الفجوة

Wait 5 sec.

مهدي رابح بريراسترعى انتباهي مؤخرا التناقض الصارخ في ردود الفعل بين الترحيب البالغ للقوى المدنية الديمقراطية ببيان الرباعية الصادر في 13 سبتمبر 2025م وبالمقابل التغافل شبه التام, رغم أهميته, لتقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، والمعنون ” السودان، حرب الفظائع” والصادر قبله ببضعة أيام فقط.وهو تناقض له مدلولاته على صعيد المقاربات المتبناة تجاه حل الأزمة من قبل القوى الساعية لوقف الحرب، ويكشف حجم الفجوة بينها وما يمكن تحقيقه بالفعل.ودون التقليل من أهمية بيان الرباعية والذي شمل اتفاق الولايات المتحدة الامريكية ومصر والإمارات والمملكة العربية السعودية على مبادئ مشتركة لإنهاء الحرب الا انه من الواجب إبداء بعض التحفظات على قدرته علي ذلك واستعادة مدنية الدولة.التحفظ الأول يأتي من تقييم قدرة ورغبة الدول المكونة للرباعية وأجندتها خلف هذه الخطوة, في الإدارة الجديدة للولايات المتحدة, والتي تسعى لترسيخ مكانة بلادها كأقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا Make America Great Again (MAGA), وحسب القراءة الواقعية بناء على سياساتها العامة المعلنة والمتبعة, لا تضع قضية حقوق الإنسان والدمقرطة في مقدمة اجنداتها بدليل ايقافها لأغلب برامج المساعدات الإنسانية او الداعمة لعمليات التحول وابدأها صراحة, مرارا وتكرارا, عدم رغبتها الخوض في أي تدخل عسكري مستقبلا. وهو ما يدفعنا للاستنتاج بأن اهتمامها بالسودان من المرجح يأتي في إطار محاور اخري نذكر أهمها , الأول خدمة خطها السياسي الحالي تجاه الحكومة الإسرائيلية اليمنية المتطرفة والداعم للجريمة الإنسانية المروعة المرتكبة تجاه المدنيين الفلسطينيين في غزة والتي تخطت أهدافها القضاء علي منظمة حماس الإرهابية -ردا علي ما ارتكبته هذه من جرائم مروعة في حق المدنيين الإسرائيليين في السابع من أكتوبر 2023م- الي القضاء علي أي أمل مستقبلي في الحل السياسي السلمي القائم علي مبدأ الدولتين. بل ذهب السيد دونالد ترامب الي ابعد من ذلك وبسخرية سوداوية باستشراف مشروعا عقاريا فوق ركام هذه المدينة المكلومة بعد تهجير ما تبقى من سكانها الي أي مكان آخر في العالم, بما فيه السودان كأحد المنافي المقترحة.المحور الثاني الجدير بذكره والذي لا يقل أهمية هو المساهمة في تعظيم فرص الرئيس الأمريكي لنيل جائزة نوبل للسلام والتي يبدو من خلال تصريحاته المثابرة ومن خلال عديد المؤشرات في سياسته الخارجية المتبعة تجاه الصراعات في العالم انها هدفه الأسمى المنشود حاليا.أما مصر والامارات والسعودية, و وضعنا جانبا مواقفها المعادية للتحول الديموقراطي خلال الفترة الانتقالية ودعمها لانقلاب برهان وحميتي في أكتوبر 2021م, فكل منها يقف عمليا خلف أحد طرفي الحرب بفاعلية, بل يمكن اعتبار سياسات تلك الدول الجارة تجاه بلادنا أحد العناصر التي تلعب دورا أساسيا في استمرار الحرب وتمددها بدعمهم ماليا وعسكريا وسياسيا طرفي الحرب لتحقيق أجندات متناقضة. اجندات يمكن ايجازها ما بين التنافس لترسيخ نفوذها علي شواطئ البحر الأحمر والسيطرة علي الموارد الطبيعية وأهمها الأراضي الخصبة الشاسعة والمياه العذبة, والتي ينظر اليها استراتيجيا, كثروات المستقبل الأكبر قيمة والتي من المتوقع ان تأخذ مكان الثروات المعدنية والبترولية خلال أجيال قليلة قادمة**. ويمكن قراءة دوافع توقيع هذه الدول علي المبادئ الأولية المعلنة في البيان, مع التسليم علي تناقض اجنداتها تجاه السودان والتقاطع الحاد وغير القابل للتصالح تجاه مصالحها, في رضوخ مؤقت وانحناء لعاصفة الضغط الدبلوماسي للمبعوث الأمريكي باعتبار ما يربطها من علاقات عضوية وتاريخية مع الولايات المتحدة وفي سياق واقع جيوسياسي بالغ التوتر في المنطقة.