د. أماني الطويلتشكل التجربة التاريخية لنيلسون مانديلا إطاراً نادراً لفهم إمكانية خروج قيادة سودانية ذات طابع تصالحي أخلاقي – سياسي، قادرة على إنهاء الحرب الحالية وتأسيس دولة جامعة. فمانديلا لم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان نتاج تفاعل معقد بين بيئة نزاع عنصري شديد، وبنية اجتماعية واسعة مطحونة، ومؤسسات قمعية، وأجيال تراكمت فيها الهزائم والانتصارات الجزئية.وعلى رغم أن الظرف السوداني الراهن أكثر تعقيداً من جنوب أفريقيا خلال ثمانينيات القرن الماضي، فإن سؤال هل يمكن أن يظهر مانديلا جديد في السودان؟ يظل ضرورياً في ظل الانهيار الممتد للدولة السودانية واستمرار الحرب، وغياب قيادة وطنية جامعة تتجاوز الاصطفافات العسكرية والقبلية والحزبية.إن البيئة التي أنتجت مانديلا اتسمت بوجود حركة تحرير وطنية ذات تنظيم راسخ (المؤتمر الوطني الأفريقي)، وقيادات متعددة تراكمت خبراتها السياسية والنقابية، إضافة إلى وجود مناخ دولي ضاغط ضد نظام الفصل العنصري. هذه العناصر صنعت شروطاً مكنت مانديلا من أن يتحول من معتقل سياسي إلى مرجعية أخلاقية.أما في الحالة السودانية، فنحن أمام حرب متعددة الجبهات، وصراعات تتجاوز دولة واحدة إلى أربعة مستويات متداخلة، نزاع عسكري على مركز الحكم، وتنافس على الموارد، وتدخلات إقليمية، وانقسام اجتماعي وقبلي يتجدد في كل ولاية. ولذلك يصبح السؤال الحقيقي هو هل يمكن للبيئة السودانية أن تنتج زعيماً قادراً على أن يحل محل الحرب؟ أم أن التعقيد الراهن يمنع ظهور أية قيادة جامعة في المدى المنظور؟في تقديرنا تنبع أهمية المقارنة هنا من أن السودان لا يعاني فقط غياب القيادة، بل تفكك نخبه الحزبية والنقابية، وهو تفكك سبق الحرب بأعوام، وظهر مع انهيار التجربة القصيرة بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول). فالساحة السودانية ممتلئة بقيادات سياسية وعسكرية، لكنها تفتقر إلى “زعامة جامعة” قادرة على تمثيل البلاد كجسم واحد. هذه الفجوة تقود إلى استمرار الحرب، لأنها تمنع أية صيغة للتسوية يمكن أن يلتف حولها الجمهور. فمانديلا لم ينجح لأنه كان فرداً استثنائياً فحسب، بل لأنه حظي ببنية تنظيمية وفكرية سمحت له بأن يمثل الصوت الوطني الجامع. في المقابل، يواجه أي “مانديلا سوداني” مفترض غياب هذه البنية الضرورية.وعند النظر إلى الفرص التاريخية التي أنتجت مانديلا، يتبين أن هناك ثلاثة عناصر شكلت محور صعوده، الشرعية الأخلاقية الناتجة من أعوام السجن والنضال، والقدرة على الجمع بين المقاومة والمساومة، ثم وجود خطاب وطني شامل يتجاوز الأيديولوجيات الضيقة.أما في السودان، فتغيب الشرعية الأخلاقية الجامعة مع حال الانقسام إلى ائتلافات متعددة، كلها فقدت جزءاً من رصيدها الشعبي بسبب تكتيكات الحرب أو الاصطفافات الدولية أو الصراع على النفوذ.ومع ذلك، فإن تجارب ما بعد الحرب تؤكد أن لحظات الانهيار الكبير كثيراً ما تخلق فرصاً لظهور قيادة جديدة. ففي فترات التحول الكبرى، تبرز شخصيات لم تكن ضمن النخب التقليدية، لكنها تستمد شرعيتها من خطاب وطني غير مسلح، ومن موقعها كجسر بين الأطراف. والسودان اليوم يشهد تفككاً في مراكز السلطة القديمة، وانهياراً في الأجهزة التنفيذية، وظهور فواعل محلية جديدة مثل لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني وبعض القيادات الفكرية. هذه المساحات تشكل بيئة أولية يمكن أن تفرز شخصية جامعة، إذا توافرت ثلاثة شروط، أن تكون خارج الصراع العسكري، وأن تحمل صدقية حقيقية تجاه الجماهير، وأن تكون قادرة على التواصل مع القوى الإقليمية والدولية بوصفها وسيطاً لا طرفاً.ويحتاج السودان إلى زعيم بمواصفات مختلفة عن مانديلا في بعض الجوانب، لكنه قريب منه في جوهر الفكرة، زعامة قادرة على مخاطبة الأطراف المتحاربة بلغة وطنية، وعلى تحمل كلفة الغفران السياسي، وعلى فتح آفاق جديدة تتجاوز خطاب الانتصار العسكري. فمانديلا لم ينتصر بالسلاح، بل انتصر بخطاب تجاوز فكرة الثأر.في السودان، يحتاج الجمهور إلى شخصية تستطيع أن تبني مشروعاً وطنياً جديداً قائماً على إعادة تعريف الدولة والمعنى الحقيقي للمواطنة، بحيث لا تكون الهوية السياسية امتداداً للقبيلة أو للسلاح، بل عقداً اجتماعياً جديداً يضع نهاية لدوامة الانقلابات والحروب.