إبراهيم أحمد البدويمقدمة:بحسب بيانهم الصادر فى 12 سبتمبر 2025، فقد أحدثت دول الرباعية المكوّنة من الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والإمارات ومصر نقلة نوعية فى جهود إنهاء الحرب وبناء السلام فى البلاد. لقد جاء البيان بعد مشاورات تفاوضية مكثفة، ودعوة من الولايات المتحدة لعقد اجتماع وزاري للرباعية ليخرج بخريطة طريق محورية للحلّ فى ظل تصاعد حدة النزاع المسلّح وتداعياتة الإنسانية الكبيرة. فهذا البيان يُقدّم خريطة طريق عملية تشمل جدولاً زمنياً والتزامات محددة، ملوحاً بضغوطٍ دبلوماسيةٍ وعقوباتٍ على الأطراف التي تعيق السلام.بلا شك ستواجه هذه المبادرة عقبات كبيرة، أكثرها ضراوة ستكون مقاومة معسكر “الإسلامويون” وتوابعهم من مجموعة “الشمولية الوظيفية”. أيضاً، إذا لم تنهض القوى المدنية الديمقراطية السودانية بمسئوليتها الوطنية فى هذا المنعطف التاريخى الخطير فإن أصحاب المبادرة قد يضطرون لإعتماد خيار الشراكة العسكرية فى إطار إتفاقيات “قسمة السلطة”(power-sharing) ، على غرار إتفاقية جوبا المشئومة. وعلينا أن لا نستبعد هذا السيناريو لأن “الوضع الطبيعي الجديد” (the New Normal) في بناء السلام بحسب أستاذ عبدول محمد (الخبير الأممى و رئيس مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة للسودان) هو نهج قائم على “تسليع” عملية السلام، ومتمركز حول وقف إطلاق النار، وتقوده النخبة، ويستبدل التسويات السياسية الحقيقية بمساومات قصيرة الأجل(1).بالمقابل، يمكن أن تفتح هذه المبادرة نافذة أمل للقوى المدنية الديمقراطية لكى تستعيد دورها في العملية الانتقالية إذا توصلت هذه القوى عاجلاً ليس آجلاً إلى ميثاق وطنى جامع يحظى بتوافق عريض، يوظف هذه المبادرة لدعم الميثاق المنشود، والذى بالضرورة يجب أن يتجاوز إعلانات المبادئ العامة المتداولة فى الساحة السياسية السودانية ويقدِّم مشروعاً وطنياً برامجياً ممرحلاً يهدف إلى تحقيق هدفين استراتيجيين:أولاً، إنهاء الحرب فى سياق عملية تؤدى لإزالة عسكرة السياسة والاقتصاد، وتعديل توازن القوى لصالح مشروع الانتقال المدنى السلمى الديمقراطى النهضوى: أى تقوية المجتمع وقواه الحية بحيث تدخل “الحالة” السودانية ذلك الممر الضيق نحو الإنتقال المنشود(2).ثانياً، التموضع والثبات فى هذا “الممر” وإنهاء متلازمة السودان صعوداً إلى آ فاق المعادلة الكسبية بين المجتمع والدولة: نحو بناء دولة قوية، مقتدرة، مساءلة لدى مجتمع متماسك لكى تحقق تحولات تنموية واسعة ومستدامة، تعالج جذور أزمة الصراعات والتخلف الاقتصادى والاجتماعى.أولاً، الإصلاح الأمنى والعدالة الانتقالية:احتوى بيان الرباعية على أربعة محاور أساسية، كلها ذات علاقة مباشرة بتعديل توازنات القوى لصالح المجتمع المدنى الديمقراطى وتحرير مصير البلاد من هيمنة النخب العسكرية والمليشياوية التى تتسيد المشهد الماثل فى ظل هذه الحرب:• دعوة لوقف إطلاق النار وهدنة إنسانية أولية: هدنة انسانية أولى مدتها ثلاثة أشهر لتمكين دخول المساعدات الإنسانية بأمان وسرعة إلى كافة أنحاء السودان يليها وقف دائم لإطلاق النار.