بروفيسور مكي مدني الشبليمأزق التوفيق بين الضمانات للعسكريين والعدالة لضحاياهم دون تبديد السلامبينما تستعر الحرب في السودان، يعيش الملايين تحت وطأة النزوح والجوع والعنف. وقد وضعت الرباعية (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، والإمارات) خارطة طريق تتضمن: هدنة إنسانية، يليها وقف لإطلاق النار، وصولاً إلى انتقال للسلطة المدنية. ورغم منطقية هذا الترتيب، إلا أنه يطرح سؤالاً بالغ الصعوبة: كيف يمكن إقناع الجنرالات المتحاربين بالتنحي عن السلطة بينما يواجهون شبح الملاحقة القضائية وخسارة النفوذ والانتقام؟الحقيقة القاسية أن أي قائد عسكري لن ينسحب طوعاً من السياسة من دون ضمانات جديَّة. وفي المقابل، يطالب المدنيون السودانيون بالعدالة لضحايا الانتهاكات، ويرفض الناجون تكرار دورات الإفلات من العقاب. التحدي إذن هو التوفيق بين هذين المطلبين المتناقضين: الضمانات والعدالة، من دون نسف فرص السلام.دروس من تجارب انتقالية أخرىالسودان ليس وحده في مواجهة هذه المعضلة. القارة الإفريقية وخارجها تقدمان نماذج متعددة، بعضها ناجح وبعضها مثقل بالثغرات:رواندا (1994): بعد الإبادة، اعتمدت الجبهة الوطنية الرواندية العدالة عبر محاكم دولية ومحاكم مجتمعية (غاشاشا). لم تُمنح أي ضمانات للنظام السابق. تحقق قدر من العدالة، لكن الإقصاء السياسي خلّف جروحاً مستمرة.ليبيريا (2003): خروج تشارلز تايلور ومنح قادة الحرب ضمانات أمن السلام، لكن العدالة تأخرت. أسهمت لجنة الحقيقة والمصالحة في كشف الانتهاكات، لكنها تركت كثيراً من حالات الإفلات من العقاب.موزمبيق (1992): اتفاق روما منح عفواً لمتمردي رينامو ودمج مقاتلين في الجيش. استقر السلام نسبياً وتحولت رينامو لحزب سياسي، لكن العنف عاد لاحقاً.الجزائر (أواخر التسعينيات): العفو الشامل عن الإسلاميين أنهى الحرب بسرعة لكنه أسكت الضحايا ورسّخ السلطوية.إثيوبيا (2022): الاتفاق مع جبهة تحرير تيغراي أعطاها مساحة سياسية وإعادة دمج، لكنه أجّل العدالة، ما ترك الثقة هشة.جنوب إفريقيا (1994): لجنة الحقيقة والمصالحة قدمت عفواً مشروطاً بالاعتراف الكامل، فاتحةً مساراً وسطاً بين الإفلات الكامل والمحاكمات.كولومبيا (2016): متمردو فارك حصلوا على عقوبات مخففة مرتبطة بالاعترافات وضمانات مشاركة سياسية، وهو نموذج هجين يجمع بين العدالة وإعادة الدمج.جنوب السودان (2015 و2018): اتفاقات السلام كررت تقديم ضمانات شاملة للنخب المسلحة بلا إصلاح أو عدالة، مما قاد إلى دورات صراع متكررة.ما الذي يجب أن يتعلمه السودان – مسار هجين للسلام والعدالةهذه التجارب تطرح ثلاث دلالات واضحة:مساءلة انتقائية: المحاكمات الشاملة غير واقعية. لكن يمكن محاكمة كبار القادة مع تقديم منفى أو عقوبات مخففة أو إعادة دمج للبقية، لتحقيق توازن بين العدالة والاستقرار.آليات ترميمية: يحتاج السودان إلى عملية حقيقة ومصالحة تنبع من تقاليده، تعترف بالضحايا، وتوفر تعويضات، وتعيد بناء الثقة.ضمانات أمنية: لن يتنحى الجنرالات إلا بضمانات جدية لهم ولقواتهم، سواء عبر عفو مشروط أو منفى أو دمج في هياكل أمنية معاد إصلاحها. لكن لا بد أن تُدار هذه الضمانات من سلطة مدنية انتقالية، لا من المؤسسة العسكرية نفسها.