خبير سياسي أمريكي: تراجع الغرب وصعود قوى الجنوب يمهّدان لقيام نظام عالمي جديد

Wait 5 sec.

في الوقت الذي يعمق فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فوضى النظام الاقتصادي العالمي بحروبه التجارية، وفوضى النظام الدولي بإثارة الشكوك حول قوة التزام إدارته بحلف "الناتو" والانسحاب من المؤسسات الدولية، يشعر البعض بقلق كبير من أن تقود هذه التحركات إلى انهيار النظام العالمي، خاصة في ظل الوتيرة المتسارعة لقرارات ترامب المناوئة لقواعد النظام العالمي القائم.ورغم إصرار كثير من الليبراليين الدوليين على أن الهيمنة الأمريكية ستصمد وأن النظام العالمي الذي شيّدته واشنطن ــ كما يقول أستاذ جامعة برينستون جون إيكينبري ــ "سيبقى ويزدهر، بل وسيسيطر حتى على منافسيه مثل الصين"، إلا أن رئاسة ترامب الثانية قدمت دعما كبيرا للحجة القائلة إنه لا يدمّر النظام الليبرالي فقط، بل يقوّض فكرة النظام العالمي نفسها.غير أن البروفيسور أميتاف أشاريا، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بواشنطن، يرى أنه سيكون من الخطأ النظر إلى المسألة بهذا التطرف.ويقول أشاريا، في تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" البريطاني، إن انسحاب الولايات المتحدة من دورها الدولي لن يؤدي إلى انهيار شامل، بل إلى نشوء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، مع عودة العولمة في نسخة جديدة تقودها دول آسيا والجنوب العالمي.ويرى أشاريا أن ترامب "لم يخلق أزمة النظام العالمي الراهن، بل جاء كعامل مسرّع لتقويض نظام كان يتآكل بالفعل، وأن أي نظام جديد سينبثق من هذه الأزمة سيحتفظ ببعض سمات النظام القديم. وفي الوقت ذاته، لن تختفي العولمة، وإنما ستتخذ منعطفا شرقيا جديدا، حيث تبرز أشكال جديدة من الحوكمة العالمية أكثر حضورا في مرحلة ما بعد ترامب".ويقول أشاريا الأمريكي من أصل هندي إن افتراض اعتماد مصير النظام العالمي على الهيمنة الأمريكية والغربية العالمية، غير صحيح لآن العديد من الأفكار الرئيسية التي يقوم عليها هذا النظام والقواعد والمؤسسات التي تدعمه انبثقت من مجموعة من الدول والمناطق، وليس فقط من الغرب كما أن هذا النظام تطور وطور العديد من عناصره التأسيسية والتقدمية مثل الانفتاح الاقتصادي والتعاون الدولي والقيم الإنسانية بقيادة فاعلة تتجاوز الغرب.ويرى أشاريا، وهو أمريكي من أصل هندي، أن "ربط مصير النظام العالمي بالهيمنة الأمريكية والغربية غير دقيق، إذ إن العديد من الأفكار الرئيسية التي يقوم عليها هذا النظام والقواعد والمؤسسات التي تدعمه انبثقت من مجموعة من الدول والمناطق، وليس فقط من الغرب كما أن هذا النظام تطور وطور العديد من عناصره التأسيسية والتقدمية مثل الانفتاح الاقتصادي والتعاون الدولي والقيم الإنسانية بقيادة فاعلة تتجاوز الغرب".ويضيف: "إذا كانت المساهمات الغربية في النظام العالمي بالغة الأهمية، فإن مساهمات دول الجنوب العالمي لا تقل أهمية. فهذه الدول إلى جانب دول أكبر كالهند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا، ساهمت في إرساء دعائم المعايير والمؤسسات التي تشكل جوهر النظام العالمي وحافظت عليها، كما كانت دول الجنوب العالمي أكثر صراحة من الدول الغربية في إدانة ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة، والذي أصبح بصورة متزايدة يعتبر إبادة جماعية".ويطرح أشاريا تصورا للنظام العالمي الناشئ يتمثل في التعددية، التي تتميز بثلاث سمات مميزة.1. غياب الهيمنة المطلقة: لن تسيطر دولة واحدة أو مجموعة قوى على العالم. ستظل الولايات المتحدة الأقوى عسكريا وماليا وتكنولوجيا، بينما ستبرز الصين على صعيد التنمية والتجارة، إن لم يكن في القوة المالية، كما سيظل الاتحاد الأوروبي قوة في تنظيم التجارة والتهديدات البيئية. كما يمكن للقوى الإقليمية، التي تعمل من خلال هيئات إقليمية، مثل إندونيسيا في رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" وجنوب أفريقيا في الاتحاد الأفريقي، أن تصبح أكثر أهمية في إدارة الشؤون السياسية والأمنية والتجارية. ولا يقتصر هذا بالضرورة على أعضاء مجموعة البريكس، بل يشمل دولا مثل المكسيك