د. الشفيع خضر سعيدحرب الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023 في السودان، تقترب حثيثا من عامها الثالث. وهي ليست سوى حلقة متقدمة في سلسلة الموت والمعاناة الطويلة التي ظلت تكبل عنق البلاد منذ فجر استقلالها في العام 1956، حيث ظل تاريخ السودان المستقل مضرجا بالدماء ومصحوبا بأنين المعذبين في أرضه. والذي يدفع الثمن هم الأسر الجائعة، والأطفال المتشردون، والنساء المعنفات، وكل من حُرِم من أبسط حقوقه في الحياة الكريمة والأمان.ومع انسداد الأفق، حتى الآن، أمام أي محاولات لإيقاف هذه الحرب المجرمة، فإن كل يوم جديد يمر على السودان وهو يحترق بنيران هذه الحرب، يشكل منعطفا خطيرا يتناسب طرديا مع تهديد وجوده ككيان، ومع تهديد حياة مواطنيه. وفي خضم هذا الدمار الشامل، ومن بين ثنايا رقصات الموت غير المسبوقة في تاريخ السودان الحديث، تبرز قضايا مصيرية تتطلب وقفة جادة من الضمير الإنساني، وتستلزم مقاربات استراتيجية تجمع بين إلحاح التعامل العاجل ورؤية البناء المستقبلي.أولى هذه المقاربات هي كيفية حماية السكان المدنيين باعتبارها أولوية قصوى، وليست خياراً أخلاقياً فحسب، بل التزام قانوني وإنساني، وواجب يتقدم على كل الاعتبارات الأخرى. وللذين يقتلون المدنيين وهم يكبرون ويهللون بفرح وهيستيريا، هو واجب ديني أيضا، إذا كانوا فعلا يؤمنون بمن يصرخون باسمه. ومنذ الأيام الأولى للحرب سلطنا الضوء في كتاباتنا على واجب حماية المدنيين، وقلنا إن ذلك يتحقق من خلال آليات متعددة، تبدأ بالتزام الأطراف المقاتلة بهذا الواجب، ثم بمواصلة الضغط الدبلوماسي الخارجي المكثف، ولا تنتهي عند حدود فرضه بالقوة إذا لزم الأمر، وذلك في إطار الشرعية الدولية، بمعنى تفعيل مفهوم «مسؤولية الحماية» الذي تتبناه الأمم المتحدة، والذي يجيز للجماعة الدولية التدخل، ويمكن أن يتخذ شكل فرض مناطق آمنة محمية دولياً، أو حظر طيران فوق المناطق السكنية، أو نشر مراقبين دوليين مسلحين بصلاحيات قوية لرصد الانتهاكات والإبلاغ عنها فوراً، وردعها إن اقتضى الأمر.ويرتبط واجب حماية المدنيين بإعلان الهدنة المدعومة بآلية رقابة دولية فعالة باعتبارها حبل نجاة للمدنيين، والخطوة الأولى والأكثر إلحاحاً على طريق إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي هذا السياق، الهدنة ليست مجرد اتفاق سياسي بين الأطراف المتحاربة، بل هي شريان الحياة للسكان المدنيين والضمانة الوحيدة لوقف نزيف دمائهم، وهي الجسر الذي سيعبر من خلاله الغذاء والدواء إلى المناطق المنكوبة والمدن المحاصرة. إن كل يوم يمر دون هدنة حقيقية في البلاد هو إعلانٌ جديد عن موتٍ جماعي بطيء، وتجاهل مخز لمأساة إنسانية يمكن تلافيها، ولنا في مأساة الفاشر عظة وعبر. وأعتقد، آن الأوان لتتحلى المؤسسات الأممية، كمجلس الأمن الدولي، والمبادرات، كمجموعة الرباعية، بالشجاعة وتتجاوز مرحلة التنديد والقلق والمناشدة وتنتقل إلى اتخاذ إجراءات عملية وملموسة لحماية المدنيين. كما يجب أن تفرض وتنفذ عقوبات مستهدفة وقاسية على القادة العسكريين والسياسيين والمؤسسات الاقتصادية الداعمة للحرب، وإحالة الملف كاملاً إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإصدار مذكرات توقيف دولية بحقهم. التردد في اتخاذ هذه الإجراءات هو تواطؤ صريح مع استمرار وتفاقم معاناة السكان المدنيين.