• عملية انتقالية شاملة: الانتقال نحو حكم مدني وشفاف، تُختتم خلال تسعة أشهر من بدء العملية، تلبّي تطلّعات الشعب السوداني؛ التأكيد على أن مستقبل الحكم في السودان يجب أن يقرّره الشعب السوداني وحده، دون سيطرة لأي طرف من أطراف النزاع؛ إن مستقبل السودان لا يمكن أن تُمليه الجماعات المتطرّفة العنيفة التي تنتمي أو ترتبط بشكل موثوق بجماعة الإخوان المسلمين، التي أدى نفوذها المزعزع للاستقرار إلى تأجيج العنف وعدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.• مبادئ أساسية للحل والسلام: سيادة السودان، وحدته وسلامة أراضيه أمر ضروري للاستقرار؛ لا حل عسكري مجدٍ، واستمرار الحرب يفاقم الأزمة الإنسانية ويهدد السلام والأمن الإقليمي؛ ضرورة حماية المدنيين، الامتناع عن الهجمات العشوائية على المدنيين والبنية التحتية المدنية؛ تسهيل وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، عبر جميع الوسائل؛ إنهاء الدعم العسكري الخارجي للأطراف المتحاربة، باعتباره عاملاً مفاقِماً للنزاع.• متابعة التنفيذ والمساءلة: الرباعية تعهّدت بمتابعة تنفيذ الجدول الزمني للهدنة والانتقالية عن كثب، كما أكدت استعدادها للقيام بالجهود الدبلوماسية اللازمة للتأكّد من التزام الأطراف بما ورد في البيان.كما أشرنا آنفاً، على الرغم من الوزن الدولى والأقليمى الذى تحظى به، فإن هذه المبادرة ومحاورها الأربعة سوف لن تكون فعالة ومنتجة إلا تحت سقف مشروع وطنى محدد المعالم، وليس كمشروع أصيل قائم بذاته لإنهاء الحرب وبناء السلام المستدام فى السودان. تحديداً، فيما يخص الهدف الاستراتيجى الأول بشأن “إنهاء الحرب فى سياق عملية تؤدى لإنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد، تعيد توازن القوى لصالح مشروع الانتقال المدنى السلمى الديمقراطى النهضوى” – والذى نحن بصدده فى هذا المقال – لابد أن يبدأ المشروع الوطنى المنشود بتقديم برنامج للإصلاح الأمنى وإعادة هيكلة جذرية للقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، متكاملاً مع برنامج مماثل للعدالة الانتقالية(3).ثانياً، مبادرات القوى السياسية:المثلج للصدر أن القوى المدنية الديمقراطية قد إهتماماً كبيراً بهذين المحورين، وثقته مواقعها ومختلف المنابر والوسائط الاعلامية. أيضاً، هناك توافق عام حول المرتكزات الأساسية لمقاربة هذين الإستحقاقين الهامين. فمثلاً، بمقارنة مبادرات تحالف ” صمود” و”التحالف الجذرى” و حزب الأمة القومى، نلاحظ مايلى:• توجد أرضية مشتركة بين التحالفات الثلاثة: رفض عسكرة السياسة، ضرورة إصلاح أمني شامل، عدالة انتقالية تضمن المحاسبة وجبر الضرر.• الاختلافات تكمن في مستوى التفصيل وطبيعة الطرح: صمود أقرب إلى برنامج عملي؛ التغيير الجذري قدمت برنامج راديكالي، لكن يفتقر لأدوات التنفيذ؛ بينما طرح حزب الأمة برناجاً مفصلاً ذو منحى إصلاحي توافقي.• يمكن لهذه القوى، إذا وحّدت مقترحاتها في إطار ميثاق جامع، أن تطرح رؤية مدنية قوية تحظى بتوافق وطنى واسع وتأييد من المجتمع الدولى كبديل لمناورات الأمر الواقع “الشمولية العسكرية”.ثالثاً، مشروع الخلاص الوطني لحزب الأمة القومى:مقارنة بالبرامج الأخرى، تعتبر مساهمة حزب الأمة القومى فى مجالي الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، المضمنة فى مشروعه الموسوم “مشروع الخلاص الوطنى”، الأكثر تفصيلاً وإحاطةً من بين البرامج المتاحة فى الساحة، مما يؤهله، برأى، لكى يؤخذ كنموذج يمكن البناء عليه. نورد أدناه أهم ملامح هذا المشروع فى نقاط.