عادل كلر“الذاكرة لا تتلاشى؛ إنها تلتصق بنا مثل غبار أديس، متسربةً إلى كل نفس نتنفسه“.. (Beneath the Lion’s Gaze, 2010).تعد أغاني تزيتا ‘TIZITA’ إحدى أشهر أنماط الأغاني والموسيقى الاثيوبية، إذ تعبِّر عن الحنين والإشتياق والإشارة الى الذكريات. وتعتبر أغنية ال”تيزيتا” جزءاً أصيلاً من التراث الثقافي الاثيوبي. وتعني كلمة تزيتا ‘Tizita’ في اللغة الأمهرية الحنين الى الماضي أو الذكريات/ الشجون، لكنها في الاصطلاح -حسب الثقافة الاثيوبية- تتجاوز مجرد الحنين؛ فهي آلية للتأمل في الماضي، وأداة لفهم العلاقات الاجتماعية والتفاعل مع الهوية التاريخية والجماعية والشعور العميق بالإشتياق للماضي، للوطن، وللأشخاص المفتقدين[١].وكذلك تعد ‘تزيتا’ من المفاهيم المركزية في الثقافة الاثيوبية، وتستخدم في الموسيقى، الأدب، الفن، التاريخ، والعلوم الاجتماعية. كأداة للتعبير عن الصدمات الجماعية، الهوية الثقافية، والذاكرة التاريخية. وتُبرِز أعمال الروائية والكاتبة الامريكية الاثيوبية معازا منقستي (Maaza Mengiste) تمثيلات لمفهوم تزيتا في الأدب الإثيوبي، حيث تُظهِر أعمالها الروائية كيف يمكن للمفهوم أن يتجاوز الموسيقى ليشمل الرواية والشعر: مُعبِّراً عن الحنين، الذاكرة، والهوية الثقافية، من خلال إبحاره في لجج تجارب الأفراد والشعوب والمجموعات، وفي سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، ليبيِّن كيف ان الذكريات وتجارب الماضي تؤثر على الحاضر والمستقبل.بجانب المساهمة الرفيعة التي قدمتها أعمال البروفيسور الراحلة إليني سنتيم زيلكي (Elleni Centime Zeleke)، الباحثة الاثيوبية الأبرز في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، والمتخصصة في الدراسات الاثيوبية والافريقية؛ والتي عكست استخدامات وتوظيفات جديدة ل’Tizita’ كمنهج بحث في حقول وفضاءات الفكر المعاصر، المجتمع، والسياسة، في مباحث أكاديمية شديدة الثراء والخصوبة والبينية، موضعت فيها الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية كوسائل لمقاومة الهيمنة وكمنهجية لفهم وتحليل الأحداث والتاريخ الاثيوبي[٢].ولدت معازا منقستي في أديس أبابا عام ١٩٧٤، وغادرت اثيوبيا مع عائلتها في سن مبكرة بسبب قيام الثورة الاثيوبية. استقرت في الولايات المتحدة حيث درست الكتابة الابداعية في جامعة نيويورك. تعد روايتها ‘تحت نظر الأسد'(٢٠١٠) Beneath the Lion’s Gaze من أبرز الأعمال الروائية التي تناولت الثورة الاثيوبية، وذلك من خلال منظور عائلة يتمظهر في سلوك ومنطق أفرادها تأثير الصراع السياسي على الأفراد والمجتمع ككل. وروايتها الأخرى ‘ملك الظل’ (٢٠١٩) The Shadow King التي تشتغل على فضاء ثلاثينيات القرن العشرين إبان سنوات المقاومة الاثيوبية للاحتلال الايطالي، مسلطةً الضوء على أدوار النساء في المقاومة والحرب. ومن خلال أعمالها الروائية ومقالاتها والحوارات التي أجريت معها؛ تظهر معازا منقستي كيف أن ‘تزيتا’ ليست مجرد شعور بالحنين، بل هي أداة لفهم التاريخ والهوية، حيث تستخدمها للتعبير عن الصدمات الجماعية وللتواصل مع الماضي، والتعامل مع مشاعر الغربة والحنين ولواعج الشتات. ومن خلال عديد الشخصيات التي تُمثِّل وتتمثَّل ‘تزيتا’ تُقدّم منقستي رؤية عميقة لتأثيرات الصراع السياسي على الأفراد والمجتمعات، وتناقش أحداث رواياتها كيف أن الذكريات والحنين يمكنهما أن يلهما الأفراد للقتال من أجل الحرية والعدالة، وكيف يمكنهما أن يحفزا الأفراد كذلك على مواجهة التحديات والتغيرات[٣].