بقلم: عاطف عبداللهالدكتور مجدي إسحاق، نطّاس النفسِ السياسية السودانية، لا يألو جهداً في تضميد جراح تلك النفس المثقلة بالتشوّهات والابتلاءات، حيث يتداخل فيها التاريخ بالواقع، واليأس بالأمل. يعمل الدكتور مجدي في واحدٍ من أعقد الحقول وأكثرها وعورة: حقل النفوس البشرية بما تحمله من تقلبات وأزمات. وهو لا يكتفي بمجرد التحليل والكشف عن مواطن الخلل والضعف، بل يسعى إلى تقديم مقاربات علاجية تمهّد لبداية تصحيح جماعي لواقعنا السياسي.سلاحه في مواجهة الجهل هو الكلمة الواعية، ومبضعه في معالجة الخلل هو علمُ النفس السياسي، الذي يوظّفه عبر الندوات والكتب والمقالات. وقد قدّم مؤخراً ندوتين بارزتين الأولى عبر منبر «كلوب هاوس» بتاريخ الرابع من سبتمبر والثانية على صفحته في «فيسبوك»، في الخامسة عشر من الشهر الجاري، ويسعدني أن أتناولهما هنا بالتقديم والتحليل، طمعاً في تعميم الفائدة وتوسيع دائرة النقاش.وعلى الرغم من أن المحاضرتين مرتبطتان وتتناولان الموضوع نفسه (الانفصال والانقسام من منظور علم النفس السياسي)، إلا أنني سأقسّم هذا التناول إلى جزأين؛ حتى لا أطيل على القارئ، ولأمنح كل جانبٍ حقَّه من التركيز.الجزء الثانيمع الدكتور مجدي إسحق على صفحته في Facbookhttps://www.facebook.com/magdishagندوة الدكتور مجدي إسحاق: قراءة في علم النفس السياسي وأزمة الهوية السودانية“المعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على الهوية. إذا خسرناها، خسرنا الوطن كله.”في ندوته الأخيرة على صفحته في فيسبوك، واصل الدكتور مجدي إسحاق مشروعه الفكري حول علم النفس السياسي كمدخل لفهم الواقع السوداني المأزوم. قدّم أطروحة شديدة التركيز على البعد النفسي والاجتماعي للأزمة، معتبراً أن قراءة الواقع بأمانينا أو بعواطفنا لا تكفي، وأن المطلوب هو تشخيص علمي دقيق للبنية النفسية للجماهير وعلاقتها بالدولة والسلطة.الانقسام قنبلة موقوتةبدأ الدكتور مجدي حديثه بالتنبيه إلى خطورة الوضع القائم، حيث يعيش السودان واقعًا منقسماً بوجود حكومتين متنازعتين على أرض واحدة. هذا الانقسام – في رأيه – ليس مجرد محطة عابرة، بل قنبلة موقوتة قد تفضي إلى تشظٍ أخطر من المعارك العسكرية نفسها. ويحمّل القوى السياسية والإعلامية مسؤولية “تغبيش الوعي” والتقليل من خطورة هذا الانقسام، وكأن وجود حكومتين أمر طبيعي.من الجماهير إلى الجماعة المنظمةيرى إسحاق أن جوهر التغيير يكمن في قدرة الجماهير على التنظيم. فالمجتمع السوداني – تاريخياً – ظل حبيس خانة “الجماهير” التي تحلم بالتغيير دون أن تتحول إلى “جروب منظم” قادر على تحويل الحلم إلى أفعال.ويضرب مثالاً بمسافرين عالقين في المحطة: مجرد انتظارهم لن يغيّر شيئًا، لكن إن اجتمع عشرون منهم وتقاسموا الأدوار لإيجاد وسيلة سفر، فإنهم يتحولون من جمهور سلبي إلى جماعة منظمة قادرة على الإنجاز. هذا التشبيه البسيط يوضح كيف أن الرغبة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى وعي وتنظيم.الانتظار والتآكل النفسيالتأجيل الدائم للتغيير، أو ما يسميه “الانتظار”، له أثر نفسي مدمر. فمع طول الانتظار يتفاقم الإحباط واليأس، ويضعف استعداد الناس للتنظيم. يشرح الدكتور مجدي أن الإحباط المتراكم يولّد عدائية متبادلة بين أفراد المجتمع، ويجعل من المستقبل أكثر ظلامية. من هنا تأتي الحاجة الملحة لقراءة البنية النفسية للجماهير: هل هي مستعدة للتوافق والتنظيم؟ أم أنها غارقة في العدمية وفقدان الثقة؟