“جنوسايد” أم عيد لقدامى المحاربين؟

Wait 5 sec.

عبد الله علي إبراهيم يُلبد هرج السلاح سماء السودان عقوداً، وليس وزره في تضريجه البلد كما نرى وحسب، بل أكثر وزره أن لم تلجمه الصفوة التي تخوضه، أو يخاض عنها، بعرف أو دين أو حشمة، حتى سمى بعض العاديين من أهل جنوب السودان هذه الحروب الثكلى بـ”حروب المتعلمين” خلافاً لحروبهم هم الدمثة.مرت في الـ18 من أغسطس (آب) الماضي الذكرى الـ70 لـ”تمرد” الفرقة الجنوبية لقوة دفاع السودان (القوات المسلحة السودانية في يومنا) بمدينة توريت في ولاية الاستوائية بجنوب السودان، كان ذلك احتجاجاً مباشراً على استئثار صفوة الحركة الوطنية من الشماليين على غنائم سودنة ووظائف الإنجليز الذين انتهت خدمتهم باستقلال البلاد خلال فترة الحكم الذاتي (1954-1956) وحتى الاستقلال في يناير (كانون الثاني) 1956، مع ذلك فهو تعبير عن نازع أصيل في القومية الجنوبية أرادت به أن ينفصل الجنوب عن الشمال، وهو “التمرد” الذي عرف بـ”اضطرابات جنوب السودان” في أول تقرير لحكومة السودان عن واقعة عنف عليها، أو بها، وآخرها، سوى تقرير التحقيق في انقلاب الـ17 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1958.اجتر الرئيس سلفا كير، رئيس جمهورية جنوب السودان، ذكرى ذلك “التمرد” باختيار يومه من دون الأيام عيداً لقدامى المحاربين حتى قبل الانفصال في 2011، ولا جدال أن كير لم يوفق في اختيار ذلك اليوم عيداً لمحاربين قدامى أو جدد متى علمنا عن اليوم ما صح العلم به. فقد كان اليوم مذبحة للشماليين في الجنوب على يد عسكريين ومدنيين جنوبيين حصدت منهم 249 قتيلاً من التجار والجزارين والمعلمين والموظفين، فيهم 15 امرأة و24 طفلاً، في حين لم يُقتل من العسكريين الشماليين سوى سبعة من ضباط وصف ضباط وجنود قوة دفاع السودان، وليس مما يشرف محارباً قديماً أو جديداً أن تكون حربه مع غير محاربين مثله.وجاء تقرير “التحقيق الإداري في حوادث الجنوب، 1955” (1956) بسردية تلك المذابح بجلاء، فلم يكن التمرد مواجهة بين عسكريين شماليين وجنوبيين (جدلاً)، كان المدنيون الجنوبيون رأس سهم في قتل الشماليين ونهب متاجرهم ودورهم جنباً إلى جنب مع العسكريين. واتصلت هجمات المدنيين على الشماليين مسلحين بالحراب والنشاب والحريق، وكان للمدنيين الجنوبيين وجود بارز في تعقب الشماليين في سائر بؤر التمرد، مما يكذب أن ذلك كان يوماً مما يصح الاحتفال به كيوم لقدامى المحاربين، ناهيك بالاحتفال به لكآبته أصلاً.ولا أعتقد أن قتل المدنيين من رجال ونساء وأطفال مما يحتفل به محارب، ناهيك بضروب التوحش التي اكتنفت موت كثير منهم، فقتل التمرد محمد أحمد فضل المولى وزوجه وأربعة أطفال وُلد أصغرهم خلال فترة حبسهم على يد المتمردين في بلدة توريت، ونزع مساعد حكيم طفلاً بعمر 11 شهراً من رجله من أمه وضرب به الأرض (بلدة تالي)، وأحاط التمرد بملاحظ غابات وأحرقوه وأسرته (تومالي)، وأحرق المدنيون داراً لجأ إليها الشماليون حتى الموت (بلدة تالي)، وقتلوا إسماعيل عبدالغني التاجر وزوجه وبنته فوزية وابنه حامد ومصطفى (بلدة لينيا)، كذلك أحرق الأهالي منزلاً لجأ له الشماليون وطاردوا من هرب منهم وقتلوا امرأتين بالحراب (بلدة لوكا)، وهجمت عصبة من العسكر والأهالي على بنت صغيرة لسيد محمد النذير وطعنوها بالرمح، وأخذوا زوجته وطفلته الأخرى للحبس (بلدة لينيا)، ولم يجد عبدالماجد الشفيع بداً من الانتحار بطلقة من بندقيته لما حاصره المتمردون (بلدة ياي)، وأفلتت النساء في تركاكا من القتل واكتفوا منهن بالحبس.