ورقة تحليلية بقلم : عاطف عبداللهخلفيةأصدرت “المجموعة الرباعية” – المكوَّنة من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومصر – في 11 سبتمبر 2025 بياناً تضمَّن مبادرة متكاملة لحلّ الأزمة السودانية، في ظلّ واقع سياسي وعسكري بالغ التعقيد، شهد قيام حكومتين متوازيتين في البلاد، بما يُنذر بسيناريو انفصال فعلي واستمرار النزاع المسلح في عدّة جبهات.مضمون المبادرة• التمسك المبدئي بوحدة الدولة السودانية واستقلالها وسيادتها.• رفض أي حلّ عسكري للأزمة، والعمل على إيجاد تسوية سياسية شاملة.• الدعوة إلى هدنة لثلاثة أشهر بين مختلف الأطراف، بهدف تمكين وصول المساعدات الإنسانية العاجلة للمدنيين المتضررين.• إطلاق عملية انتقال سياسي سلمي للسلطة، تمتد تسعة أشهر، تفضي إلى قيام حكومة مدنية تحظى بثقة المواطنين.• إبعاد الجماعات الراديكالية المتطرفة عن صياغة المستقبل السياسي، وبصورة خاصة تيار الإسلام السياسي الذي هيمن على السلطة في العهد السابق.• رفض التدخلات الإقليمية التي من شأنها تأجيج الصراع أو تغذيته عسكرياً.تهدف هذه الورقة إلى تحليل فرص نجاح المبادرة في ضوء التطورات العسكرية والسياسية في السودان، مع تناول مواقف القوى الفاعلة، ولا سيّما الحزب الشيوعي السوداني.ردود الفعل على المبادرةتباينت مواقف القوى السياسية السودانية تجاه مبادرة الرباعية: رحّب بها بعضهم، رفضها آخرون، فيما آثر فريق ثالث مسك العصا من الوسط.• تحالف “صمود”: صرح قائدة الدكتور عبدالله حمدوك بأن البيان يتطابق مع رؤية تحالفه لإنهاء الحرب عبر حل سياسي، والتمسك بوحدة السودان، وإبعاد “الإخوان المسلمين” عن المشهد السياسي.• تحالف “تأسيس”: يرى في بيان الرباعية خطوة إيجابية نحو حل مدني لكنه يفتقر إلى التفاصيل التي تضمن تحقيق أهدافهم السياسية المتمثلة في قيادة المرحلة الانتقالية.• الحكومة في بورتسودان: أعلنت رفضها للمبادرة، معتبرةً إياها تدخلاً في الشؤون الداخلية، وأكدت أنها غير ملزمة بأي مبادرة لم تُشارك في صياغتها، مشددة على أن أي حلّ يجب أن يبدأ باستسلام قوات الدعم السريع لا بالتفاوض معها.• الحركة الإسلامية: أصدرت بياناً رافضاً، واعتبرت المبادرة جزءاً من مخطّط دولي وإقليمي لإقصاء تيارها من المشهد السياسي، ووصفتها بأنها «وصاية» وتدخّل سافر في الشأن السوداني، مؤكدة أن مصير البلاد يحدده شعبها وحده.• تحالف التغيير الجذري: رفض المبادرة واعتبرها “تدخلاً سافراً في سيادة السودان وتعدياً على استقلال قراره الوطني”، متهماً دول الرباعية بالسعي لفرض “وصاية كاملة” على الشعب وثورته، وتحويل البلاد إلى أداة في صراعات إقليمية ودولية، ورأى أن الهدف الحقيقي هو رهن القرار الوطني لمصالح تلك الدول.ومن اللافت أن معسكر الرافضين، رغم تقاطعاته في الموقف، يختلف في دوافعه: فالحكومة في بورتسودان والحركة الإسلامية ترفضان بدافع الحفاظ على سلطتهما، بينما يرفضها تحالف “التغيير الجذري” انطلاقاً من تمسّكه بالسيادة الوطنية ورفضه لأي تسوية مع المكوّن العسكري.