وبجانب منقستي، ينهض اسم الباحثة الاثيوبية الراحلة إليني سنتيم زيلكي في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وتاريخ الفكر الثوري الاثيوبي وأثره على السياسة والمجتمع؛ في إطار توظيف واستخدام مفهوم ‘تزيتا’ في النطاق الأكاديمي: تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي في أفريقيا. وذلك عبر طرح ‘تزيتا’ في كتابها ‘جوهرة في الأذن’ (٢٠٢٠) A Jewel in the Ear، كأداة لفهم التاريخ الاثيوبي. حيث تقدم الذاكرة الجماعية لا كوسيلة للحفاظ على الهوية فقط، بل لمقاومة الهيمنة الثقافية والسياسية، هذا الكتاب الذي جاء كطرح أدبي وفكري يدمج بين السردية الشخصية والتحليل الفكري والسياسي، وذلك عبر توثيق تجربة الحرب الأهلية الاثيوبية التي اندلعت في ٢٠٢٠ (حرب تقراي) من خلال رسائل شخصية تبادلتها مع والدها. ولا تكتفي فصول الكتاب بالسرد الشخصي وحده، بل تستكشف وتغوص في معرفة كيفية استخدام الأفكار القومية الافريقية والسياسية لتبرير الصراع الأهلي، والأثر العميق لذلك على الهوية الوطنية والشخصية. ولدت إليني في اثيوبيا وعاشت في عدة دول ككندا وغيانا وباربادوس، حصلت على الدكتوراه في الفكر الاجتماعي والسياسي من جامعة يورك بتورنتو في ٢٠١٦، وشغلت منصب أستاذ مساعد في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا بجامعة كولومبيا بنيويورك من عام ٢٠١٨ حتى وفاتها في ٦ يوليو ٢٠٢٤ بعد صراع مع مرض السرطان[٤].ويعد كتاب ‘اثيوبيا في النظرية: الثورة وانتاج المعرفة ١٩٦٤- ٢٠١٦’ (٢٠١٩) Ethiopia in Theory: Revolution and Knowledge Production 1964-2016، من أبرز أعمالها، وهو أطروحة بحثية أكاديمية متعمقة تستعرض تاريخ الفكر الثوري في اثيوبيا مع تركيز خاص حول ديناميات انتاج المعرفة في اطار الثورة الاثيوبية عام ١٩٧٤ وما تلى ذلك التاريخ، كما تناقش زيلكي تفاعل الأفكار الماركسية والاشتراكية في السياق الاثيوبي، ومدى تأثيرها على الحركات السياسية والاجتماعية. يبدأ الكتاب باستكشاف وفحص حركة الطلاب الاثيوبيين في الستينيات والسبعينيات وتشابكها مع أحداث الثورة، ويستعرض كيف تبنَّت النخبة السياسية الاثيوبية الفكر الماركسي كأداة لتحليل الواقع الاثيوبي ولمحاولة إعادة بناء الدولة، كما ناقشت زيلكي كيفية انتاج المعرفة السياسية والفكرية خلال فترتي الثورة ثم الدكتاتورية التي أعقبت قيامها، وقدمت تحليلاً شاملاً للتوترات بين الفكر الماركسي الغربي والخصوصية الاثيوبية، وشرحت كيف تم توظيف هذا ال’توتر’ في الخطاب السياسي، الى جانب ابرازها التغيرات في آيديولوجيا الثورة وأهدافها عبر المراحل المختلفة وانعكاس وصدى ذلك على الهوية الوطنية.وطرحت اليني سنتيم زيلكي في الكتاب مفهوم ‘تزيتا’ كأداة تحليلية لفهم التاريخ الاثيوبي، مستخدمةً الذاكرة ك(كاشف) للتحولات الاجتماعية والسياسية؛ وهكذا جمعت بين الفكر الأكاديمي والتحليل السياسي والسرد الشخصي ما يعكس تفردها في خارطة الأكاديميا الأفريقية والأمريكية، بتقديمها لقراءة للثورة والانتاج المعرفي بعين الشخص المتأثِّر تاريخياً وثقافياً، بإستخدامها ” كأداة معرفية ونقدية لفهم الأحداث التاريخية، تقييم الصراعات، وتحليل ديناميات انتاج المعرفة الثورية[٥].يستند الاطار النظري لهذه الورقة الى ‘دراسات الذاكرة’ التي بلورها جان أسمان Jan Assmann في مفهوم ‘الذاكرة الثقافية’ (٢٠١١) وسفيتلانا بويم Svetlana Boym في اطروحتها عن ‘النوستالجيا’ (٢٠٠١)، وكذلك بول ريكور Paul Ricoeur في سفره الشهير ‘الذاكرة والتاريخ والنسيان’ (٢٠٠٤)، والنقد ما بعد الكولونيالي من خلال إدوارد سعيد ‘الثقافة والامبريالية’ (١٩٩٣) واعجاز أحمد في مبحثه الوسيم ‘في النظرية’ (١٩٩٢).