علماً، من الجانب الآخر، أنه لم يلق محاربو سلفا كير الضباط وصف الضباط الشماليين في ساحة الوغى، بل في بيوتهم فرداً، ففي بلدة كبويتا طلب قائد المتمردين الباشاويش ترتليانو ألونق من مساعد مفتش مركز جنوبي رحيم أن يطلب من اليوزباشي إبراهيم إلياس أن يسلم مسدسه لو أراد الشفقة به، فلما سلم إلياس مسدسه بعد إلحاف عليه أوسعوا بيته رصاصاً بالبرين وتعقبوه في بيته حتى الحمام وقتلوه.ولم تخل السيرة الكأداء للتمرد من إشراقات النبل بالطبع، فتضافر جنوبيون من إداريين وشرطة وطلاب لاستنقاذ الشماليين من حولهم بحيلة وشجاعة، كذلك أسهم تجار إغريق وقسس، بل حكومات مجاورة في الكونغو في نجدة الشماليين، فالتمس مساعد مفتش كبويتا، دون أفندي بولي، من المتمردين أخذ الشماليين أسرى، ولا حياة لمن تنادي. وآوى أمباشي سجون الشمالي دفع الله عدلان في السجن لإنقاذه (بلدة كتري)، ولاذ الشماليون بمنزل تاجر إغريقي لتأخذهم الكنيسة البروتستانتية للكونغو، وكافأت الحكومة البلجيكية أياً من رعاياه بجنيه إسترليني متى جاء بشمالي آمن.ووقف المعلمون والطلاب الجنوبيون يحمون أساتذتهم وأسرهم ما وسعهم، ففي بلدة لينيا كان أحد المعلمين الشماليين وزوجته على رأس رحلة من طلبة رمبيك الثانوية وجهتها الشمال ساعة اندلاع التمرد. فأحاط بهم 250 من الأهالي بالحراب والنشاب والسهام، ولدى نزول المدرسين طعنوهم بالحراب على رغم ما بذله الطلبة والمدرس الجنوبي، وفي مريدي ضبط الصول ماهليلي نياقو شرطته على رغم تجمع الأهالي بحرابهم، ووضع حماية لمفتش المركز فدمغوه بالخيانة، ولكنه أخذ بعض المدرسين مع ذلك ولاذ بهم إلى قريته.وكان من السقم وبؤس المروءة أن يحتفل سلفا كير بمثل تلك الأيام المضرجة الغبراء عيداً لقدامى المحاربين، فبعبارة بسيطة كان ما احتفل به هو “جنوسايد” شمالي في أدق معاني هذه العاهة البشرية. فتعريف الـ”جنوسايد” هو أن تقتل المرء لأنه هو: أي القتل على الهوية العرقية التي لا يملك المرء حيالها صرفاً ولا عدلاً، فبوسع المرء أن يغير عقيدته السياسية، ولكن الشمالي شمالي إلى نهاية التاريخ، وهذا سبب سحر عنوان كتاب صدر في أعقاب “جنوسايد رواندا” الذي قتل فيه شعب الهوتو شعب التوتسي على الهوية، وكان عنوانه “لن أكون توتسياً في المرة القادمة” لبيان استحالة تغيير الجلد العرقي.لذا لا يعد علماء الـ”جنوسايد” مثل ما قام به كل من ستالين وماوتسي تونغ “جنوسايد”، لأنه قتل مجاني لأجل السياسة على فحش أرقامه. فالـ”جنوسايد” ليس “لعبة” أرقام الضحايا كما يطرأ للبعض، يكفي أن تقتل قتيلاً واحداً كراهة في هويته وتُكتب عند الله “جنوسايدياً”.