً، لكن مايزال الجزء الأكبر بعيداً ويسهل التأثير عليه وهذا الامر يمكن معالجته مستقبلاً عبر التعليم،وختم أحمد طلحة قائلا انه رغم مرور أربعة سنوات على مجزرة المؤسسة واستشاد محمد أنور ماتزال أسرة محمد وأهله وكل معارفهوأصدقائه غير مستوعبين تماما أنه غادر حياتهم.The post دماء وأشلاء ٠٠ وشباب يواجهون الموت بصدور عارية appeared first on صحيفة مداميك.