منى أبو النصرفي روايته الأحدث «زهرة النار»، الصادرة عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، يضع الكاتب والروائي المصري محمد سلماوي سؤال الحب في معادلة صعبة، مستثمراً المفارقات الطبقية والعمرية والاجتماعية لبناء عالم تتنازعه العاطفة وتتخلله السياسة، حيث الحب لا يُقدَم كقصة رومانسية محضة، بل كساحة اختبار لأسئلة المجتمع والتاريخ، فتتحوّل التجربة الفردية إلى مرآة تعكس صراعاً أوسع.منذ عتبة العنوان، يضع سلماوي قارئه أمام رمز صريح، حيث تشير «زهرة النار» إلى زهرة استوائية نادرة لا تتفتح إلا حين تُحيطها النار، وهو ما يجد مجازه في الرواية عبر بطلتها «عالية»، صاحبة متجر «الأنتيكات»، التي تحتفظ في متجرها لسنوات طويلة بلوحة «زهرة النار» المُوقعة باسم فنان مجهول، وترتبط بتلك اللوحة وجدانياً فتمتنع عن بيعها للزبائن، دون أن تعرف أن تلك اللوحة تحمل قدرها الذي يشبه قصة تلك الزهرة النادرة، فلا يُزهر قلب عالية إلا في قلب الخطر، وعبر الشغف الذي لا يكتمل إلا عبر العذاب، فتتفتح بتلات قلبها بلقاء شاب يصغرها في العمر، ليواجها معاً محنة الاعتراف بحبهما أمام المجتمع، الذي يُحاكِم تلك العاطفة ويرفضها.شرارة الحبيُمهد السرد لصدفة تعزز الرابطة العاطفية بين (خالد)، المهندس العشريني الذي يختبر ضغوط الحياة في بداياتها، وبين (عالية)، الأرملة الخمسينية، فلا تبدو علاقة حب خاطفة بين رجل وامرأة، بل مواجهة بين جيلين وطبقتين، وبين احتياجات متباينة للحب والطمأنينة، وبقدر ما تصبح الفروق العمرية والاجتماعية عائقاً، تصير هي نفسها الشرارة التي تمنح القصة عُمقها، وتجعل الحب أقرب إلى «زهرة النار» التي لا تُزهر إلا حين تُحيط بها النيران: «ربما صنعت هذا الحب بنفسك لأنك كنت تبحث عنه ولم يأت من تلقاء نفسه. قال: الحب لا يأتي بإرادتنا، وإنما يأتي وقتما يشاء وكيفما شاء. هو شرارة تنطلق من حيث لا ندرى فتشعل حريقاً هائلاً لا يمكن مقاومته».غير أن سلماوي لا يكتفي بتتبع خيوط العاطفة المُعقدة بين بطليه، بل يوظّف المكان ليكون شريكاً في الحكاية، فيصبح «متجر الأنتيكات» الذي يجمعهما ليس مجرد خلفية مُحايدة، بل فضاء يعزز من رمزية السرد وحركته، لتتقاطع المقتنيات القديمة في المتجر بذاكرتها الفنية مع قصة الحب الوليدة، فيبدو تمثال نادر للفنان الإيطالي أنطونيو كانوفا، المصنوع من المرمر في القرن الثامن عشر، والذي يُجسد لحظة استيقاظ النفس النائمة بعد أن قبّلها إله الحب، وكأنه نبوءة عاطفية واستعارة ليقظة النفس عبر الفن والعاطفة معاً.ومن خلال هذا التوظيف الرمزي لمقتنيات الفن في متجر (عالية)، يفتح سلماوي باباً أوسع لتأمل الثقافة ذاتها كمأوى للحب، حيث الثقافة ليست مجرد ماضٍ يُقتنى أو سلعة تباع، بل فضاء تتجدد داخله المعاني، ومن خلال التمثال واللوحة، يطرح النص أسئلة موازية عن التأثيرات الحضارية، فيصبح الجمال فعل مقاومة للاستهلاك، ويستعيد التراث روحه النابضة من خلال الحب، وفي المقابل، يُلمّح النص إلى وجه الرأسمالية المتوحشة التي تُهمش القيمة التراثية وتُجردها من سياقها لتتعامل معها كسلعة تجارية، وهو ما ظهر من خلال شخصية (يوسف رستم) الثري المهاجر إلى الولايات المتحدة، الذي يعرض على البطلة عالية شراء تمثال «كانوفا» بأي سعر في محاولة استعراضية لكسب قلبها، فيما تتشبث هي برفض بيعه بأي سعر.