انطلاقة بنصف حصان!

Wait 5 sec.

في ذلك اليوم الخريفي البارد من عام 1885، وتحديدا في الثامن عشر من نوفمبر، شهدت ضفاف نهر نيكار في ألمانيا لحظة تاريخية ستغير عالم وسائل النقل إلى الأبد. هناك، حيث امتزج هدير مياه النهر بصوت آلة غريبة، جلس الشاب بول دايملر البالغ من العمر سبعة عشر ربيعا على مقعد مركبة عجيبة ذات هيكل خشبي بدائي، ليبدأ رحلة لن تزيد عن اثني عشر كيلومترا، لكنها ستكون الأهم في تاريخ البشرية. كانت هذه الآلة تحمل اسم "دايملر ريتواجن"، أو "عربة الركوب" بحسب الترجمة الحرفية، وهي الأولى من نوعها التي تعتمد على محرك احتراق داخلي يعمل بالبنزين.لم تكن تلك العربة الخشبية ذات العجلات المغطاة بالحديد أكثر من منصة اختبار لمحرك جديد، لكنها كانت البداية التي ستتحول لاحقا إلى ثورة كُبرى في عالم المواصلات. كان التصميم بسيطا إلى حد البدائية: إطار خشبي متين، عجلات خشبية مغطاة بحلقات حديدية، ومحرك أحادي الأسطوانة أطلق عليه مبتكراه "ساعة الجد" نظرا لشكله المستدير. لم تكن هناك أنظمة تعليق تذكر، ولا وسائل راحة حقيقية، لكنها استطاعت أن تصل إلى سرعة اثني عشر كيلومترا في الساعة بقوة نصف حصان فقط.كان المهندسان الألمانيان جوتليب دايملر وويلهلم مايباخ قد حصلا قبل أشهر قليلة، في التاسع والعشرين من أغسطس، على براءة اختراع لأول مركبة في العالم مزودة بمحرك احتراق داخلي على عجلتين. وهذا التاريخ يعتبر بمثابة عيد ميلاد الدراجة النارية، رغم أن مخترعيها لم يكونا يتصوران آنذاك أنها ستكون بداية لصناعة كاملة. لقد كانت مجرد وسيلة لاختبار محركهم الجديد الذي كانوا يخططون لاستخدامه في مركبات أكبر وأكثر تعقيدا. الرحلة التجريبية التي قام بها بول دايملر من منطقة كانستات إلى أونترتوركهايم ذهابا وإيابا لم تكن مريحة بالمرة. فالمحرك الذي وضعه المخترعان تحت المقعد مباشرة كان يسخن لدرجة أنه تسبب في إشعال النيران في المقعد الخشبي في إحدى الرحلات المبكرة. بعد انتهاء الرحلة الناجحة، صرّح بول - الذي عانى من كل مضايقات التصميم - بأنه لن يجلس مرة أخرى على هذه "كسارة العظام"، كما أطلق عليها.رغم كل هذه العيوب، فإن دراجة "دايملر ريتواجن" كانت إنجازا تقنيا مذهلا في عصرها. كانت أول مركبة تعمل بمحرك احتراق داخلي يعمل بالبنزين، متفوقة على المركبات البخارية التي سبقتها. والأهم من ذلك، أن هذا النوع من المحركات أصبح المعيار العالمي على مدى المائة والأربعين عاماً التالية، ما يجعل من دايملر ريتواجن الجد الشرعي لجميع مركبات الاحتراق الداخلي اللاحقة.من المفارقات التاريخية المثيرة أن الدراجة النارية ظهرت قبل السيارة الكلاسيكية بمحرك الاحتراق الداخلي. ففي حين يعتبر يوم 29 يناير 1886 هو التاريخ الرسمي لميلاد أول سيارة، حين حصل المهندس الألماني كارل بنز على براءة اختراع لعربته الثلاثية العجلات المسماة "موتورواغين"، فإن الدراجة النارية كانت ظهرت قبل ذلك بعام كامل. لكن دايملر لم يعد أبدا إلى تصميم الدراجات النارية، معتبرا أنها ليست واعدة تجاريا.ظلت صناعة الدراجات النارية تتطور ببطء، متأثرة بالتطورات التكنولوجية في مجالات أخرى مثل الدراجات العادية والسيارات وحتى الطيران. لكن الإنجاز الحقيقي التالي في هذا المجال جاء في عام 1901 على يد الأخوين الروسيين يفغيني وميخائيل فيرنر، وهما مهاجران روسيان وناشران لمجلة "حول العالم". الاثنان قدما أول دراجة نارية كاملة ذات عجلتين وبتصميم كلاسيكي، أي بمحرك في الجزء السفلي من الإطار، سُميت "نيو فيرنر". كانت دراجة فيرنر النارية تعمل بقوة 1.5 حصان، وتستخدم ناقل حركة من الجلد الخام، وتزن حوالي 45 كيلوغراما. وكانت سرعتها تصل إلى 48 كيلومترا في الساعة، ما جعلها أسرع دراجة نارية يتم إنتاجها في ذلك الوقت. استمر إنتاج "نيو فيرنر" حتى عام 1908، محققة نجاحا تجاريا لافتا.اليوم، وبعد أكثر من قرن على تلك البدايات المتواضعة، يمكننا أن ننظر إلى الوراء لنرى كيف شكلت دايملر ريتواجن نقطة تحول في تاريخ البشرية. كانت شرارة الانطلاق لحقبة جديدة من تطور وسائل النقل التنقل الفردية، ومهدت الطريق لظاهرة الثقافة النارية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الملايين حول العالم.من تلك العربة الخشبية البدائية التي لا يتعدى سرعتها سرعة الإنسان العادي، إلى الدراجات النارية الخارقة التي تتجاوز سرعتها 300 كيلومتر في الساعة، كانت الرحلة طويلة ومثيرة، لكنها بدأت كلها في ذلك اليوم الخريفي على ضفاف نهر نيكار.أثبتت دايملر ريتواجن أن الأفكار العظيمة يمكن أن تولد من تجارب بسيطة، وأن الابتكار الحقيقي يبدأ بشجاعة التجربة والرغبة في اختراق المألوف. في لحظة تاريخية، اجتمع العبقريان دايملر ومايباخ مع الشاب بول ليكتبوا أولى سطور في ملحمة وسائط الحركة البشرية، ملحمة لا تزال فصولها تكتب يوما بعد آخر وبوتيرة فائقة السرعة.المصدر: RT