إن أحد الأسباب الجوهرية لاستمرار دوامة العنف في السودان، وما يغذي دوامة الانتقام ويقوض أي جهد للسلام، هو شعور المرتكبين للانتهاكات والجرائم في إمكانية الإفلات من العقاب. لذلك، يجب أن تكون العدالة ومساءلة جميع مرتكبي الانتهاكات، من الأطراف كافة، ركيزة أساسية في أي مشروع سلام مستقبلي، فلا سلام حقيقي بدون العدالة. أعتقد بضرورة إنشاء آليات عدالة هجينة، دولية ووطنية، بما في ذلك لجان تحقيق دولية، تتمتع بالمصداقية والاستقلالية، وتبدأ عملها منذ الآن في توثيق الجرائم وجمع الأدلة، وصولاً إلى محاكمات عادلة تضمن كشف الحقيقة وتعويض الضحايا، وقطع الطريق على ثقافة الإفلات التي أنهكت جسد الوطن.إن اختبار جدية المجتمع الدولي في وقف هذه الحرب لا يقاس ببيانات الشجب والإدانة، بل بقدرته على التصدي المباشر لداعمي الحرب من الخارج. فلم يعد خافيا على أحد أن هناك تدخلات خارجية تمد الأطراف المتقاتلة بالسلاح والتمويل والدعم اللوجستي. يجب تحديد هذه الأطراف الخارجية بوضوح، وفضح أدوارها علناً، وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية عليها حتى توقف دعمها. لقد فشلت الدبلوماسية الهادئة، وحان وقت الدبلوماسية الخشنة والضغط المكشوف لقطع شريان الحياة عن آلة الحرب. ولكن هل في مقدور المجتمع الدولي فعل ذلك؟وإذا كانت جذور الأزمة الوطنية العامة في البلاد تمتد إلى تراكمات تاريخية من التهميش والفشل في إدارة التنوع، وغياب العدالة في مشاركة السلطة وتوزيع الموارد والثروة، فإنها تفاقمت اليوم إلى حرب ضروس مدمرة، وخطاب كراهية عرقي وإثني مروع. والسؤال المطروح، وفي الحلق غصة: بعد هذا الشرخ الكبير الذي عمّقته الحرب في المجتمع السوداني، هل هناك إمكانية لتضميد الجراح ورتق هذا الشرخ الكبير والعودة مرة أخرى إلى التعايش الأخوي بين إثنيات وقبائل السودان التي أقحمت في الصراع الدموي؟ شخصيا أجيب بنعم متفائلا. فالسودانيون تعايشوا لقرون، وهذا التعايش هو الحالة الطبيعية عبر تاريخ السودان الطويل. والأزمة اليوم هي أزمة نُخَب وحوكمة، وليست حتمية تاريخية أو قدراً مرسوما. والسودانيون قادرون على تجاوز هذه المحن بإرادة صادقة، وبدعم من أصدقائه، وذلك في إطار مشروع وطني شامل ومتوافق عليه. إن إنقاذ السودان هو مسؤولية جماعية، تبدأ بوقف فوري لإطلاق النار، وتمر عبر حماية المدنيين وفرض العدالة، وتنتهي ببناء سلام عادل وشامل يقوم على الاعتراف بالآخر والمساواة بين جميع أبنائه. إنه اختبار حقيقي لضمير الإنسانية، ودرس عملي في أن السلام الذي يُبنى على التنازلات الأخلاقية هو سلام وهمي، وأن السلام الحقيقي هو ذلك الذي تقوم دعائمه على أسس راسخة من العدل والمساواة والكرامة الإنسانية للجميع.The post السودان على المحك! appeared first on صحيفة مداميك.