إعلان كوكا دام واتفاقية الميرغني-قرنق: دروسٌ للمبادرةِ الرباعية لتفادي تفكيك ما تبقّى من السودان 2 -5

Wait 5 sec.

*د. سلمان محمد أحمد سلمان1ناقشنا في المقال السابق من هذه السلسلة من المقالات سقوط نظام نميري نتيجة انتفاضة أبريل عام 1985، وقيام الحكومة الانتقالية بشقيها – المجلس العسكري الانتقالي برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، ومجلس الوزراء الذي ترأسه الدكتور الجزولي دفع الله. أوضحنا أن القائدين الجديدين وعدد من أعضاء المجلس العسكري ومجلس الوزراء كانوا ينتمون للحركة الإسلامية ويعملون داخل الحكومة وفق توجيهاتها وأجندتها، وأن وجود التجمع الوطني لإنقاذ الوطن الذي قاد انتفاضة أبريل كان ضعيفاً وذا أثرٍ محدود.عليه فلم يكن مستغرباً أن يصدر دستور السودان الجديد في شهر أكتوبر من عام 1985 (بعد ستة أشهر من الانتفاضة) مُرسّخاً لجذور قوانين سبتمبر التي سنّها نميري عام 1983، وأن يتضمّن رؤية وبرنامج الحركة الإسلامية للوضع الدستوري والقانوني للبلاد، ولحل مشكلة الجنوب.كما أوضح المقال أن الاتصالات مع الحركة الشعبية كانت في غايةٍ من الارتباك، حيث بدأت برسالةٍ أشبه بالمبادرة الشخصية من وزير الدفاع الفريق عثمان عبد الله إلى الدكتور جون قرنق. وقبل الردِّ عليها اختطف الإسلاميون زمام المبادرة في الاتصالات مع الحركة الشعبية برسالةٍ من رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله. لكن تلك الاتصالات كانت أشبه بحوار الطرشان، وانتهت بتوسيع وتعميق دائرة الخلاف بين حكومة الإسلاميين الجديدة في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق.ذكرنا في خاتمة المقال السابق أن التجمع الوطني قرّر تحت ضغوطٍ حادةٍ من قواعده، وبعد ارتباك وتخبّط اتصالات الحكومة الانتقالية بالحركة الشعبية، الدخول في حلبة الاتصالات المباشرة مع الحركة الشعبية. فقد كانت أحد أهم أهداف انتفاضة أبريل التي قادها التجمّع هو حل مشكلة الجنوب.2قام التجمّع بإبتعاث أحد قياداته وهو الدكتور فاروق محمد إبراهيم إلى أديس أبابا لتنظيم لقاءٍ بين ممثلين من التجمّع والحركة الشعبية. تمّ الاتفاق في 2 مارس عام 1986 على عقد لقاءٍ بين ممثلين للطرفين في أديس أبابا التي ظل وجود الحركة الشعبية فيها مكثّفاً. وقد قامت وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية بالبث مراراً لخبر الاتفاق على عقد اللقاء.بعد ثلاثة أسابيع من إذاعة الخبر عُقِد اللقاء، الذي طال توقّعه وانتظاره، في منتجع كوكا دام (سدّ كوكا) الذي يقع حوالي 75 كيلومتر جنوب شرق أديس أبابا على نهر أواش. كان وفد التجمّع قد وصل إلى كوكا دام يوم 20 مارس عام 1986، ولكن وفد الحركة لم يصل حتى صباح يوم 22 مارس، متعلّلاً بالعمليات العسكرية في الجنوب. وقد بدأت الاجتماعات يوم 22 مارس عام 1986 واستمرت لمدة ثلاثة أيام حتى يوم 24 مارس.3لم يشمل وفد التجمّع الوطني، والذي تكّون من 26 عضواً، ممثلين للجبهة القومية الإسلامية والحزب الاتحادي الديمقراطي اللذين قاطعا اللقاء. وقد شنّت صحافة الجبهة القومية الإسلامية هجوماً عنيفاً على اللقاء، وواصلت حملتها الإعلامية على الحركة الشعبية واصفةً إياها بالشيوعية والعمالة للغرب، رغم التناقض الغريب في الوصفين. وأصبح من الواضح أن تلك الحملة الإعلامية الصاخبة قد أرعبتْ الحزبَ الاتحادي الديمقراطي فقرّر مقاطعة اللقاء أيضا.