الجانب الثاني الذي يستدعي التحفظ هو الجانب المنهجي الذي صاحب الإعداد لهذا البيان والذي تضمن مفاوضات سرية مع قيادات الجيش والدعم السريع واستبعد أي حوار مع المدنيين أصحاب المصلحة الحقيقية في إيقاف الحرب ومن يدفعون حقا الثمن الأعلى منذ اندلاعها.الجانب الثالث هو ما لم يتضمنه هذا البيان فعليا وهو أولا الالتزام المباشر من مصر والامارات والسعودية بالامتناع عن دعم الطرفين بأي شكل من الاشكال, فالبيان رغم ما تضمن في فقرته الخامسة من ” إنهاء الدعم العسكري الخارجي هو ضرورة لإنهاء النزاع.” الا ان الواقع يقول ان الدعم الحقيقي , وباستثناء بعض الضربات الجوية المباشرة غير المعترف بها, يتم عبر تمويلهم وسندهم المالي السياسي والدبلوماسي. وثانيا الإشارة الي الدعم السريع والجيش كجهات ارتكبت انتهاكات كبيرة لحقوق الانسان ترقي لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والاكتفاء بدلا عن ذلك بالإشارة الي الاخوان المسلمين, تلك البطة العرجاء, وهو ما يؤكد ما أشرنا اليه أعلاه من محاور اهتمام الجانب الأمريكي.فإسلاميو السودان, مع التسليم بدورهم في إشعال الحرب والتمهيد لها وارتكاب مليشيات مرتبطة بها جرائم مروعة , الا ان تصنيفها كمجموعة مدفوعة بأيديولوجيا دينية متماسكة, مساواة بمثيلاتها كحماس او حزب الله فيه بعض الإشكالات ربما نتطرق اليها في مقال اخر لكن دعونا اختصارا نستشهد هنا بمقولة كبير الإرهابيين أسامة بن لادن حينما وصفهم كمزيج من الإسلام والمافيا. فهم وباستثناء بعض السذج مجموعة من أصحاب المصالح الاقتصادية الذين نهبوا , خلال حكمهم الذي امتد لثلاثين عاما, ثروات البلاد عبر سيطرتهم على اجهزة الدولة لعقود وعلى راسها الأجهزة الأمنية والعسكرية والتي تم تحويلها في إطار نظام الحكم الكليبتوقراطي “اللصوصي” الي أدوات للقمع ومراكمة الثروات. وباعتماد هذا التصنيف الموضوعي فان قيادة الدعم السريع تعتبر دون ادني شك ركنا اساسيا من اركان هذا التجمع الاحتكاري “الكارتيل الاجرامي”. وما الحرب, رغم اتخاذها اليوم ابعادا اخري جهوية وعنصرية واقليمية, الا نتاجا لانفجار التناقضات داخل ذلك الكارتيل.وهو ما يدفعنا الي الاعتقاد بأن الهدف من الخطوات التي تقوم بها الرباعية هو الوصول الي وقف سريع للقتال او ما يسمي في العامية السياسية Quick Fix اصلاح سريع لا يخاطب أسباب الازمة في عمقها ويسعي لاتفاق متعجل للسلام من المرجح انه, كما كل اتفاقيات السلام السابقة في السودان, سيقود الي تقاسم للسلطة والنفوذ بين امراء الحرب ومن المؤكد انه لن يؤدي الي سلام دائم او أي درجة من درجات التحول المدني الديموقراطي. وهو ما يعني في سياق قضية بتعقيد الازمة السودانية , ترسيخ مبدأ مكافاة العنف والافلات من العقاب وربما تشجيع امراء حرب ومغامرين جدد مدعومين من فاعلين اقليميين ودوليين اخرين للخوض في غمار هذه العملية الدموية المربحة, سياسيا وماليا.لكن ورغم التحفظات المذكورة فان هذه الخطوات, حتي ولو لم تكن ناجعة علي المدي الطويل او تؤدي الي سلام مستدام, فإنها تستحق التشجيع طالما انها قد تؤدي الي هدنة ربما تسمح بفتح مسارات المساعدات الإنسانية ولو لأشهر والحفاظ علي ارواح مئات الاف السودانيين والسودانيات المدنيين المهددين بخطر الموت ذبحا, قصفا, جوعا ومرضا.هذا الوضع الإنساني بالغ الخطورة يحيلنا مجددا الي تناول تقرير البعثة الدولية المهمل تماما من قبل المدنيين.