ونيجيريا وتركيا.2. التحالفات المرنة: ستتجنب الدول التحالفات الجامدة، وتلجأ إلى سياسات "التحوط"، أي الميل إلى قوة في قضية معينة والحفاظ على علاقات قوية مع قوة أخرى في قضايا مختلفة. فقد تتلقى دول استثمارات من الصين، بينما تواصل الاعتماد على الولايات المتحدة وحلفائها في الشؤون الأمنية لهذا السبب، لا أعتقد أن فكرة عودة مجال نفوذ القوى العظمى مازالت ذات مصداقية.3. توزيع الأدوار: لن تحتكر أي دولة قيادة جميع الملفات الدولية. كما ذكرنا سابقا  بينما قد تحتفظ الولايات المتحدة بحلفاء أمنيين، فقد تهيمن الصين كشريك تجاري على المسرح العالمي؛ ويسهم الاتحاد الأوروبي في حماية المناخ، كما أن دول الجنوب العالمي ستحصل على الدعم الأمني والاقتصادي والتكنولوجي والصحي من مجموعة متنوعة من الشركاء كل فيما يتفوق فيه، ومنهم بريطانيا وألمانيا والهند وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل والمملكة العربية السعودية، حسب المجالات المعنية. وبذلك، قد يتمكن الجنوب العالمي من ممارسة دور أكبر في تحديد ما يحصل عليه وكيفية الحصول عليه.ويخلص أشاريا إلى أن النظام العالمي الجديد سيطيح بفكرة الانقسام التقليدي بين “الغرب والآخرين". فقد وجّه ترامب، بتشكيكه في “الناتو” وفرضه رسوما جمركية على أصدقاء الولايات المتحدة ومنافسيها على حدٍ سواء، ضربة قاسية ــ وربما قاتلة ــ لفكرة الغرب. وكما قالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، في أبريل الماضي: "لم يعد الغرب كما عرفناه موجودا".ويرى أن هذا التطور ليس سلبيا، بل يفتح آفاقا جديدة للتعاون العالمي، في حين ستصبح تكتلات مثل مجموعة السبع عتيقة، إن لم تكن منقرضة، ما لم تتوسع وتتكيف مع المشهد المتغير. مضيفا:  "هذا لا يعني أن مجموعات الدول غير الغربية، مثل مجموعة البريكس+ التي تم الترويج لها كثيرا، ستتولى زمام التعددية. ففي حين أن كتلة البريكس تتمتع بأهمية رمزية، إلا أن هناك منافسات داخلية بين أعضائها مثل المنافسة بين الصين والهند، والانحراف المحتمل لإندونيسيا ومصر عن أجندة الصين".ويتابع أشاريا: "إذا كان ترامب يستطيع حاليا إجبار الدول على إبرام اتفاقيات تجارية ثنائية تعطي الولايات المتحدة مزايا نسبية، ستظل الترتيبات الثنائية والإقليمية الصغيرة للدول قائمة. وغالبا ما تكون هذه الترتيبات التي ينأى عنها ترامب، مكملة للتعاون الدولي متعدد الأطراف. في الوقت نفسه لا يوجد ما يدعو إلى تصور تراجع احتمالية بقاء معايير التعددية والمعاملة بالمثل والمساعدة الإنسانية وحماية البيئة، حتى وإن ضعفت، مع إمكانية إحيائها وتعزيزها مرة أخرى بعد مغادرة ترامب البيت الأبيض".وقد ينتقل وفقا للخبير الأمريكي، التعاون الدولي إلى نمط "العالم ناقص واحد"، بحيث تتعدد الاتفاقيات والمؤسسات متعددة الأطراف دون مشاركة الولايات المتحدة، مع ترك الباب مفتوحا لعودتها بعد ترامب. كما أن "الترامبية" بما تمثله من تهديد لمصالح وثوابت الدول الغربية نفسها، قد تشجع هذه الدول على البحث عن المزيد من الشركاء التجاريين في الجنوب العالمي، كما حدث في اتفاقية التجارة الحرة بين بريطانيا والهند مؤخرا، ومساعي الاتحاد الأوروبي للدخول في اتفاقيات تجارية مع دول الجنوب العالمي، بحسب أشاريا.وفي ظل الصورة القاتمة التي تخيم على جزء كبير من التفكير في النظام العالمي اليوم، يرى أشاريا أنه "من المفيد إدراك أن هذا النظام لا يتلاشى وإنما يتغير. وإذا لم يتعرض العالم لكارثة نووية، فسيظهر نظام دولي جديد على حساب النظام القديم، مع اختلافات جوهرية لتصحيح عيوبه، والاحتفاظ بإيجابياته".ويختتم البروفيسور أميتاف أشاريا، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بواشنطن بالقول: "لذا لا ينبغي الاستسلام للنبوءة التي تقول إن النظام العالمي سينهار لأن الولايات المتحدة قد خرجت عن مسارها. لأن الواقع عكس ذلك، ففي مواجهة قوى الاضطراب والفوضى، هناك أيضا قوى الاستمرارية والتوافق، واستكشاف الإمكانيات، كما قال المؤرخ ابن خلدون في القرن الرابع عشر، لنشهد 'عودة العالم إلى الوجود' وبالتالي فإن تراجع الغرب لن يعني تفكك النظام العالمي وإنما يعني صعود الآخرين في العالم".المصدر: أ ب