لا بد من التذكير هنا أن رئيس الوزراء الدكتور الجزولي دفع الله كان قد عرض في رسالته للدكتور جون قرنق (التي ناقشناها في المقال السابق) إرسال وفدٍ لمقابلة الدكتور قرنق في أيِّ مكان لبدء حوارٍ جاد. لكن رئيس الوزراء تناسى ذلك العرض ولم يؤيد أو يبارك تحرّك التجمع الوطني، فالوفد ليس وفده، والمسألة تبدو وكأنها في طريقها للخروج من دائرة نفوذه ونفوذ حزبهوقد تواصل التهاب الجبهة العسكرية في جنوب البلاد في تلك الفترة وسقطت مدينة رومبيك قبل أيامٍ من لقاء كوكا دام في يد الحركة الشعبية. أعلنت الحكومة عزمها على استعادة مدينة رومبيك والمناطق الأخرى التي احتلّتها الحركة الشعبية. وتصاعدت حِدّة نقدِ الحكومة وعداوتها للقاء كوكا دام إثر سقوط رمبيك المُحرج للحكومة ولقادتها العسكريين.4لا بد من ملاحظة غياب كل قيادات الأحزاب السياسية السودانية عن لقاء كوكا دام، مقارنةً بمؤتمر المائدة المستديرة الذي تبارى زعماء الأحزاب السياسية الخمسة وقتها في حضوره. وقد فضّل السيد الصادق المهدي زيارة ليبيا يوم افتتاح لقاء كوكا دام رغم الحديث الذي كان سائداً عن عزم السيد الصادق المهدي حضور الجلسة الافتتاحية للقاء. لم تكن تلك العوامل تحمل مؤشراً إيجابياً للقاء كوكا دام أو لإمكانية تحقيق وتنفيذ أهدافه وقراراته فيما بعد.5شمل وفد الحركة الشعبية الدكتور منصور خالد (وزير خارجية ووزير تعليم عددٍ من حكومات نميري المتعاقبة، وأحد الفلاسفة والمنظرين لنظام مايو). وكان الدكتور منصور قد انضم قبل أسابيع من ذلك التاريخ إلى الحركة الشعبية بعد أن نفض نظام نميري يده منه بعد أن استنفذ أغراضه. استغلت الحركة الشعبية لقاء كوكا دام لإعلان ذلك الانضمام. كما كان الدكتور منصور قد زار الخرطوم بعد انتفاضة أبريل وحاولت بعض الجهات استصدار أمر قضائي باعتقاله واستجوابه باعتباره أحد أركان نظام النميري، ولكنّه نجح بمساعدة بعض النافذين في حكومة الانتفاضة نفسها في مغادرة السودان. لذلك السبب كان وجود الدكتور منصور خالد ضمن وفد الحركة مصدر احتجاجٍ وغضبٍ من بعض أعضاء وفد التجمّع، ونتج عنه انسحاب بعض أعضاء التنظيمات من اللقاء.وقد ذكّر وفدُ الحركة الشعبية المنسحبين من اللقاء في سخريةٍ بأنهم قبلوا بالفريق سوار الذهب وزير دفاع نظام نميري رئيساً للسودان، وسألوهم بأي حقٍ يرفضون عضوية الدكتور منصور خالد وزير خارجية نميري في وفد الحركة؟ وقد كان ذلك الحدث انعكاساً واضحاً لحالة الارتباك الكبير التي تسود الساحة السياسية السودانية، شمالها وجنوبها.6افتتح اللقاء السيد يَلِمّا تادسّي القائم بأعمال وزارة الخارجية الإثيوبية وقتها، والذي كان قد عمل سفيراً لإثيوبيا بالسودان. وكانت تلك إشارةً واضحةً للأهمية التي أولتها إثيوبيا لذلك اللقاء ولحلِّ مشكلة جنوب السودان.تحدّث في بداية اللقاء الدكتور خالد ياجي رئيس التجمّع الوطني وأشار إلى أن الغرض من اللقاء هو خلق المناخ المناسب للمؤتمر الدستوري المزمع عقده بمشاركة كل القوى السياسية لمناقشة القضايا الرئيسية التي تواجه السودان. أشار الدكتور ياجي إلى فشل الحكومة الانتقالية في مواجهة تحدّيات السلام والتنمية في السودان، لكنه أضاف أن الحوار الديمقراطي هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة هذه التحديات.7خاطب اللقاء بعد ذلك الدكتور جون قرنق متحدثاً بإسهابٍ عن رؤيته للسودان الجديد الموحّد القائم على العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، بناءً على مبدأ المواطنة، وكرّر استعداد الحركة الشعبية للحوار الديمقراطي باعتباره الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تؤدّي إلى السلام.غير أن دكتور جون قرنق رفض مقترح زيارة الخرطوم الذي حمله إليه عضو وفد التجمّع الدكتور تيسير محمد أحمد علي من السيد رئيس الوزراء، موضّحاً أن وفد الحركة سيذهب فقط إلى الخرطوم تحت حماية قوةٍ أمنيةٍ من الحركة الشعبية، وليس تحت حماية الحكومة أو التجمّع الوطني، وهذا ما رفضته الحكومة السودانية.من الواضح أن اغتيال الزعيم الجنوبي البارز والمعتدل السيد ويليام دينق في جنوب السودان عام 1968، واغتيال الأب سترنينو لوهوري زعيم الأغلبية الجنوبية في برلمان 1955 في يوغندا عام 1967، كانتا عالقتين في أذهان قيادات الحركة الشعبية. فقد توجّهت أصابع الاتهام في الحالتين مباشرةً إلى حكومات الخرطوم. أغلقت هذه الاشتراطات باب احتمالات عودة الدكتور جون قرنق للخرطوم والتي كانت مصدر توقّعات وأمل عددٍ كبير من السودانيين بعد انتفاضة أبريل.كان الدكتور قرنق قد أوضح في كلمته أن الحركة لن تشارك في الانتخابات المزمع إجراؤها في أبريل عام 1986، موضّحاً أنه كان يجب التركيز أولاً على المؤتمر الدستوري لمناقشة وحلّ قضايا السودان، وعقد الانتخابات بعد ذلك. وذكّر الحاضرين أن الوضع العسكري والأمني في الجنوب لن يسمح بقيام الانتخابات هناك.وقد غادر الدكتور قرنق والسيد تادسي الاجتماع بعد إلقاء كلمتيهما، وأخطر الدكتور قرنق المجتمعين أن وفد الحركة الشعبية سيرأسه القائد أروك طون أروك.8استمر النقاش في أجندة الاجتماع على مدى ثلاثة أيام. وقد كان هناك توافقٌ في الرؤى بين معظم أعضاء وفد التجمّع الوطني مع وفد الحركة الشعبية. وبرز الخلاف لتلك الرؤى من مندوبي حزب الأمة – السيد إدريس البنا والدكتور بشير عمر – اللذين اختلفا مع وفد التجمّع في عددٍ من النقاط. وقد تحوّل اللقاء إلى مفاوضاتٍ بين عضوي حزب الأمة من جهة وبقية الحاضرين من وفدي الحركة والتجمّع من الجهة الأخرى. وقد كان عضوا حزب الأمة على اتصالٍ دائم بقيادة الحزب في الخرطوم.