إ. الإصلاح الأمني:• إعادة بناء القوات النظامية على أسس مهنية، بعقيدة وطنية جديدة، بعيداً عن الانتماءات الأيديولوجية أو الحزبية أو الجهوية.• رفض مبدأ تعدد الجيوش، وتأسيس جيش وطني موحّد، يخضع للقرار المدني ويؤدي وظائفه الدفاعية حصرياً.• إنشاء مجلس أمن ودفاع برئاسة وعضوية مدنية للإشراف على ترتيبات إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية.• نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) ، بدعم فني من الأمم المتحدة والشركاء الدوليين، لتفكيك المليشيات ودمج المقاتلين في الحياة المدنية أو القوات النظامية.• إصلاح جهاز الشرطة ليصبح أداة لحماية القانون والمواطنين لا أداة للقمع السياسي.• الالتزام بعلاقة متوازنة مع الخارج تقوم على حماية السيادة الوطنية ودعم الأمن القومي بعيداً عن عسكرة الاقتصاد والسياسة.ب. العدالة الانتقالية:• التأكيد على أن وقف الحرب لا يعني السلام الكامل، بل يجب أن يتبعه برنامج عدالة انتقالية شامل.• التحقيق في انتهاكات الحرب من الطرفين، ومنع الإفلات من العقاب.• إنشاء قانون للعدالة الانتقالية يُعده خبراء محليون ودوليون، ويعتمد عبر مؤتمر المائدة المستديرة/المؤتمر الجامع.• تبني آليات متعددة تشمل:o محاكمات للجرائم الجسيمة وجرائم الحرب.o هيئة حقيقة وجبر ضرر وصندوق تعويضات للضحايا والنازحين.o إصلاح مؤسسات الدولة (القضاء، النيابة، الخدمة المدنية) على أسس مهنية مستقلة.• اعتبار العدالة الانتقالية شرطًا لتحقيق التحول الديمقراطي المدني الكامل، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.ت. الخلاصة:يرى حزب الأمة القومي أن الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية يمثلان عماد عملية الانتقال المدني الديمقراطي بعد الحرب: فالإصلاح الأمني يضمن بناء جيش وشرطة مهنية تحت قيادة مدنية، تحمي الدولة والمواطن، والعدالة الانتقالية تحقق المحاسبة، جبر الضرر، وترميم النسيج الاجتماعي، بما يمنع العودة إلى دورات الحرب والانقلاب. أيضاً، فإن إشارة مشروع الخلاص الوطنى لأهمية الدعم الفنى من الأمم المتحدة تكتسب أهمية خاصة لتعزيز ونجاح هذين الإستحقاقين المحوريين لإنجاز الانتقال المدنى الديمقراطى كما سنبين فى مقالنا القادم، بإذن الله.خاتمة:تناولنا فى هذا المقال مبادرة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) التي أُعلنت في سبتمبر 2025، باعتبارها نقلة نوعية في مساعي إنهاء الحرب السودانية. إذ وضعت المبادرة خريطة طريق تشمل وقف إطلاق النار، عملية انتقالية شاملة، مبادئ أساسية للحل والسلام، وآلية متابعة التنفيذ والمساءلة. إلا أن هذه المبادرة، رغم أهميتها، ليست مشروعاً أصيلاً بذاته لبناء السلام، بل ينبغي توظيفها كرافعة لمشروع وطني سوداني واضح المعالم. هذا المشروع يجب أن يستهدف هدفين استراتيجيين:• إنهاء الحرب وعسكرة السياسة والاقتصاد، بما يعيد توازن القوى لصالح الانتقال المدني الديمقراطي.• التموضع داخل “الممر الضيق” (أسيموغلو–روبنسون) عبر بناء مؤسسات قوية ومجتمع متماسك، بما يمهّد لتنمية مستدامة ودولة مقتدرة وخاضعة للمساءلة، وبإذن الله، وضع نهاية لأزمة “المتلازمة السودانية” التى أقعدت بمشروع بنهء الدولة السودانية الحديثة.