بقلم: بلال مرابط حين ينظر الناس إلى المجرمين، فإن أول ما يخطر على بالهم هو السؤال الأبدي: لماذا؟ لماذا يقتل إنسان إنسانًا آخر؟ لماذا يجرؤ عقل بشري على انتهاك أبسط القوانين الأخلاقية والدينية؟ وإذا كان هذا السؤال قائمًا إزاء جرائم فردية كجريمة القتل أو الاغتصاب، فإن الحيرة تتضاعف عندما ننتقل إلى جرائم الحرب، حيث يتخذ الإجرام شكل “سياسة دولة”، ويُمارس تحت غطاء مؤسسات وقوانين. هنا يبرز اسم بنيامين نتنياهو، الذي ارتبط اسمه في العالم بجرائم غزة، وصار مرادفًا لمفهوم مجرم الحرب في الوعي الدولي، كما أصدرت لجنة التحقيق الدوليّة التابعة للأمم المتحدة تقرير رسمي وللمرة الأولى يقول صراحة بأن إسرائيل ترتكب "إبادة جماعية" الثلاثاء المنصرم ليكون مرجع الأمم المتحدة رسميا. لكن قد يكتفي البعض بإدانة نتنياهو عبر بيانات حقوقية أو قرارات أممية، لكن لعلم الإجرام مقاربة أخرى، إذ يهتم هذا الحقل العلمي بتفكيك الظاهرة الإجرامية من الداخل: لماذا تحدث؟ ما دوافعها النفسية والاجتماعية؟ وما الذي يجعل شخصًا ما يبرّر لنفسه اقتراف ما تعافه البشرية جمعاء؟ أمثلة التاريخ لا تُحصى: من أفعاله السابقة في لبنان، سوريا، اليمن، قطر إلى غارات غزة، نرى نمطًا متكررًا في كيفية تبرير القتل باسم الأمن أو الدفاع عن الدولة، وهو ما يُنطبق أيضًا على مجرمي الحرب في رواندا وصربيا الذين استخدموا خطاب “الحماية القومية” لتبرير المجازر. يرى عالم الاجتماع الأمريكي ثورستن سيلين أنّ الجريمة قد تكون وليدة اختلاف الثقافات والقوانين. وما يُعتبر جريمة في بلد ما قد يُعد ممارسة عادية في بلد آخر. يكفي أن نذكر مثالًا واضحًا: في هولندا يُسمح قانونيًا بحيازة كمية من الحشيش تصل إلى 50 غرامًا للاستعمال الشخصي، بينما في المغرب تُعد حيازة أقل من غرام واحد من نفس المادة جريمة يُعاقب عليها القانون. وهكذا يتحول الفعل الواحد من “سلوك مباح” إلى “جريمة” بحسب الإطار القانوني. وإذا أسقطنا ذلك على إسرائيل، نجد أنّ الاحتلال صاغ لنفسه تشريعات داخلية تعتبر قصف المدنيين “دفاعًا عن النفس”، وهدم البيوت “ضرورة أمنية”، بينما القانون الدولي يجرّمها باعتبارها جرائم حرب، كما حدث في الحروب السابقة في صربيا وكوسوفو حيث اعتبرت مجازر المدنيين جريمة وفق القانون الدولي، لكن الحروب الداخلية حولت “الفعل الدموي” إلى مشروع سياسي في نظر الأطراف المحلية. (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); أما مدرسة التحليل النفسي، فقدّمت تفسيرًا مختلفًا. فرويد يرى أن الجريمة قد تنبع من ضعف “الأنا” وعجز “الأنا الأعلى” عن ضبط غرائز “الهو”. خذ مثالًا بسيطًا من حياتنا اليومية: جرائم الاغتصاب، التي لا يقرّها دين ولا قانون، تحدث لأنها انعكاس لعجز داخلي عن كبح شهوة بدائية. وإذا طبقنا هذا على نتنياهو، سنجد أنّه مسكون بهاجس القوة، غير قادر على التعايش مع فكرة الحقيقة أو التراجع. فبدل أن يواجه عقده الداخلية، يفرغها على شعب أعزل، وكأن قصف الأبرياء وتهجير العائلات هي الوسيلة التي يعوّض بها عجزه النفسي العميق. الورقة العلمية التي أعدّها الدكتور وليد عبد الحي لصالح مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت، في مارس 2021، بعنوان "الدراسات النفسية لشخصية بنيامين نتنياهو"، تكشف عن البعد النفسي العميق في شخصية بنيامين نتنياهو، معتبرة أن سلوكه السياسي لا ينفصل عن موروث طفولي وأسري مشحون بالعزلة والشكوك والكراهية للآخر. وتخلص الورقة إلى أن نتنياهو يحمل سمات اضطراب نفسي واضحة، كالنرجسية، المراوغة، العدوانية، وانعدام المصداقية، وهي سمات تجعل قراراته السياسية انعكاساً مباشراً لخلل نفسي متجذر أكثر من كونها