لا بد من التذكير أن الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يحضر اللقاء بعد أن أرعبته آلية الجبهة القومية الإسلامية الإعلامية الصاخبة. ويبدو أن ذلك الرعب قد بدأ في الانتقال إلى حزب الأمة أيضاً، فالانتخابات على الأبواب!اتفق الطرفان بعد ثلاثة أيامٍ من التفاوض على عدّة مسائل تمّ تضمينها في الوثيقة التي أصبح اسمها “إعلان كوكا دام” الذي صدر في 24 مارس عام 1986. ووقّع على إعلان كوكا دام السيد عوض الكريم محمد أحمد السكرتير العام للتجمع الوطني لإنقاذ الوطن، والقائد كاربينو كوانين بول، نائب القائد العام للجيش الشعبي لتحرير السودان.9أشار إعلان كوكا دام في بدايته إلى رفض الطرفين لكل أشكال الدكتاتوريات والالتزام التام بالخيار الديمقراطي، وضرورة بناء السودان الجديد الذي يتمتّع فيه الفرد بالحرية الكاملة بعيداً عن كل أشكال الظلم والجهل والمرض، بالإضافة إلى التمتّع الكامل بفوائد الديمقراطية الحقيقية – السودان الجديد الخالي من العنصرية والقبلية والطائفية وكل أشكال الاضطهاد والتمايز. تعرّض الإعلان إلى المحاولات الجادة لوقف إراقة الدماء الناتجة من الحرب الدائرة في السودان، وللإدراك التام بأن العملية التي تقود إلى بناء السودان الجديد يجب أن تبدأ بعقد مؤتمرٍ دستوريٍ والذي هو الأساس الصحيح لبدء بناء السودان الجديد. أكّد الإعلان أن الشروط المسبقة التي تمهّد وتساعد على خلق الجو الملائم لعقد المؤتمر الدستوري هي:(أ) أن تعلن كل القوى السياسية والحكومة التزامهم بمناقشة “مشكلة السودان الأساسية” وليس ما يسمى بمشكلة الجنوب. وسيكون ذلك طبقاً للأجندة المتّفق عليها في الإعلان.(ب) رفع حالة الطوارئ.(ج) إلغاء قوانين سبتمبر 1983، وكل القوانين المقيّدة للحريات.(د) العمل بدستور 1956 المعدّل عام 1964 مع إضافة “الحكم الإقليمي” وأية مسائل أخرى تتفق عليها القوى السياسية.(هـ) إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تمّت بين السودان وأي أقطارٍ أخرى والتي تمسّ سيادة السودان.(و) بذل المحاولات المستمرة بين الطرفين لاتخاذ الإجراءات الضرورية واللازمة لوقف إطلاق النار.أشار الإعلان إلى رؤية الحركة الشعبية بأن الالتزام المعلن بواسطة كل القوى السياسية وحكومة الخرطوم بأن تلك الحكومة سوف تحلّ نفسها، إذا تمّ الاتفاق على ذلك في المؤتمر الدستوري المقترح، ويُستعاض عنها بحكومة قومية انتقالية تُمثِّل كل القوى السياسية، بما فيها الحركة الشعبية وقوات الشعب المسلحة، ضروريٌ جداً لبدء المؤتمر الدستوري المقترح. وقد اتفق الطرفان على إرجاء هذا البند لمناقشات مستفيضة في المستقبل القريب.10اتفق الطرفان على أن المؤتمر الدستوري المقترح سوف يُعقد تحت رايات “السلام والعدالة والمساواة والديمقراطية”، وأن تحتوي أجندة المؤتمر على الآتي:(أ) مشكلة القوميات.(ب) المشكلة الدينية.(ج) حقوق الإنسان الأساسية.(د) نظام الحكم.