يسرا حمزةامشي على الأسمنت حتى اصل الى العشب الرطب في الضوء الخفيف واجلس، واراقبُ السماء والنجوم القليلة الظاهرة وافكرُ بالذين فارقتهم قبل أعوام ولم أرى وجوههم الا في شاشاتِ الهاتف غير واضحة ومشوشة وحزينة، وكم مرةٍ بكينا معاً من بعيد، في اول ليلة بعيداً عن بيتنا وعن الخرطوم بكيتُ بدون صوت، بكيتُ لأنني لم استوعب ما مررنا به طوال شهرين تحت القصف الا في تلك اللحظة عندما وضعتُ رأسي على وسادةٍ غريبة وكان الشارعُ هادئاً بلا أصوات رصاص او قذائف والسماءُ ساكنة ولا تمرُ بها الا الطيور والغيوم والطائرات الورقية المعلقة بالخيوط ويمسكها الأطفال، لم تكن هنالك طائرات حربية تسقطُ القنابل ولا صواريخ تعبرُ من فوق البيوت، جعلتني الأصوات العادية للحياة في الطريق اندهش وارتجف، كيف يمشون دون ان يتلفتوا ودون تفقدِ السماء من فوق رؤوسهم كل دقيقة؟ وكيف لا تفزعهم الأصوات العالية؟ كان العاديُ مخيفاً ولوقتٍ طويل لم اكن انام في الخرطوم الا على صوت الرصاص ومضادات الطيران، ولم انم بشكلٍ مطمئن الا بعد أيام في بيت جدي بعيداً جداً عن الخرطوم، وكان الجنود واحمد المغطى بالدم يزورني في الاحلام، وكأنهم يعاتبونني على مغادرتي، لم نمكث طويلاً ولم نتعرض لأذى الجناجم ولكن ما مررنا به ترسب عميقاً داخل عظامي وهو كافٍ ليصيبني بنوباتِ هلع دون انذار، اتجمدُ في مكاني واعودُ للخرطوم مجدداً واعيش كل شئ من البداية وحتى النهاية وكأنه يحدث مرة اخرى، وافكرُ بكل الاخرين الذي مروا بأشياء سيئة حقاً وتم تعذيبهم وفقدوا الكثير، كيف ينامون في الليل؟ ما زال فمي ممتلئاً بالهواء الذي كنتُ انفسه واكتمه كلما اوقفونا في نقطة تفتيش، وربما سأخرجه عندما اعودُ الى الخرطوم الى بيتنا وشجرة النيم والعصافير والمطر وكتبي التي بعثرها الجنود واللصوص بحثاً عن المال والذهب.The post [كفمٍ مليء بالهواء] appeared first on صحيفة مداميك.