تفادي فخ جنوب السودانالخطر الأكبر أن يعيد السودان إنتاج تجربة جنوب السودان: منح ضمانات مفتوحة لقادة الحرب بلا إصلاح أو مساءلة. هذه الوصفة لا تجلب سوى هدن هشة يعقبها عنف جديد. المطلوب بدلاً من ذلك هو مسار هجين متوازن: ضمانات موثوقة تُخرج الجنرالات من المشهد، مقرونة بقدر كافٍ من العدالة لطمأنة الضحايا ومنع الإفلات المستقبلي.الضمانات لتنفيذ المسار الهجيننجاح هذا المسار يتطلب ضمانات متعددة المستويات وذات مصداقية. يمكن للرباعية أن توفر الغطاء السياسي والحوافز الملموسة لتنحي الجنرالات. أما الأمم المتحدة فلها دور في إضفاء الشرعية الدولية، وتقديم الدعم الفني للعدالة الانتقالية، وتوفير آليات مراقبة أو حفظ سلام. وعلى المستوى الإقليمي، يظل الاتحاد الإفريقي والإيقاد لاعبين لا غنى عنهما، بما يملكانه من شرعية إفريقية وقدرة على جمع المدنيين السودانيين تحت مظلة واحدة وضمان ألا يُفرض أي اتفاق من الخارج بل ينطلق من توافق إقليمي. باختصار: الرباعية تقدم النفوذ، الأمم المتحدة تمنح الشرعية والرقابة، الاتحاد الإفريقي والإيقاد يوفران الملكية الإفريقية، معاً يشكلون شبكة ضمانات متعددة المستويات.فرصة الرباعيةإن تسلسل الرباعية: هدنة، ثم وقف إطلاق النار، ثم انتقال مدني، يفتح نافذة حقيقية. لكن نجاحها مشروط بتوحيد الصوت المدني السوداني. فالتشرذم لا يخدم إلا الجنرالات. المطلوب جبهة مدنية عريضة، تقودها وحدة قوى الحرية والتغيير، تطرح خطة واضحة لمسار العدالة الهجين والمصالحة، بدعم من وساطة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيقاد.السلام في السودان لن يأتي مجاناً. فـ”الضمانات بلا عدالة” تعني تكريس الإفلات من العقاب، بينما “العدالة بلا ضمانات” تعني إطالة أمد الحرب. التحدي هو الجمع بينهما في صيغة سودانية تقود إلى انسحاب الجنرالات من دون مصادرة مستقبل البلاد.عانى السودانيون جميعاً، وأنا منهم، مرارات كامنة وأحقاداً دفينة خلفها القتل والنهب والتشريد الذي تسبب فيه جنرالات الحرب. ومن الطبيعي أن يبدو أي حديث عن ضمانات أو تسويات وكأنه إهانة لدماء الشهداء وآلام الضحايا. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن السودان اليوم يقف على حافة التمزق والاندثار. ولأن السلام الكامل بلا تنازلات غير ممكن، فإن المسار الهجين للسلام والعدالة، رغم أنه لا يشفي الغليل ولا يمحو الأوجاع، يظل الطريق الوحيد الممكن لإنقاذ الوطن من التفتت وضياع ما تبقى من مستقبل للأجيال القادمة. إنه خيار الضرورة، لا خيار الرضا، لكنه السبيل الوحيد لبناء غدٍ يمكن أن تتفتح فيه عدالة السماء التي لا تهمل على مهل، من دون أن ينهار البيت السوداني على رؤوس الجميع.لقد واجهت دول أخرى هذا الخيار: رواندا، ليبيريا، موزمبيق، الجزائر، إثيوبيا، جنوب إفريقيا، كولومبيا، وجنوب السودان. كلها أظهرت أن للسلام كلفة، لكن للعدالة ثمناً كذلك. وخيار السودان اليوم حاسم: إما صياغة مسار متوازن يجمع بين الضمانات والعدالة، أو البقاء رهينة لدورات الدم بلا نهاية.الضمانات بلا عدالة تعني إفلاتاً من العقاب. العدالة بلا ضمانات تعني استمرار الحرب. والوقت لا ينتظر.المدير التنفيذي، مركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post السُوْدَان عِنْدَ مُفْتَرَقَ طُرُقٍ: الضمانات للجَنَرَالَاتِ والعَدالَةِ لِلضَحَايَا appeared first on صحيفة مداميك.