إن مسار الحرب الحالية يكشف عن أن القوى العسكرية والمدنية، على حد سواء، تسهم في تعميق الانقسام. فالحكومة الموجودة في بورتسودان تبدو عاجزة عن إنتاج خطاب وطني جامع، بينما قوات “الدعم السريع” تعتمد على ترسانة عسكرية وخطاب يتأسس على توازن القوة وليس على شرعية سياسية. وإن القوى السياسية المدنية، على رغم محاولاتها المتعددة لتشكيل جبهات عريضة، ظلت رهينة الانقسامات الأيديولوجية والشخصية. وفي ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة إلى زعامة أخلاقية – سياسية ضرورة وجودية، لا مجرد خيار سياسي.ومن هنا تبرز فكرة أن السودان قد يحتاج إلى زعامة تأتي من خارج البنية السياسية التقليدية. فمانديلا نفسه كان نتاج حركة سياسية عريضة، لكنه في لحظة التحول تجاوز الدور الحزبي ليتحول إلى رمز وطني. وفي السودان، قد يكون ظهور شخصية من خارج مؤسسات الحكم والمعارضة التقليدية، أو من داخل تيارات المجتمع المدني أحد السيناريوهات الواقعية، لكن هذه الفرصة لن تتحقق إلا إذا طورت تلك النخب الجديدة خطاباً وطنياً يتجاوز المحاور الجهوية، وامتلكت قدرة على مخاطبة المجتمعين المحلي والإقليمي والدولي بوصفها شريكاً، ذلك أن ظهور “مانديلا سوداني” لا يمكن إلا أن يكون نتيجة لحظة نضج داخلي تجبر القوى المختلفة على إعادة النظر في مسار الحرب، وقدرة على بلورة مقاربة تمتلك قدراً من خيال سياسي، فالحرب الدائرة أنتجت خطاباً يقوم على نزع الأهلية السياسية عن الخصوم، واعتبار التسوية خيانة، وإضفاء بعد أخلاقي زائف على العمليات العسكرية.في ظل هذا المناخ، يصبح من الصعب على أية قيادة أن تطرح فكرة التسوية من دون أن تُعتبر مصطفة مع أحد أطراف الحرب. مما يعد تحدياً مركزياً ويخلق حاجزاً يمنع ظهور خطاب مشابه للخطاب الذي تبناه مانديلا، القائم على الاعتراف المتبادل ونزع سلاح اللغة قبل نزع السلاح الميداني.في هذا السياق، فإن فرص ظهور مانديلا سوداني تمر عبر لحظة إدراك جماعي بأن الحرب لا تقدم حلاً، وأن استمرارها يهدد وجود الدولة نفسها. وعندما تتولد قناعة عامة بأن الحل العسكري مستحيل، تظهر الحاجة إلى زعامة قادرة على جمع المتعبين من الحرب، أولئك الذين يدركون أن السلام ليس مجرد اتفاق بين جنرالات، بل إعادة تأسيس لعقد اجتماعي كامل. وتلك اللحظة يمكن أن تنتج زعيماً ممكناً، مثلما أنتجت جنوب أفريقيا مانديلا بعد عقود من الألم.إجمالاً يبقى أن ظهور زعامة تاريخية سودانية ليس حدثاً ميكانيكياً، بل نتيجة تفاعل بين بيئة سياسية منهارة ورغبة عامة في الخلاص وقدرة شخصية. وإذا كانت الحرب السودانية وصلت اليوم إلى مستويات غير مسبوقة، فإن هذا الانهيار نفسه قد يصبح الأرض التي تنبت منها زعامة جديدة، لكن ذلك يتطلب إرادة جماعية، وضغطاً شعبياً، واستعداداً من القوى السياسية لاستقبال زعامة من خارج صفوفها، تماماً كما قبلت نخب جنوب أفريقيا بمانديلا على رغم أعوام الخصومة.في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن السودان يقف اليوم أمام خيارين، إما استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، أو إنتاج زعامة وطنية جامعة. والتاريخ يعلمنا أن الشعوب، حين تصل إلى لحظة اليأس، تبحث عن صوت مختلف يحمل وعداً بالخلاص. قد لا يكون ذلك الصوت نسخة جديدة من مانديلا، لكنه يحتاج إلى أن يحمل الروح نفسها، روح المصالحة، والقدرة على تجاوز الماضي، والإيمان بأن الدولة يمكن أن تُبنى من جديد.وعليه، فإن إمكانية ظهور مانديلا سوداني ليست مجرد تساؤل نظري، بل ضرورة سياسية يمكن أن تحدد مستقبل السودان. فالحروب، مهما طال أمدها، تنتهي في لحظة ما، لكن السؤال الحقيقي هو من سيقود عملية الخروج من الظلام؟ ومن سيملك القدرة على إعادة تعريف الوطنية السودانية؟ ومن سيقنع الشعب بأن السلام ليس استسلاماً، بل يعد استرداداً للحياة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة قد تحدد هوية الزعيم القادم، إذا كان السودان مقدراً له أن يشهد ولادة مانديلا جديد.اندبندنت عربيةThe post هل من مانديلا “سوداني”؟ appeared first on صحيفة مداميك.