(هـ) التنمية والتنمية غير المتوازنة.(و) الموارد الطبيعية.(ز) القوات النظامية والترتيبات الأمنية.(ف) مشكلة الثقافة والتعليم.(ع) السياسة الخارجية، وأيّة قضايا أخرى يتفق عليها الطرفان.اتفق الطرفان مبدئياً على أن يعقد المؤتمر الدستوري المقترح بالخرطوم في الأسبوع الثالث من يونيو عام 1986 على أن تسبقه اجتماعات تمهيدية ومشاورات منتظمة بين الطرفين من خلال لجنةٍ مشتركة مكوّنةٍ من خمسة أشخاص من كل طرف، وأن تعقد اللجنة المشتركة اجتماعها الأول في يوم 7 مايو 1986 في أديس أبابا.وكما ذكرنا أعلاه فقد تمّ الاتفاق على عقد المؤتمر الدستوري تحت شعار “السلام والعدالة والمساواة والديمقراطية.” وقد اختُتِم الإعلان بنداءٍ من الطرفين إلى الشعب السوداني مُمثّلاً في أحزابه السياسية المختلفة ونقاباته واتحاداته أن يعملوا على تحقيق الأهداف الوارة في الإعلان.11وهكذا تمّ أولُ لقاءٍ رسميٍ بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ووفد التجمّع الوطني لانقاذ الوطن بعد قرابة العام من انتفاضة أبريل عام 1985. وقد استطاعت الحركة الشعبية فرض طرحها، والذي هو الركيزة الأساسية لميثاقها، من أن القضية ليست قضية جنوب السودان، بل هي قضية السودان ككل، وأن الحل هو السودان الجديد القائم على المساواة في حقوق وواجبات المواطنة لكل السودانيين – السودان الجديد الخالي من العنصرية والقبلية والطائفية وكل أشكال الاضطهاد والتمايز، خصوصاً بسبب الدين أو العرق أو اللغة.منذ تلك اللحظة أصبح شعار السودان الجديد محوراً للجدل الحاد بين السودانيين، اولئك الذين اقتنعوا به ووقعوا في عشقه وتبنّوه كحلٍ متكامل لمشاكل السودان، وفي عرضه للهوية الجديدة – السودانوية، وبين الذين رأوا فيه تهديداً حقيقياً لهوية السودان العربية الإسلامية، وقرّروا الدخول في حربٍ بلا هوادةٍ ضده.12برز في لقاء وإعلان كوكا دام البعد الإقليمي لمشاكل السودان. فقد تعاظم دور إثيوبيا التي استضافت مفاوضات حركة تحرير جنوب السودان وحكومة العقيد جعفر نميري عام 1972، والتي حملت الاتفاقية التي وقّعا عليها في 3 مارس عام 1972 إسم عاصمتها واصبحت تعرف بـ “اتفاقية أديس أبابا”، وشهد على الاتفاقية ممثل امبراطورها.وقد أصبحت إثيوبيا عام 1983، بعد عشرة أعوام من تلك الاتفاقية، المركزَ العسكري والسياسي للحركة الشعبية، ومصدرَ سلاحها وعتادها، والأراضي التي تدرّب فيها محاربيها، والمدخل لعون المعسكر الاشتراكي السياسي والدبلوماسى والعسكري للحركة الشعبية.وها هي إثيوبيا تستضيف بعد أربعة عشر عام من اتفاقية أديس أبابا اللقاء الأول بعد انتفاضة أبريل عام 1985 لممثلين لقيادات الانتفاضة والحركة الشعبية، ويفتتح القائم بأعمال وزير خارجيتها لقاء كوكا دام، ويحث الطرفين على الوصول لاتفاق.ويتجاوز إعلان كوكا دام القضايا الداخلية بمطالبته الحكومة السودانية إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تمّت بين السودان وأي أقطارٍ أخرى، والتي تمسّ سيادة السودان، في إشارةٍ واضحةٍ لاتفاقيتي الدفاع المشترك التي كان الرئيس جعفر نميري قد عقدها مع كلٍ من مصر وليبيا.