كما تصنع الرواية مقاربات بين فكرة الاقتحام العاطفي والغزو الحضاري، فيصف خالد دخول عالية المفاجئ إلى حياته كغزو حالِم: «اقتحم عليها مملكتها دون استئذان، لكن بدلاً من أن يغزوها كانت هي التي غزته»، ويعزز تنقّل أحداث الرواية بين مصر وفرنسا في فتح أفق ثقافي أوسع، حيث يستثمر الكاتب رحلة بطليه إلى فرنسا لتقديم بانوراما تأملية بين معالِمها دون تورّط في انبهار حضاري بها، وفي المقابل غاص البطلان في تأملات حول «الولع» الفرنسي بمصر، برغم من اقتحام نابليون بونابرت بجيشه لها، فإن «مصر هي التي غزته هو والجنود والعلماء الذين أحضرهم معه»، فتتقاطع دوائر التأثيرات الشخصية والتاريخية في نسيج سردي واحد.دائرة الأسئلةبالتوازي مع هذا الخط العاطفي/ الثقافي، يتسلل في الرواية خيط سياسي يكشف الصورة الأكبر لعالم البطلين، فخالد ليس مجرد عاشق حائر، بل ابن جيل يبحث عن موقعه في مجتمع مأزوم، فهو يخوض مع صديقه (مدحت)، الذي يحاول تأسيس حزب بيئي على غرار حزب «الخضر» حالة من التعطيل المتعمد، فيبدو الحزب تمثيلاً للحلم الجماعي في مواجهة انسداد الأفق السياسي، وهنا تتوازى الحكايتان؛ فكما يُهدَد حُب خالد وعالية بالفشل تحت ثِقل الأعراف الاجتماعية، ينهار مشروع مدحت أمام التسلّط البيروقراطي والسياسي، فيصبح الفشل الفردي صدى للفشل الجماعي، في ربط بين الأزمة العاطفة والأزمة السياسة في بنية واحدة.وبرغم أن السرد يتقدم في الرواية ببساطة ظاهرية، لكنه محمّل بتوتر داخلي يجعل كل مشهد عادي مدخلاً لأسئلة أكبر عن الطبقة والسلطة، وعن جدوى السياسة في أفق مغلق، وعن قدرة الثقافة على أن تظل مأوى للجمال في وجه منطق السوق، فيما يصبح الحب ليس مجرد تجربة وجدانية، بل اختبار لحدود المجتمع وقدرته على احتضان الاختلاف.وهكذا تبدو هيمنة الأعراف الاجتماعية، وأقنعة السياسة وكأنها تقود قاطرة مصائر الأفراد في الرواية، والتراث الفني من لوحة وتمثال رموزاً للجمال في مواجهة التبديد، فيما تظل «الزهرة» التي لا تُزهر إلا حين تُحيطها النار، تجسيداً لرحلة الإنسان في صهر معنى لحياته، لا يتجلى إلا عبر امتحان صعب.https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/%D9%83%D8%AA%D8%A8/5187327-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8%D9%91-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A7%D9%8B-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8F%D9%84%D8%B7%D8%A9The post الحبّ… مواجهاً التاريخ والسُلطة.. تداخل العاطفي والثقافي في «زهرة النار» لمحمد سلماوي appeared first on صحيفة مداميك.