إبراهيم العريسعام 2003 حين منحت لجنة جائزة نوبل الأدبية جائزتها الأكثر سمواً في عالم الإبداع إلى الكاتب الجنوب أفريقي ج م كوتسي، فغر كثر من المعنيين وغير المعنيين أفواههم في دهشة محقة، فمعظمهم لم يكونوا سمعوا بالاسم من قبل، حتى وإن كان بعضهم يعرف عن ظهر قلب أسماء وأعمال ثلاثة آخرين من كبار كتاب هذا البلد. والحقيقة أن شهرة أولئك الثلاثة لم تكن متأتية تماماً من قوة أدبهم، حتى وإن كان قوياً، ولكن من سمعتهم كمناضلين ضد التمييز العنصري في البلد الذي ينتمون إليه حتى وإن كانوا بيضاً.فعند نهايات القرن الـ20 كانت مكانة كتاب بلاد “مناطق العواصف” ومنها جنوب أفريقيا بالطبع، تحتسب تبعاً لنضالاتهم لا لقوة أدبهم، تماماً كما كانت حال “منشقي البلدان الاشتراكية”، لكن كوتسي لم يكن من النوع ذي المواقف السياسية الصاخبة، حتى وإن كان يقف ضد اضطهاد السود من سكان البلاد الأصليين، كحال الثلاثة الذين أشرنا إليهم، أندريه برينك ونادين غورديمير وبالطبع برايتن برايتنباخ.بالنسبة إلى كوتسي لم يكن الأدب نفسه أفضل وسيلة للنضال، بل منصة تستخدم الأدب نفسه وتاريخه لقول ما ينبغي قوله، لا أكثر ولا أقل. ومن هنا في وقت راح كثر يبحثون عن “مبررات” تشرح منحه جائزة نوبل، انكب كثر آخرون على قراءة أدبه وإعادة قراءته على أمل أن يفهموا العلاقة المبنية عبر ذلك الأدب بحثاً عن مكانته في عالم اليوم، ولا سيما أنها قد قيل لهم إن الرجل مناضل إنما على طريقته، ولعل هذا كان أفضل ما تبين للذين اشتغلوا بحثاً وتنقيباً.في ثنايا تاريخ الأدبوالحال أن كل ذلك أسفر عن تفهم عميق للحال الأدبية التي سيبدو تدريجاً واضحاً أن كوتسي يمثلها، فمرجعيته الأدبية لم تكن حكايات واقعية اجتماعية نضالية يستوعبها من الحياة المحيطة به في البلد الذي ولد وترعرع فيه، جنوب أفريقيا، ولا في البلدان التي عاش فيها دارساً ومتنقلاً، بريطانيا وهولندا والولايات المتحدة على سبيل المثال، ولا حتى في الوطن الذي سينتهي للعيش فيه وينال جنسيته بعدما تخلى عن جنسية جنوب أفريقيا الذي انتقل من العنصرية ضد السود، إلى عنصرية مضادة سادت بعد التحرر وسيندد بها كوتسي كما سيفعل آخرون في نصوص لاحقة له (أستراليا هذه المرة)، فالحقيقة أن “الوطن” الذي استوعب كوتسي تاريخه ووجد نفسه يستلهمه وينتمي إليه، لم يكن سوى عالم الكتابة حيث مشاركوه في المواطنة يحملون أسماء كبيرة من دانيال دافو إلى فرانتز كافكا ومن صاموئيل بيكيت إلى جوزيف كونراد ودوستويفسكي ناهيك بمواطنيه الحقيقيين برايتنباخ وغورديمير وبرينك وحتى دوريس ليسينغ.واللافت أن هؤلاء الذين شكلوا مرجعية كوتسي الوطنية ومستلهمه الأدبي كانوا من كبار الكبار الذين لا يخجل من أن يدعوهم ذلك الكاتب الذي أكمل عامه الـ85 لتوه، “معلمي وأصدقائي الحقيقيين”، ولعل هذا الواقع هو الذي جعل واحداً من المعلقين على فوز كوتسي بجائزة نوبل عام 2033 يقول إن “نوبل تبدو هذه المرة وكأنها منحت لتاريخ أدبي بأكمله”. فمن بيكيت الذي كرس كوتسي لتحليل أعماله أطروحة دكتوراه بأكملها، إلى كافافي، وحتى دينو بوتزاتي اللذين منهما معاً استلهم نصه الأشهر “في انتظار البرابرة”، ناهيك باستلهامه هذا العنوان نفسه من “في انتظار غودو” لبيكيت، وصولاً إلى دانيال دافو الذي جعل منه بطلاً لروايته “مستر دافو” التي تدين بكثير في الوقت نفسه للكاتب المسرحي الإيطالي بيرانديللو، يتجول أدب كوتسي بين أساطين هذا الأدب وحقبه وأبرز نتاجاته، ولكن ليقول ماذا؟