يذكر التقرير في موجزه ان عمليات التحقيق اثبتت ضلوع طرفي الحرب وحلفائهم في انتهاكات لحقوق الانسان والقانون الدولي بما يرقي للجرائم ضد الإنسانية كالإعدامات خارج إطار القانون والتجويع والاغتصاب والتدمير الممنهج ثم يسترسل بالأدلة المفصلة لهذه الجرائم ويصل الي استنتاجات أهمها انه ووفقا لبرنامج الأغذية العالمي أن السودان علي شفير أن يصبح أسوأ أزمة جوع في العالم في التاريخ الحديث.ورغم ما تضمنته توصيات هذا التقرير من تراجع نسبي مقارنة بتقريرها في السادس من سبتمبر من العام الماضي, والذي ذكر في أحد فقراته مطلبا بنشر قوة مستقلة وحيادية بولاية واضحة لحماية المدنيين الا انها تظل توصيات هامة تشمل ضرورة وقف القتال ومجابهة الازمة الإنسانية وتحقيق العدالة.السؤال المشروع يبقي إذا لماذا يُهمل التقرير بينما يهلّل للبيان من قبل الرفاق …؟في تقديري ان المدنيين الديموقراطيين ما زالوا منغلقين في تموضعهم خلال العملية السياسية التي مهدت للاتفاق الاطاري, وهي عملية سياسية حاذقة كانوا يمتلكون فيها أداتين اساسيتين غير متاحتين حاليا. وهنا اقصد الدعم الشعبي وضغط الشارع بانتفاء الفضاء المدني وعسكرته نتاج الحرب, وتراجع الدعم الدولي والإقليمي للمدنيين الديموقراطيين وبالمقابل محدودية تأثيرهم على ما يتم اتخاذه من خطوات تجاه ازمة السودان من قبل تلك القوي, وان استمات البعض في إعطاء انطباع مغاير , تصريح د. عبد الله حمدوك بتطابق بيان الرباعية مع رؤية صمود نموذجا.بالتالي يظل بعض الرفاق يؤمنون في قدرتهم المناورة السياسية وإقناع امراء الحرب, باستثناء الاسلامويين, بالامتثال لصوت العقل والضمير, مع من يفتقدون كلا الفضيلتين اصلا, و في ظل واقع جديد لا يمثل فيه المدنيون وزنا سياسيا معتبرا وفي غياب مشروع مفصل وخارطة طريق تتجاوز تلك المبادئ الموجزة التي يتم تكرارها برتابة في البيانات المتواترة, والتي أصبحت تعني كل شيء ولا شيء, كالتحول المدني الديموقراطي والإصلاح الأمني والبناء الدستوري والعدالة الانتقالية …الخالخلاصة هي انه, وبعد ما يقارب الالف يوم من الحرب ومئات الاف القتلى وملايين الجوعي والمشردين من الواجب الاعتراف بان المقاربات الحالية للقوي المدنية الديموقراطية التي تسعي لوقف الحرب اثبتت عقمها ولا يمكنها ان تفضي الي حل مستدام, ومن الواجب البحث عن سبل جديدة خارج صناديق العملية السياسية السابقة ودور الوسيط الذي ادي لتجميد فاعلية اهم فاعل في الساحة السياسية السودانية بمعيار قدرته احداث التغيير المنشود نحو دولة تنعم بالسلام وتسع الجميع.في التقديري ان الوقت لم يفت بعد وما زالت هنالك أدوات يمكن استغلالها لاستعادة حيوية دورهم وفرض وجودهم علي طاولة مفاوضات قادمة, وتقرير البعثة الدولية المستقلة هي اسطع مثال علي ذلك.أعتقد, اعتقاد العجائز كما يقال, انه لن يصل السودان الي مرافئ الاستقرار دون ان يمر ذلك بعملية سياسية تفضي الي سلام مبني حول مشروع تحول مدني ديموقراطي واضح عميق وطويل المدي وان الحاملين لهذا المشروع لن يتسني لهم الجلوس علي طاولة المفاوضات دون اضعاف اطراف الحرب وهذا لن يحدث دون الاستناد علي جرائمهم, كتلك المثبتة في التقرير, لحصارهم قانونيا وتقديمهم للعدالة الدولية وحصارهم معنويا بكشف حقائق مدي اجرامهم وفسادهم ودون قطع موارد تمويلهم للحرب وموارد اثرائهم واثراء تجار الحرب والانتهازيين المستفيدين منها. وهو طريق شاق لكنه ممكن, فقد اثبتت تجارب اخري في القارة, ليبيريا نموذجا, نجاعتها في نهاية الامر.الشرط الثاني بجانب اضعاف طرفي الحرب هو العمل الجاد علي تطوير مشروع سياسي احولي متدرج وتصور عملية انتقالية متسلسلة يمثل البناء الدستوري خيطه الناظم وبناء قطاع امني وعسكري وطني ومهني محترف اهم ركائزه.رفاقي الديسمبريون , قوموا الي ثورتكم يرحمكم الله.The post الفجوة appeared first on صحيفة مداميك.