موقف الحزب الشيوعي من مبادرة الرباعيةجاء موقف الحزب الشيوعي السوداني وسطياً؛ إذ أبدى ترحيباً حذراً ببعض بنود المبادرة، لكنه سجّل في الوقت نفسه تحفظات ومطالب محددة، وهو ما ستتناوله هذه الورقة بالتفصيل لاحقاً. لتناول موقف الحزب الشيوعي بالتحليل، نستند إلى مصدرين مترابطين: كلمة الميدان (16 سبتمبر 2025) وبيان المكتب السياسي (21 سبتمبر 2025).قراءة الميدانتناولت كلمة الميدان – التي يعدّها عادة المكتب السياسي للحزب – بيان الرباعية بقراءة نقدية ربطته بسياق إقليمي ودولي أوسع، وأشارت بوضوح إلى أن:• البيان يسعى إلى فرض تسوية تفاوضية تُشرعن مشاركة فعّالة للقوات المسلحة وأطراف النزاع، بدلاً من محاسبتهم على إشعال الحرب.• المبادرة مرتبطة أساساً بحماية مصالح واشنطن وحلفائها (أمن البحر الأحمر، منع التمدد الإيراني-الحوثي، الحد من نفوذ الإسلاميين).• هذه المصالح هي المحرك الأساسي، لا الحرص على المسار المدني أو حقوق الشعب السوداني.• الحل الخارجي يرمي إلى تكريس مصالح الرباعية، بينما الحل الحقيقي يكمن في الداخل عبر ضغط القوى الثورية الرافضة للحرب وتمسكها بأهداف الثورة.البيان الرسمي للحزبأكد الحزب الشيوعي السوداني في بيانه عدداً من النقاط الجوهرية:• الترحيب الشكلي بأي جهد يهدف إلى وقف الحرب وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.• التشكيك في نوايا الرباعية، مذكّراً بدورها في إشعال الحرب واستغلالها اقتصادياً وسياسياً.• الإشارة إلى أن تركيز الرباعية على خطر تسيد الإسلاميين وربطه بالوجود الإيراني–الحوثي يعكس بالأساس دوافعها لحماية مصالحها، أكثر من كونه تعبيراً عن حرص صادق على المسار المدني.• التأكيد على أن الحل للأزمة السودانية يوجد في الداخل عبر الجماهير وتنظيماتها، من خلال حلّ الدعم السريع والحركات المسلحة والمليشيات، وتقديم قادتها للمحاسبة، وتأسيس جيش قومي مهني، واستكمال مهام ثورة ديسمبر من حيث توقفت في 19 ديسمبر 2019 بعد تدخل اللجنة الأمنية لعمر البشير.الملاحظات التحليليةمن خلال المقارنة بين كلمة الميدان والبيان الرسمي يمكن استخلاص الآتي:• الحزب لا يرفض من حيث المبدأ أي جهد يوقف الحرب أو يفتح الممرات الإنسانية ويحمي المدنيين.• يرى في تأكيد البيان على وحدة البلاد ورفض الحل العسكري عناصر إيجابية يمكن البناء عليها.• اتفق النصّان على أن بيان الرباعية يستبطن مصالح خارجية، وأن الحل يكمن في الداخل.• يتلخص موقف الحزب في ترحيب مشروط وحذر: يوافق على وقف الحرب والإغاثة ووحدة الدولة، لكنه يرفض العملية السياسية كما صيغت لعدم استبعاد الجيش والدعم السريع ولغياب ضمانات المحاسبة، ويرى أن المبادرة تخدم مصالح القوى الدولية أكثر من الثورة. ومع ذلك، يظل خطابه أسيراً لمقولات ما قبل الحرب، ما يجعله بحاجة إلى تطوير أدوات قراءة الواقع وصياغة بديل مدني جامع قادر على استثمار أي مبادرة لصالح مشروع الثورة.إشكالات الخطابيُلاحَظ على خطاب الحزب الشيوعي أنه لم يُبرِز بوضوح ترحيباً صريحاً بالمبادئ الجوهرية التي وردت في بيان الرباعية (وقف الحرب، حماية المدنيين، إقامة سلطة مدنية)، بل اكتفى بالتركيز على التشكيك في نوايا الرباعية. كما أغفل البعد الاستراتيجي للمدنيين؛ إذ لم يطرح مبادرة عملية لتوحيد القوى المدنية تحت مظلة واحدة تكون الطرف الأساس في مخاطبة المجتمع الدولي وقيادة المرحلة الانتقالية.