نضالات الشارع في جنوب أفريقيا أيام التمييز العنصري (ويكيميديا)هموم تكاد تكون خفيةليقول بالتحديد نفس ما يقوله مواطنوه كتاب جنوب أفريقيا الآخرون، سياسياً ولكن، بالنسبة إليه، وكما أشرنا بطرق مواربة. والواقع أنه ليس من الصعوبة بمكان التوصل إلى هذا الاستنتاج عند مراجعة متن أدب كوتسي المؤلف، إلى أعوام قليلة ماضية – قبل أن يخلد إلى ما يبدو شبه تقاعد، إلى نوع من كسل ربما يكون ناتجاً من خيبة أمل أصابته بعد نيل جنوب أفريقيا نفسها حرية واستقلال كان هو، في حياته وإن لم يكن بصورة واضحة في أدبه، قد أمضى أعوام عمره يسعى إليهما – متن أدبه، المؤلف من مجلدين في أدب الذكريات وعدة دراسات نظرية حول الأدب وتاريخه، وما لا يقل عن ثماني روايات كبيرة، لعل من أشهرها إلى ما ذكرنا، “في ربوع الوطن” و”حياة مايكل ك وزمنه” و”حرم”، وهي أعمال جعلته يحقق مأثرة كبرى قبل نوبل، عبر فوزه مرتين بجائزة بوكر التي لا ينالها عادة أي كاتب سوى مرة واحدة.ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من أن نعود إلى السؤال الذي طرحنا قبل سطور، تحديداً حول ما يريد كوتسي أن يقوله في أدبه وفي خلفية حرصه على أن ينتمي هذا الأدب في مظهره الخارجي في الأقل، إلى تاريخ الأدب نفسه. والحقيقة أن ما سيكتشفه القارئ المدقق هو أن هموم كوتسي تتمحور في الجوهر حول قضايا بالغة الراهنية والأهمية والخطورة، بدءاً من العلاقة بين السلطة ومقاوميها، مروراً بالعلاقة بين السادة و”العبيد”، كما بين “البرابرة” والمتحضرين، ولكن ذلك كله مع حرص عنيد على الابتعاد عن أية نزعة نضالية صاخبة وعما يمكن اعتباره صوابية سياسية.على عكس الآخرينففي نهاية الأمر لن يمكننا إلا أن نلاحظ أن كوتسي يكاد يتفرد بين زملائه ومجايليه برفضه القاطع، لوضع أدبه في خدمة السياسة المباشرة، وهو كثيراً ما أعلن ذلك ولا سيما من خلال تأكيده في أحاديث صحافية عدة، على أن أسهل ما يمكن للكاتب الراغب في النضال أن يفعله إنما هو حبس مخيلته الإبداعية بل إبداعه بصورة عامة داخل أسوار ظروف الواقع ومحليته المحدودة، حيث بالنسبة إليه “يكمن التحدي الحقيقي الذي يجابهه كاتب يعيش في بلد توتاليتاري، في رفض قواعد اللعبة كما تمليها عليه سلطات ذلك البلد، وتقوم على فرضها أساليب تسلطها عليه، وجعله يتصور ويصور ضروب التعذيب والإذلال كما تمارسها بنفسها”.والحقيقة أن النقاد المدققين في أدب كوتسي يشهدون على أنه، وفي مجمل إنتاجه، قد عرف كيف يتصدى لذلك التحدي عبر توسيع مدى أسئلته لتطاول الشروط الإنسانية بأكملها، لا الحيز الضيق للسياسات والنضالات المحلية التي غالباً ما تكون عابرة وتنتهي صلاحيتها بانتهاء غاياتها المباشرة.The post عن ملابسات الاستحقاق بين الجنوب أفريقي كوتسي وجائزة نوبل appeared first on صحيفة مداميك.