لم تعد مطالب ومواقف الحركة الشعبية بمقتضى إعلان كوكا دام حصراً على قضايا جنوب السودان، بل امتدت لتشمل كل قضايا السودان شاملةً هويته ونظام حكمه وبرامج تنميته واتفاقياته الخارجية.13كان السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة قد شنّ هجوماً شديداً على قوانين سبتمبر عند صدورها عام 1983، وذكر أنه لاعلاقة لها بالإسلام، وأنها لا تسوي الحبر الذي كُتبت به. ولكن ما إن سقط نميري ونظامه وانتهت المعارضة له بنجاح انتفاضة أبريل حتى بدأ السيد الصادق المهدي في التراجع عن موقفه المعارض والرافض لقوانين سبتمبر.انتقل ذلك الارتباك إلى لقاء كوكا دام. فقد مثّل السيد إدريس البنا والدكتور بشير عمر حزب الأمة في ذلك اللقاء. راوغ الرجلان طويلاً في مسألة إلغاء قوانين سبتمبر، وتواصلت اتصالاتهما بقيادة الحزب في الخرطوم رغم أن الرجلين من قيادات الحزب. فقد شغل السيد إدريس البنا عضوية مجلس رأس الدولة، والدكتور بشير عمر وزارة المالية بعد حوالي الشهرين من إعلان كوكا دام.بسبب ذلك الارتباك فقد تحوّل لقاء كوكا دام إلى مفاوضاتٍ جانبيةٍ بين وفدي التجمّع والحركة الشعبية من جهة، ومندوبي حزب الأمة من جهةٍ أخرى. لكن بعد ثلاثة أيام من التفاوض المكثّف وافق السيد ادريس البنا والدكتور بشير عمر على الصيغة التي صدر بها إعلان كوكا دام.غير أنه بمجرد وصول وفد التجمّع إلى الخرطوم، حيث قابله الآلاف في المطار بالترحيب والهتاف والعناق، بدأ حزب الأمة في التراجع عن موقفه المؤيد لإعلان كوكا دام. فالانتخابات على الأبواب ولن يستطيع حزب الأمة (مثله مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي قاطع لقاء كوكا دام) الصمود أمام الآلة الإعلامية الصاخبة التي بدأت الجبهة القومية الإسلامية في استخدامها ضد إعلان كوكا دام، وضد مقترح إلغاء قوانين سبتمبر.بدأ حزب الأمة في التراجع عن مقررات كوكا دام وفي تأكيد رفضه لإلغاء قوانين سبتمبر. وقد أكّد السيد الصادق المهدي موقفه من هذه القوانين عندما أخبر السيد هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الأمريكية عند زيارته الخرطوم بعد يومين من صدور إعلان كوكا دام أن أيَّ حزبٍ سوداني يوافق على إلغاء قوانين سبتمبر سوف يخسر الانتخابات بسبب ذلك.14إذن ها هي الانتخابات البرلمانية المزمع قيامها في السودان في حوالي الأسبوع من إعلان كوكا دام تلعب دوراً سلبياً في حل مشكلة الجنوب – أو مشكلة السودان كما سمتها الحركة الشعبية – كما فعلت تماماً عام 1965 مع مؤتمر المائدة المستديرة. وفي الحالتين انفض السامر للاستعداد للانتخابات ولمحاولة انتزاع منصبٍ وزاري في الحكومة القادمة. وفي الحالتين فقدت مشكلة جنوب السودان أسبقيتها في القضايا العاجلة في قائمة الأحزاب السودانية.15عليه فلم يكن مستغرباً، والانتخابات على الأبوب، أن يعلن حزب الأمة صراحةً وبلا مواربة رفضه التام لإعلان كوكا دام والغاء قوانين سبتمبر، معلّلاً رفضه بأن الموضوع يحتاج لمزيدٍ من الدراسة، وكأنّ السنوات الثلاثة الماضية لم تكن تكفي لتلك الدراسة. وقد جاء رفض حزب الأمة لإعلان كوكا دام رغم أن برنامج الصحوة الذي فصّل فيه الحزب سياساته وبرامجه الانتخابية تضمّن إلغاء قوانين سبتمبر، كما ذكرنا أعلاه.