هذا القصور يهدد بتحويل الموقف إلى مجرد ردّ فعل، ما يترك المجال مفتوحاً أمام الأطراف العسكرية والإسلاميين للتعامل المباشر مع المبادرات الدولية. كما أن تمسك الحزب بوصفات ديسمبر 2018 جعله يبدو منفصلاً عن التحولات العميقة التي أعقبت انقلاب 2021 وحرب أبريل 2023: انهيار البنى المؤسسية، نزوح الملايين، وقيام حكومتين متوازيتين مدعومتين من قوى إقليمية متباينة المصالح. وقد برزت في هذا السياق تحالفات جديدة مثل «صمود»، الذي يحظى بثقل جماهيري داخلي واحترام معتبر خارجياً، إلى جانب تحالفات قائمة على قواعد اجتماعية وقبلية وجهوية مثل «تأسيس»، وهما فاعلان لا يمكن تجاوزهما في أي تسوية قادمة.يمكن القول إن أبرز مخرجات موقف الحزب أنّه، رغم إبدائه ترحيباً محدوداً ببعض بنود بيان الرباعية، قدّم جملة من المطالب والاعتراضات التي تُعد في جوهرها من مسؤوليات القوى الوطنية الداخلية لا من مهام أي جهة خارجية، مثل حلّ قوات الدعم السريع، تقديم قادتها إلى المحاسبة، وإعادة بناء جيش قومي مهني، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتفكيك التمكين. غير أن هذه المطالب طُرحت من دون تقديم تصور واقعي للتعامل مع البنى المسلحة والمشاريع السياسية التي وُلدت من رحم الحرب.هذا الموقف يضع الحزب أمام مفترق طرق: فإما الانخراط في تحالف مدني واسع ينسجم مع إرثه التاريخي ويمنحه حضوراً في المعادلة المقبلة، أو الانكفاء وراء شعارات لم تعد كافية للتأثير في سياق معقد ومتغير. وفي حال اختار العزلة، قد يواجه خطر التهميش لصالح قوى مدنية أخرى أكثر تنظيماً وحضوراً، ما يضعف مساهمته في صياغة المستقبل المدني.كما أن الخطاب المتكرر حول “وحدة قوى الثورة” وحصرها في الداخل وحده يبدو قاصراً عن استيعاب الواقع؛ إذ إن جزءاً كبيراً من الكوادر والقيادات الثورية بات خارج البلاد، إما بفعل الاستهداف المباشر من سلطات بورتسودان للقيادات ولنشطاء الشباب، أو نتيجة للنزوح الجماعي الذي فرضته الحرب. وبالتالي فإن أي مقاربة واقعية تتطلب الاعتراف بدور الداخل والخارج معاً في بناء جبهة مدنية قادرة على مخاطبة المجتمع الدولي وفرض أجندة وطنية مستقلة. إن التمسك بالشعارات، بمعزل عن المتغيرات البنيوية، جعل خطاب الحزب يقف خارج السياق الجديد الذي تشكّل بعد انهيار الخرطوم وبروز سلطة موازية في بورتسودان، فانتقل من التحليل المادي للتناقضات إلى تكرار رمزي لبرامج سابقة، منفصل عن الوقائع الاجتماعية والسياسية المستجدة. بينما تستدعي القراءة الماركسية الحقيقية النظر إلى اللحظة الراهنة كطور جديد في تشكّل الدولة السودانية.هواجس ومخاوف الحزب الشيوعييخشى الحزب أن يُختزل المكوّن المدني في جبهتين رئيسيتين: “صمود” بقيادة عبدالله حمدوك، و”الكتلة الديمقراطية” بينما تُهمَّش بقية القوى، بما فيها الحزب نفسه.بالنسبة إلى تحالف “الكتلة الديمقراطية”، يدرك الحزب أنهم مجرد “نمور من ورق”: على الرغم أن من مكوناتها التي تضم حركات مسلحة أبرزها حركتي وزير المالية الحالي جبريل ابراهيم وحاكم إقليم دارفور مني أركي مناوي ومجموعات صغيرة من أحزاب الموز الموالية لتنظيم الإخوان، مناصرة للجيش وداعمة لاستمرار الحرب. واجهات أنشأها المؤتمر الوطني وأجهزته الأمنية، وتولت مصر رعايتها وتسويقها خارجياً بوصفها تنظيماً مدنياً “غير إسلامي” موازياً لـ”صمود”.