جمال محمد ابراهيم(1)درجتْ سلطة الأمر الواقع السودانية القائمة حالياً في مدينة بورتسودان على إصدار بيانات باسم وزارة الخارجية السودانية، تتماهَى تماماً مع كلِّ بيان يصدر عن قيادة القوات المسلحة، والمعروف عنها تصميم متحدثيها الرسميين على الاستمرار في الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع. تصف قيادة الجيش تلك القوات بأنها قوات متمرّدة، فيما هي صنيعة الجيش الرّسمي لنظام الإنقاذ نفسه، منذ أكثر من عشرة أعوام.لعلَّ المتابع لأداء وزارة الخارجية السودانية، وخلال الألف يوم التي انصرمتْ منذ اشتعال الحرب في إبريل/ نيسان 2023، يدركون أنَّ خمسة سفراء قد عُيّنوا لتولِّي منصب الوزير بالتكليف، وأنّ أطول مُدّة قضاها الواحد منهم في المنصب لم تتجاوز الخمسة أشهر أو ستة، أي بمعدل وزير مُكلَّف كلّ ستة أشهر. لعلّ هاتين الملاحظتين تعزّزان أمراً واضحاً، وهو ضعف أداء وزارة الخارجية إبّان القتال الدائر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمرّدة عليها. وللمرء أن يتساءل، وهو يرى دبلوماسية السودان التي عزّزت أدوارها المميّزة على الساحتين العربية والأفريقية، منذ تأسيسها عام استقلال البلاد في يناير/ كانون الثاني 1956، أي لعنة حلَّت بإرثها وبعناصرها، لترهن تاريخها لبندقية القتال؟(2)لا يحتاج المرء ذكاءً لينظر في حال وزارة يتولاها وزيرٌ مكلفٌ كلّ ستة أشهر، ليدرك أنّ الدبلوماسية، وهي التي صمّمت بطبيعتها لتعين القرار السياسي للدولة وتساعد في تنفيذه، في حال موزّعة بين دوائر قرارٍ يتولاها فعلياً أربعة من الجنرالات، مصمّمين، أو ربما ذلك ما يبين للمتابعين، على مواصلة ت التي تخصّ المواطنين في داخل البلاد ومن دون الخوض فيما يتصل بالمسائل العسكرية أو العلاقات الخارجية، فإنه يتجاوز صلاحياته فيخوض في ذلك كله. لا أحد يسعى إلى التصحيح، وكلُّ ناطق رسمي يُزايد على الآخر.تضعضعت فعالية الدبلوماسية السودانية في العقود الماضية، وغاب نفوذها في منظمات المجتمع الدولي والإقليميأليس ضرورياً أن تتماهَى المواقف، ويتمَّ التنسيق لتصدرَ بيانات المواقف بصيغة واحدة ولسان واحد وإيقاع متسق؟ كلا. أضعفت طبيعة الحرب ضرورات التنسيق، ليس فقط بين الوزراء المكلفين، بل أيضاً على أعلى مستوى يقف فيه الجنرالات يديرون أمر البلاد وكلٌّ منهم يصدر بيانات وينطق بلسان، فتتناقض التصريحات وتتضارب المواقف بين كل جنرال وآخر من الجنرالات الأربعة، فيحار وزير الخارجية ويُتخلّص منه.هل يتوقع، والحال هكذا، أن يمارس وزير خارجية مكلف، وإنْ كان في حذق هنري كيسنجر ومهارته، دوره في التعبير عن مواقف بلاده الخارجية، وحال قيادتها، وهي قيادة أمرٍ واقعٍ عسكري، على ضعفِ تنسيقٍ وتشتّتِ مواقف؟(3)رصد المتابعون زيارتين قام بهما رئيس الوزراء المُكلّف، كامل إدريس، أخيراً. الأولى إلى القاهرة، ارتبكت مواعيدها وتأجّلت يومين، والثانية إلى الرياض. بعيداً عن اللقاءات المراسمية للتحية والمجاملة مع القيادة المصرية، فإنها لم تنته إلى شيء رسمي، أو ربّما رتّب توقيتها أصلاً لمشاركة شخصية لرئيس الوزراء للتوقيع على عقد زواج نجل سفير السودان في القاهرة. لكن كثيرين يلاحظون أنه ليس مناسباً إقحام زيارة لمجاملة شخصية في برنامج زيارة لرئيس وزراء، مكلفٍ أم غير مكلف. في ذلك مساس بهيبة المنصب الدستوري، ولو كان تكليفاً.الزيارة الثانية التي قام بها رئيس الوزراء المكلف إلى الرياض، وقد تزامنت مع زيارة مبرمجة لرئيس وزراء باكستان إلى الرياض. ويعكس هذا سوء تنسيق من الجانب السوداني لتحديد موعد مناسب لزيارة المسؤول السّوداني. ما وقع من إرباك في الاستقبال، ثم مسألة تسمم رئيس الوزراء المكلف في مطعم في العاصمة الرياض، أمر يثير السخرية، كما الرثاء للحال الذي أصرّ فيه الجانب السوداني على إكمال تلك الزيارة. أثق بأنّ السفير السوداني المعتمد في المملكة، وهو دبلوماسي مهني عميق التجربة، يدرك تمام الإدراك كيف تتم الترتيبات المراسمية التي تحكم مثل هذه الزِّيارات، إلّا أن يكون ثمَّة طرف أصرّ على إكمال الزيارة برغم كل شيء.