وهكذا انضم حزب الأمة إلى الجبهة القومية الإسلامية والحزب الاتحادي الديمقراطي في رفض إعلان كوكا دام، وبدأت الأحزاب الثلاثة العمل بهمّةٍ وحركةٍ دؤوبة لوأد مبادئ ومقررات كوكا دام التي تم التوقيع عليها في حضور الدولة الراعية للمؤتمر وعددٍ من المراقبين وممثلي منظمة الوحدة الأفريقية.16كان الطرفان قد اتفقا في كوكا دام على أن تعقد اللجنة المشتركة للتحضير للمؤتمر الدستوري اجتماعها الأول في 7 مايو عام 1986 في أديس أبابا. غير أن هذه اللجنة لم يتم تكوينها في الأساس، وبالتالي لم تكن موجودةً لتعقد اجتماعها.وكان الطرفان قد اتفقا أيضاً على عقد المؤتمر الدستوري في الأسبوع الثالث من يونيو عام 1986، ولكن مرّ الأسبوع الثالث ولا يبدو أن أحداً قد تذكّر ما كان يجب أن يحدث فيه (بما في ذلك أعضاء التجمع!). بل إن ذلك الأسبوع كان في حقيقة الأمر فترةً فاصلةً في الصراع من أجل تشكيل الحكومة، وانشغال الأحزاب وقياداتها بالركوض وراء المناصب الوزارية.كان ذلك الفصل من المسرحية السياسية في السودان تكراراً كاملاً لما حدث في نفس تلك الفترة من عام 1965 بعد الانفضاض المتسرّع والمرتبك لمؤتمر المائدة المستديرة، للتجهيز للانتخابات والركوض وراء المناصب الوزارية.وهكذا توالى إهدار فرص السلام ونقض الوعود، وتبخّرت طموحات وأحلام كوكا دام، ومطالب انتفاضة أبريل بالحل السلمي والعاجل لمشكلة الجنوب، بعد أسابيع قليلة من صدور إعلان كوكا دام. وارتفع صوت البندقية عالياً بدلاً عن الحوار والتفاوض، وتواصل القصف والموت والدمار في الجنوب، مثلما حدث تماماً بعد انفضاض السمار من مؤتمر المائدة المستديرة، وإثر بدء تنفيذ قرار رئيس الوزراء وقتها السيد محمد أحمد محجوب أن حلَّ مشكلة الجنوب يتم عبر البندقية مع الإرهابيين.وقد وجد السيد الصادق المهدي نفسه في هذا الموقف بعد انتخابه رئيساً للوزراء بعد أسابيع قليلة من لقاء كوكا دام. فالخياران المتاحان أمامه كانا هما التفاوض أو الحرب، وليس هناك منزلةٌ بين المنزلتين، فماذا تبقّى من خيارات للسيد الصادق المهدي بعد رفضه إعلان كوكا دام غير البندقية والحرب؟17سوف يتواصل نقاشنا في المقال القادم في محاولات الأحزاب الثلاثة وأد إعلان كوكا دام، وسنوضّح كيف تم لها ذلك في وقتٍ وجيز.*محاضر سابق بكلية القانون بجامعة الخرطوم، والرئيس الحالي لمجلس جامعة الخرطوم.The post إعلان كوكا دام واتفاقية الميرغني-قرنق: دروسٌ للمبادرةِ الرباعية لتفادي تفكيك ما تبقّى من السودان 2 -5 appeared first on صحيفة مداميك.