تحديداً، ركزنا فى سياق الهدف الاستراتيجى الأول على محورين أساسين: الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين لأي انتقال ناجح، حيث عقدنا مقارنة بين برامج قوى مدنية مثل تحالف صمود، التحالف الجذري، وحزب الأمة القومي وأشرنا إلى أن هناك توافقاً عريضاً بين هذه البرامج، مما يمكن معه التوصل إلى رؤية موحدة فى سياق ميثاق وطنى جامع يحتوى على هذين البندين، ممهداً الطريق لإستكمال التوصل تفاهم وإتفاق حول الأجندة الوطنية اللاحقة. استعرضنا الملامح الرئيسة لمشروع “الخلاص الوطنى” لحزب الأمة بالنظر إلى أنه قدّم رؤية أكثر تفصيلاً والذى اشتمل على: إعادة بناء القوات المسلحة على أسس مهنية، رفض تعدد الجيوش، نزع السلاح وإعادة الدمج، إصلاح الشرطة، إلى جانب برامج عدالة انتقالية تشمل المحاكمات، لجان الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح مؤسسات الدولة.بالتالي، فإن نجاح المبادرة يتوقف على وعي القوى المدنية بضرورة التوحد حول ميثاق جامع يربط بين الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية ويعزز فرص نجاح عملية تعديل ميزان القوى بصورة كافية لصالح المشروع المدنى الديمقراطى وقواه الحية، ممهداً الطريق لدخول ذلك “الممر الضيق” نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة المقتدرة.عليه، ندعو القوى المدنية – بشقيها السياسى والاجتماعى – إلى عقد مؤتمر قومي شامل للسلام، يشارك فيه ممثلون عن كافة مكونات المجتمع السوداني من أحزاب سياسية، نقابات، منظمات مجتمع مدني، حركات شبابية ونسوية، وزعماء محليين، بعيداً عن صفقات الغرف المغلقة. يهدف المؤتمر إلى التوافق على ميثاق جامع يعبر عن الإرادة الشعبية، ويحدد معالم الانتقال السلمي المدني الديمقراطي، مع وضع آليات واضحة للإصلاح المؤسسي وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة. هذا الميثاق الجامع الذي سيخرج به المؤتمر القومي سيكون بمثابة عقد اجتماعي جديد، تكون مرجعيته الشعار الأيقونة لثورة ديسمبر المجيدة:”حرية، سلام وعدالة”.بإذن الله، سنعرض فى المقال القادم لأهمية دور الأمم المتحدة فى توفير الإسناد المؤسسي والمعياري اللازم لإعادة بناء السودان على أسس راسخة تحت سقف المشروع الوطنى الذى يرتضيه أهل السودان.________________________________________________________________________________(1) راجع ورقة عبدول محمد (المسؤول السابق في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة الذي يتمتع بخبرة واسعة في الوساطة في القرن الأفريقي، ولا سيما في السودان وجنوب السودان، وشغل مؤخراً منصب رئيس مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة للسودان):From Ceasefires to Real Peace: Reclaiming the Purpose of Peacemaking ina Polarized World(2) أنظر مقالى الموسوم “”المتلازمة السودانية” ونظرية “الممر الضيق”: https://alghadalsudani.com/16061/منتجات سودانية تقليدية(3) راجع ورقتى الموسومة “نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى: العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية”: https://www.medameek.com/?p=181767The post مبادرة الرباعية الدولية: هل تنهى الحرب وتعدل توازنات القوى لصالح مشروع الإنتقال السلمي المدني الديمقراطي النهضوي؟ appeared first on صحيفة مداميك.