يطرح جان أسمان مفهوم الذاكرة الثقافية ‘Cultural Memory’ بإعتبارها مستودعاًً رمزياً تحفظ فيه المجتمعات صورها عن الماضي، ليس فقط كوقائع تاريخية؛ بل كشبكة من الطقوس والفنون والرموز والآثار والتقاليد الفنية. ومن هذا المنظور تأتي ‘تزيتا’ كأحد أشكال الذاكرة الثقافية الاثيوبية: فهي ليست مجرد أغنية أو شعور شخصي، بل تمثل مستودعاُ جمعياً للذاكرة الوطنية. كل مرة يُغنًّى فيها اللحن، تتم إعادة انتاج التاريخ واحياؤه. لا كتاريخ رسمي، بل كحس وجداني مشترك[٦].ويُمشكِل بول ريكور في كتابه ‘الذاكرة، التاريخ، النسيان’ الذاكرة بوضعها في مفارقة بين التذكر والنسيان. وتجسِّد روايات معازا منقستي مثل ‘تحت نظر الأسد’ هذا التوتر، حيث أن شخصياتها تسعى إلى التمسك بذكريات الثورة ومآسيها، لكنها في الوقت نفسه، تميل الى النسيان حفاظاً على السلامة النفسية، وهنا تظهر ‘تزيتا’ كتجربة معقدة، ليست مجرد استدعاء للماضي الجميل، إنما أيضاً استحضاراً للفقد ولفجيعة الصدمة[٧].تستند الورقة كذلك الى دراسة سفيتلانا بويم ‘النوستالجيا كفعل ثقافي’، حيث تميِّز بويم بين النوستالجيا الترميمية Restorative Nostalgia التي تحاول إعادة بناء الماضي كما لو كان من الممكن استىجاعه؛ وبين النوستالجيا التأملية Reflective Nostalgia التي تعترف بفقدان الماضي وتعيش في مساحة الحنين والتأمل. وهنا تتبدى ال’تيزيتا’ أقرب الى النوستالجيا التأملية، فهي ليست محاولة لإعادة زمن الامبراطورية الاثيوبية أو عهود ما قبل ثورة 1974، بل هي هنا تمثل اعترافاً شفافاً بأن هذا الماضي لن يعود، انه يُستدعى كصوت موسيقي أو شجن وجداني، لا كمشروع سياسي[٨].أيضاً، تتقاطع بعض افكار الورقة مع دراسات النقد ما بعد الكولونيالي وفقاً لإدوارد سعيد الذي يرى في ‘الثقافة والامبريالية’ أن الأدب في المجتمعات ما بعد الاستعمارية يصبح وسيلة لمسائلة العلاقة بين الماضي الامبريالي والهوية الوطنية، وبهذا يمكن قراءة ‘تحت نظر الأسد’ و’ملك الظل’ كجزء من هذه المحاولة، فهما تستحضران ماضي اثيوبيا (الاحتلال الايطالي، الثورة) لا كوقائع ثابتة، إنما كحوار دائم بين الماضي والحاضر، بين الداخل (الوطن) والخارج (المنفى)، وخلال هذه العملية تشتغل ‘تزيتا’ كوسيط جمالي يربط ما بين هذه المستويات: بين الحنين والهوية، بين المنفى والذاكرة الجماعية[٩].الى جانب اعجاز أحمد الذي ينتقد في سفره ‘في النظرية’ التعميمات الثقافوية في الخطاب ما بعد الكولونيالي. داعياً الى ربط التجربة الجمالية بالسياق الطبقي والتاريخي المادي. وعند منقستي، الشخصيات لا تتذكر الماضي فحسب، بل تكشف عبر ممارسة الحنين عن التفاوتات الاجتماعية والسياسية التي جعلت الماضي مصدراً للألم مثلما هو مصدر للحب[١٠].وهكذا. تتجلى ‘Tizita’ في الأدب الاثيوبي المعاصر عبر أعمال معازا منقستي وتتقاطع مع الذاكرة الثقافية (جان أسمان) كحامل لجماعية الهوية الاثيوبية، ومع التوتر بين الذاكرة والنسيان (بول ريكور) حيث يصبح الحنين ساحة صراع داخلي، ومع النوستالجيا التأملية (سفيتلانا بويم) كوعي بفقدان الماضي مع الاحتفاظ بشجونه، ومع النقد ما بعد الكولونيالي (ادوارد سعيد واعجاز أحمد) حين يصبح الحنين نفسه فعلاً سياسياً يكشف علاقة السلطة بالتاريخ والطبقات. The post موسيقى ‘Tizita’ الأثيوبية: الذاكرة كمنهج، الحنين كسردية مضادة.. (١ – ٣) appeared first on صحيفة مداميك.