في علاقة الجنوب السياسية بالشمال “جين” للقتل على الهوية. ولبعض صفوة الجنوب عقيدة رائجة في أيامها عن أن الشماليين عرب أطالوا الاستضافة في السودان وأملوا وجاء وقت عودتهم للسعودية. وقال أحدهم في معرض الفكاهة إن مناهج تاريخنا حافلة بسيرة دخول العرب السودان فمتى يأتي اليوم الذي ندرس عن خروجهم منه. وعقيدة أن مساكناً لك في الوطن مستوطن لا مواطناً هي التي كانت وراء الـ”جنوسايد” في زنجبار ورواندا، ففي الأخيرة اعتقد شعب الهوتو أبداً أن التوتسي وافدون من إثيوبيا، وكانوا خلال الـ”جنوسايد” المعروف يلقون بجثة التوتسي في بحيرة فكتوريا ليحمله التيار إلى إثيوبيا.وتكرر العدوان على الهوية العربية المسلمة هذا في 1964 و2005، ففي السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1964، الذي اشتهر كيوم “الأحد الأسود” اعتدى الجنوبيون، وهم قلة في الخرطوم يومها، على الشماليين من طرف، وكان أولئك الجنوبيون كما جاء في تقرير للسفارة الأميركية في الخرطوم عائدين من مطار الخرطوم ساخطين لتأخر طائرة وزير الداخلية كلمنت أمبورو، وكانوا رتبوا لاستقباله في مطار الخرطوم للاحتجاج عليه كـ”عميل للشماليين” لقبوله المنصب في حكومة ثورة أكتوبر 1964، وتأخرت الطائرة فزاد الأمر بلة، وامتصت جماعات من الشماليين صدمة العدوان ثم ردت بفظاظة غير راحمة، وانقسمت الخرطوم بحق، فانتهى أكثر الجنوبيين في ذلك اليوم وما بعده إلى أمن استاد الخرطوم وأم درمان شفقة بهم من التعديات، وكانوا الأكثر في عدد الضحايا.وكان مقتل العقيد قرنق، زعيم الحركة الشعبية، نائب رئيس الجمهورية في حكومة الوحدة الوطنية، في حادثة تحطم طائرة الهليكوبتر المعروفة إثارة فظة لواقعة “جنوسايد” ثالثة، فاندلعت الإثنين الثاني من أغسطس 2005 أعمال العنف في الخرطوم عندما نزل جنوبيون غاضبون لمصرع قرنق مدججين بالسكاكين والقضبان الحديدية إلى الشوارع في الخرطوم إثر الإعلان عن مقتله، واعتدوا على من عرض في طريقهم أو عرضوا له، ممن “يشبه العرب” في قول شاهد عيان يومها، فنهبوا المتاجر أو أحرقوها وكذلك السيارات، واقتحموا مسجداً بضاحية الجريف واعتدوا على المصلين، كذلك اعتدوا على أحد الأئمة بمسجد في حي الكلاكلة، وخرجت كرد فعل جماعات من الشماليين في مختلف شوارع العاصمة للثأر مما حدث لهم مثل حرقهم مكتب الحركة الشعبية بحي الحاج يوسف، وبموجب أرقام الحكومة فإن أعمال الشغب تسببت بمقتل 90 شخصاً في الخرطوم وجرح نحو 1000 آخرين.لكير أن يحتفل من أيامهم ما شاء لما شاء، ولكن من العيب أن يصمت حلفاء الحركة الشعبية لإطاحة الإنقاذ، بل ومنسوبوها من الشماليين يومها، عن ردها عن الفرح بيوم غائر الجراح في الشمال، قال فيه مغنيهم من الشباب:في الجنوب يا ما ماتوا رجالبالنشاببالكوكاب (صنف أسلحة محلية).ويندب اليوم كثير من الجيل المعارض حظهم الذي جعل بلدهم مباءة حرب كالتي فينا تأكل الأخضر واليابس ويهرج فيها السلاح عوضاً عن هرج السياسة، واعتزلها كثير منهم حتى عن التفكير فيها بغير أنها عبثية، ولكن جاء وقت كان بوسعهم لجم السلاح في مثل أن يستنكروا من حلفائهم في المعارضة المسلحة، ضمن حادثات كثيرة وإن أقل خطراً، الاحتفال بيوم لـ”الجنوسايد” كيوم لأي شيء، وهذا الاشمئزاز من سوء خلق السلاح يدخل في “أدبة” السلاح ليأتمر بالسياسة ما من شأنه أن يجعل حملته، في قول زعيم غينيا الجديدة في الستينيات، أمليكار كابرال، سياسيين مسلحين يخوضون حروباً ذات أعراف، لا عصباً مسلحة.The post “جنوسايد” أم عيد لقدامى المحاربين؟ appeared first on صحيفة مداميك.