مجرد حسابات سياسية باردة. ومن خلال ماسبق يمكن مقارنة هذا بالعديد من قادة الحرب الآخرين عبر التاريخ، مثل سلوبودان ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا أو بول بوت في كمبوديا، الذين كانت شخصياتهم المضطربة انعكاسًا مباشرًا لجرائمهم ضد شعوبهم، حيث اندمجت عقدة السلطة مع فرص الهيمنة لتصبح سياسة إبادة ممنهجة. أما نظرية لومبروزو، رغم أنها أثارت الكثير من الجدل، فقد حاولت أن تفسر الجريمة من زاوية بيولوجية. اعتقد هذا العالم الإيطالي أنّ المجرم يمكن أن يُعرف من ملامحه: أذنان كبيرتان، عيون غائرة، بروز في الوجنتين، وفك ضخم. ورغم أنّ العلم الحديث تجاوز هذه النظرية واعتبرها تبسيطية، إلا أنّه يكفي أن ننظر إلى صور بعض قادة الحرب عبر التاريخ لندرك أنّ “الملامح” كثيرًا ما تعكس قسوة دفينة. يكفي أن نتذكر صور مجرمي الحرب في بعض الدول أو حتى قادة العصابات في دول أخرى، حيث توحي الوجوه قبل الأفعال بأن شيئًا مظلمًا يسكنها. وفي حالة نتنياهو، تبدو المفارقة أن ملامحه الجافة المتحجرة تتطابق مع صورة الزعيم الذي لا يبتسم إلا حين يتحدث عن “النصر العسكري” وهو في الحقيقة غارق في دماء المدنيين. وإذا حاولنا أن نقرأ مسار نتنياهو من زاوية أخرى، لوجدنا أن الرجل ليس مجرد سياسي عادي، بل هو انعكاس لبيئة اجتماعية وثقافية كاملة كما تطرقت الورقة سابقا. (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); إسرائيل بُنيت على فكرة الخطر الدائم، حيث يُلقّن الطفل منذ المدرسة أنّ كيانه مهدّد إن لم يكن قويًا. يكبر جيل كامل وهو يعتقد أنّ البقاء مشروط بالقوة وحدها. هذا النمط من التنشئة الجماعية يشبه إلى حد بعيد ما عرفته مجتمعات أخرى في التاريخ: ألمانيا النازية مثلًا ربّت أبناءها على فكرة “التفوّق العرقي” حتى تحوّل ذلك إلى قناعة راسخة تبرّر القتل الجماعي. الفرق أن التجربة النازية انهارت سريعًا بعد الحرب العالمية الثانية، بينما التجربة الإسرائيلية لا تزال تحظى بغطاء دولي يمدّها بالشرعية والحماية، وهو ما يتيح لمسار الإجرام السياسي أن يستمر دون محاسبة حقيقية. غير أن أعمق تفسير يظل في النص القرآني، وذلك مصدقا لقوله تعالى: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾. إذ لم يقل النص “قد تفسدون” أو “ربما”، بل جاء بصيغة يقينية: لتفسدن. وهنا لا نتحدث عن ظاهرة اجتماعية أو تفسير نفسي، بل عن قدر تاريخي. وما يجري اليوم في غزة ليس سوى صورة معاصرة لإفساد سبق الإخبار عنه كما يراه بعض المفسرون، حيث تتحوّل المدن إلى أنقاض، والإنسان إلى لاجئ، والحق إلى خطاب مقلوب. وهكذا تتقاطع النظريات العلمية مع التجارب التاريخية والنصوص الدينية في رسم ملامح شخصية مثل نتنياهو. فهو مجرم بالقانون الدولي، أسير لعقدة نفسية عميقة، نموذج لشرعنة الجريمة عبر القوانين الداخلية، ووجه آخر لنبوءة تاريخية لا تخطئ. غير أنّ النتيجة لا ينبغي أن تُقرأ بقدر من الحتمية المطلقة. فالتاريخ لم يُكتب يومًا بيد الطغاة وحدهم. كل مجرم حرب ظن نفسه خالدًا انتهى إلى محكمة أو إلى مزبلة النسيان. من ميلوسوفيتش إلى هتلر إلى مجرمي إفريقيا، ظلّ الدم البريء هو الذي يكتب الفصول الأخيرة. يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيستمر نتنياهو ومن على شاكلته في ارتكاب الجرائم محميين بشرعية زائفة؟ أم أنّ الشعوب، حين تستيقظ، قادرة على كسر هذه الحلقة وإعادة تعريف العدالة؟ قد يبدو المستقبل غامضًا، لكن المؤكد أنّ التاريخ لا يرحم، وأن دماء غزة لن تضيع، بل ستظل تطارد الجاني حتى اللحظة التي يظن فيها أنه في مأمن. وهنا فقط يكتشف أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تتبخر.