الهوية والوجدان الجمعيينتقل إسحاق بعد ذلك إلى قضية الهوية السودانية، فيميز بين هوية الفرد الذاتية (مواهبه، انتماءاته الشخصية) والهوية العامة المرتبطة بالانتماءات الاجتماعية. بناء هوية وطنية جامعة – في نظره – يشبه نمو الشجرة: يحتاج إلى مساهمات ثقافية وإبداعية متراكمة تغذي الوجدان المشترك.الدولة هنا تلعب الدور المركزي:• الدولة المحايدة تُشعر مواطنيها بالانتماء.• الدولة المنحازة أو الفاشلة تُضعف الثقة وتزيد الانقسامات.ولهذا يشدد على أن التمازج الثقافي والعدالة في التوزيع هما الأساس لأي هوية وطنية راسخة.الدولة بين العقد الاجتماعي ومجتمع القهريقدّم الدكتور مجدي مقارنة واضحة:• المجتمع المتوازن يقوم على عقد اجتماعي يضمن العدالة في توزيع السلطة والموارد، احترام الاختلافات، والمساواة بين الجميع.• مجتمع القهر يقوم على احتكار شريحة معينة للسلطة والثقافة والموارد، ويمارس القهر بأشكاله الأربعة: الاقتصادي، الثقافي، السياسي، والاجتماعي.وبالنظر إلى السودان، يخلص إلى أن الدولة فشلت في القيام بدورها، فتراكمت أزمات التوزيع غير العادل للخدمات، القهر الثقافي، انعدام الثقة في المؤسسات، وصعود الدولة البديلة (العلاقات الاجتماعية والقبلية التي تحل محل الدولة).مظاهر القهر في الواقع السودانيلا يكتفي الدكتور مجدي بالتنظير، بل يقدّم أمثلة ملموسة:• التوزيع غير العادل للأطباء والخدمات الصحية بين الخرطوم والأقاليم.• سيطرة ثقافة مركزية تهمّش لغات وثقافات الأطراف.• انعدام صوت سياسي للشرائح الفقيرة والمهمّشة.• تجارب العنصرية اليومية التي تعكس ضعف الانتماء الوطني المشترك.هذه المظاهر تكوّن بيئة من الغضب وعدم الثقة والعداء بين المكوّنات الاجتماعية، مما يعمّق الشرخ الوطني.الجيش والدولة البديلةينتقد الدكتور مجدي المؤسسة العسكرية بوصفها تحوّلت إلى أداة قهر بدل أن تكون حامية للمجتمع. فهي – بحسبه – تنفصل عن الشعب وتتصرف كسلطة فوقه، ما يجعلها في نظر الشرائح المقهورة عدواً مباشراً.وفي ظل هذا الفشل المؤسسي، تنشأ الدولة البديلة: شبكات العلاقات والمحسوبيات التي تحل محل الدولة في تسيير المعاملات. هذه الظاهرة – كما يحذر – تفرغ المؤسسات من قيمتها وتضعف أي إمكانية لبناء دولة حديثة.خطورة الهوية المنقسمةيعتبر إسحاق أن أخطر ما يواجه السودان اليوم هو تشكّل هويتين متوازيتين: واحدة مرتبطة بالخرطوم ومركزيتها، وأخرى تنمو في الأقاليم الخارجة عن سيطرة المركز مثل نيالا وبورتسودان. استمرار الحرب والتهميش يعمّق هذا التشظي الوجداني، بحيث يصبح من الصعب استعادة وجدان سوداني واحد حتى لو توقفت الحرب.لا حل عسكريالرسالة الختامية للندوة واضحة: الحل العسكري وهم خطير. فحتى لو انتصر طرف على الآخر، فإن الشرائح التي بدأت تبني انتماءً جديدًا ستظل متمسكة بهويتها الناشئة. السبيل الوحيد هو التوافق المجتمعي والعقد الاجتماعي الجديد الذي يعترف بالتعدد ويضمن العدالة والمساواة.الرسالة النهائيةيلخّص الدكتور مجدي إسحاق فكرته بأن أي قراءة سياسية لا تتعمق في البنية النفسية للمجتمع تظل قراءة مسطّحة. وأن السودان لن يجد طريقه إلى الاستقرار إلا عبر:1. بناء هوية سودانية جامعة قائمة على العدالة والتنوع.2. عقد اجتماعي يضمن المساواة والتوزيع العادل للموارد.3. إصلاح جهاز الدولة ليكون محايداً وحامياً للجميع.4. تجاوز خطاب الكراهية والانقسامات لمصلحة وجدان وطني واحد.بهذا، قدّم الدكتور مجدي ندوة غنية جمعت بين التحليل النفسي والسياسي، لكنها أيضاً دقت ناقوس الخطر: كل يوم يمرّ من دون توافق يعمّق التشظي ويدفع نحو انفصال وجداني أخطر من أي انفصال جغرافي.رابط الندوة : https://youtu.be/1htks5AAK5k?si=Oc87P9cZHePwYFGgThe post الوطن وسيكولوجية الانفصال والانقسام (2) appeared first on صحيفة مداميك.