أما الهاجس الحقيقي للحزب فيتجسد في تحالف “صمود”، الذي يُعدّ اليوم أكبر مظلة للقوى المدنية المنبثقة من ثورة ديسمبر، ويحظى بمكانة معتبرة إقليمياً ودولياً، لقيادة الدكتور حمدوك له بصفته آخر رئيس وزراء شرعي للبلاد، ويُنظر إلى “صمود” كأبرز مرشح لقيادة المرحلة الانتقالية المقبلة – ربما لا منفرداً، لكنه بلا شك صاحب النصيب الأوفر في ضوء موازين القوى الراهنة، بعد إستبعاد الإسلاميين، ومن هذا المنطلق يرى الحزب أن طرح الرباعية لفكرة “حكومة مدنية” لا يعني سوى ما يطلق عليه “إعادة إنتاج شراكات الدم”، لكن بصيغة توازنات مختلفة.نحو مقاربة بديلة• داخلي تعبوي: يركّز على تنظيم الجماهير عبر لجان المقاومة والنقابات والكيانات الاجتماعية، ورفض أي عودة للعسكر أو الإسلاميين.• خارجي براغماتي: استثمار أي مبادرة دولية لوقف الحرب وإعادة المسار المدني، مع التشديد على استقلال القرار الوطني.• توحيد القوى المدنية: داخلياً وخارجياً، لتكوين جبهة واسعة تمثل الشارع السوداني الرافض للحرب ولإعادة تدوير النظام القديم.خارطة طريق عملية:تحويل بيان الرباعية إلى فرصة وطنية يستدعي اتخاذ خطوات واضحة:1. الترحيب بالمبادئ الجوهرية: إعلان موقف صريح بدعم ما ورد في البيان بشأن وحدة السودان، سيادته، وقف الحرب، وحماية المدنيين.2. توحيد القوى المدنية: العمل على قيام مظلة وطنية عريضة تمثل الشعب في أي عملية تفاوضية قادمة، على أساس برنامج حدّ أدنى يقوم على وحدة الدولة، رفض الحسم العسكري، ووقف مؤقت للقتال يتيح وصول الإغاثة.3. آلية رقابة وطنية: الدعوة إلى تكوين لجنة وطنية تضم ممثلين عن القوى المدنية الحقيقية، النقابات، منظمات المجتمع المدني، ومراقبين مستقلين؛ تُكلف بمتابعة تنفيذ الهدنة والإشراف على ترتيبات الانتقال.4. خطة انتقال سودانية مكتملة: تقديم تصور واضح يتضمن جداول زمنية، ضمانات دستورية مؤقتة، وآليات للمحاسبة والعدالة الانتقالية، بحيث يُلزم الجهات الضامنة بالتعامل معها.5. انتقال قصير نحو سلطة مدنية: يعقب ذلك قيام سلطة مدنية انتقالية، تُستبعد منها قوى المؤتمر الوطني وأتباعه، ويُرفض خلالها أي تدخل إقليمي يمس استقلال القرار الوطني.إن طرح هذه الخطة السودانية المتكاملة للانتقال المدني سيُلزم المجتمع الدولي بالتعامل مع القوى المدنية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب وثورته المجيدة.خاتمةإن خطاب الحزب الشيوعي يحتاج إلى تطوير واقعي يمكّنه من طرح بديل مدني جامع، قادر على تحويل أي مبادرة إلى فرصة تخدم مشروع الثورة، بدلاً من الاكتفاء بموقع المعترض أو الناقد الخارجي.يبقى الحذر من الأجندات الخارجية مشروعاً وضرورياً، غير أن الذكاء السياسي يكمن في تحويل الضغوط الدولية من تهديد إلى رافعة. فالشعب السوداني، الذي صنع ثورة ديسمبر، ما زال قادراً على فرض إرادته متى ما جرى توظيف المبادرات الخارجية لصالحه لا ضده. عندها فقط يمكن أن تتحول مبادرة الرباعية من عامل ضغط على السودان إلى قوة داعمة للمسار المدني الديمقراطي.The post الرباعية بين الحل الوطني وأزمة خطاب الشيوعي appeared first on صحيفة مداميك.