لعلّ كلا الزيارتين تعكسان مدى حيرة حكومة الأمر الواقع في بورتسودان في مساعيها إلى اكتساب شرعية لا يتأتى الإمساك بها بيسر ولأسباب واضحة للعيان، فيما الدورة الثمانون للجمعية العامة للأمم المتحدة على وشك الانعقاد في نيويورك.(4)لقد رُسّخ للدبلوماسية السودانية إرث باهر منذ خمسينيات القرن العشرين، إذ كان لها الدور المؤثر في القضاء على الاستعمار في الكثير من البلدان الأفريقية والآسيوية. وكانت لها فعالية على المستويين العربي والأفريقي. ومن ذلك، أن الدبلوماسية السودانية شاركت بمساهمات كبرى في صياغة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية بالفكر وبالقلم، والتي صار اسمها “الاتحاد الأفريقي” منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. كما شهد لها العالمان العربي والأفريقي بمساهماتٍ جبَّارة لحلِّ خلافات مستعصية، وتسوية نزاعاتٍ وإيقاف قتال. وفي العقود الأخيرة، تضعضعت فعالية الدبلوماسية السودانية، وغاب نفوذها في منظمات المجتمع الدولي والإقليمي، ولم يعد لها وجود يذكر.٨ولأنَّ “نظام الإنقاذ” قام منذ أيامه الأولى عام 1990 على سياسة تمكين عناصره واستيعابهم بنسبة عالية في مفاصل الدولة، فقد عمد في وزارة الخارجية إلى التخلّص من كبار السّفراء والدبلوماسيين المهنيين، ممَّن قرَّر ذلك النظام عدم توافقهم مع توجَّهاته الإسلاموية. ترك ذلك الإجراء آثاراً سالبة على فعالية أداء الدبلوماسية ٥السودانية، إذ كان الاستيعاب في الوظائف الدبلوماسية يتمّ بصورة إجمالية على أساس الولاء لتوجُّهات النظام من دون اعتبار يُذكر للكفاءة، أو حتى لتدريب حقيقي يصقل القدرات، فجرى بذلك تسييس الوظيفة الدبلوماسية، وسمّوها “الدبلوماسية الرّسالية”.(5)التقاليد والأعراف الدبلوماسية كما هو معروف، تُعزّز بالممارسة والتجريب، ولا علاقة لها بالانتماءات السياسية. وأحسب أن مثل تلك الهنات التي شابت زيارة رئيس وزراء السودان المُكلف في زيارته الرياض أخيراً مرجعها ضعف تلك الخبرات وقلة التجريب. يؤخذ على الرّجل أخيراً تنطعه باللغة الإسبانية بما ليس له من داعٍ، أو التجوّل في مطاعم ومقاهٍ شعبية، أو حتى الظهور في مسجد ليكون وكيلاً عن عريس؛ هو نجل لسفير السودان في القاهرة. تلك سلوكيات لا تلفت عند5 أناس عاديين، لكن كثيرين لا يرونها تتسق مع هيبة رجلٍ في منصب رئيس وزراء، له مكانة تُراعى، ولآمنه متطلبات، وللقاءاته مراسم لازمة.ضعف عام في أداء الدبلوماسية السودانية انعكس بصورة رئيسية في إدارة وزارة خارجية من وزراء مكلفين بمعدلِ وزيرٍ مكلف كلّ أربعة إلى ستة أشهرليس لائقاً أن تتمَّ زيارة خارجية لمن يشغل وظيفة حسّاسة مثل رئيس الوزراء، إلا بعد تنسيق بين كل الأطراف المعنية بالزيارة، وبعد إعدادٍ دقيق لكلّ ما يتعلّق ببرنامجها، من دون أن تترك شاردة أو واردة للمصادفات المحضة. تلك بديهيات ومهام تُراعى في بلد الضيف الرَّسمي الزائر، كما في بلد المضيف الذي يستقبله.(6)مع ما يلاحظ من ضعف عام في إدارة الدولة السودانية واضطراب أحوالها، فيما الحرب دائرة من دون أفق لإيقافها، فإنَّ عزلة تحيط بأوضاع السودان الغارق في الإفناء الذاتي، جرّاء القتال المتواصل. ثمَّة تجاهل متعمّد، أو ربما غير متعمّد، من المجتمعين الدولي والإقليمي. السُّودان في حالته هذه لأحوج ما يكون لدبلوماسية تطرح خيارات الحلول لإخراج البلاد من وهدتها، لا إلى دبلوماسية تلهث وراء بندقية من غير طائل. لسوء حظ دبلوماسية السودان أنه جرى استضعافها خلال سنوات “الإنقاذ” الكالحة. ثمَّة ضعف عام في أداء الدبلوماسية السودانية، وهو ما انعكس، بصورة رئيسية، في إدارة وزارة خارجية من وزراء مكلفين بمعدلِ وزيرٍ مكلف كلّ أربعة إلى ستة أشهر. لو وقف الأمر على ذلك، لأمكن تصحيحه من أي قيادة عليا فاعلة، لكن حتى من كُلّف برئاسة الوزراء لا تظهر لديه خبرات دبلوماسية تذكر، وإلا ما أوقع نفسه في مواقف سـببتْ حرجاً ليسَ لشخصه فحسب، بل لهيبة دولةٍ كانت يوما من أكبر أقطار القارّة الأفريقية ولسمعتها صيت….. العربي الجديد- لندنThe post في السودان حكومة بلا دبلوماسية appeared first on صحيفة مداميك.