التفوهُ بأشياء خفيفة

Wait 5 sec.

يسرا حمزةاقفُ على بُعد ثلاثة عشر عاماً منك واحدقُ بالنهر والأرض والأشجار والعصافير والبيوت، لم يتغير شئ رغم ان بيننا طينٌ وزئبق وأعشاب طويلة وأعشاش طيور قديمة، وكانت تقفُ بجانبي بقلق في المطبخ الواسع وتراقبُ حركتي البطيئة في تقشير البيض وقالت لي :(يجب ان يكونَ العمل سريعاً في بيوت المناسبات) وضحكَتْ ومع ذلك واصلتُ العمل بنفس السرعة، واخر مرة رأيتها كانت تقفُ في ظلام الفجر تحملُ طفلةً مريضة وتذرفُ دموع الوداع، وكانت تُرددُ (اعفي لي .. اعفي لي .. اعفي لي)، وكانت روحي طوال فترة النزوح في بيت جدي ممتلئة بالفحم المُبتل وكلما حاولتُ تحريكهُ تُثارُ عاصفة من الغبار الاسود الرطِب ويصيرُ تنفسي ثقيلاً ورأسي قاسياً كجبل، وكنتُ اختبئُ في المكانِ بين الفراش والحائط ذي الطلاء الباهت، وكانت النوافذُ تزيدُ اختناقي، وجهك طاردني في النوم صباحاً وكان فاتراً ، وكنتَ تتكئُ اسفل جدارٍ غريب وتنتظرُ شيئاً ما غامض ولم يتوقع احدنا رؤية الٱخر في ذلك المكان المكتظ بالمنتظرين، حاولتُ التحدثَ معك ولم تجبني واكتفيتَ بالتحديق بي بقلق جعلني امضي، وكنتَ ترتدي ملابسَ بيضاء قديمة، ولم افهم معنى ما رأيت، ربما لأنك لم تكتب لي منذ وقتٍ طويل، كان جدي يرفضُ كوبَ الماء البارد ويكتفي بالتمددِ في الصباح تحت الشمس والشجرة التي لم ارى نهايتها طوال ستة اشهر قضيتها في بيتهِ القديم، وبعد ان اقتحم الجناجمُ المدينة رأيتُ وجههُ في الحلم حياً ويقفُ خلف الباب ويمدُ يدهُ الى الخارج ليمنعَ الجنود من الدخول الى المنزل، ولا اتذكرُ صوتهُ ابداً وعندما اسألُ امي تخبرني بأنه كان هادئاً ونحيلاً كنخلة، ويحبُ الإنضباط وان يفعل كل شئ في وقته المحدد، وربما كان سيكرهني لأنني لا احبُ الانضباط واتبعُ مزاجي الخاص في فعل الاشياء، وكنا نجلسُ في مكانٍ ضيق ونتحدثُ بشكلٍ خفيف ولا ينظرُ احدنا الى الاخر، وكنتُ انشغلُ بالجدارِ خلفك وفي ذلك المكان الواسع بسجادته الحمراء قلتَ لي اريدُ ان التقطَ لكِ صورة ولكن الكاميرا تعطلت، وضحكنا لوقتِ طويل، والان نتبادلُ الصورَ القديمة والأحاديث التي توقفت منذُ اعوام وكلُ واحد منا في بلادٍ بعيدة عن الوطن.The post التفوهُ بأشياء خفيفة appeared first on صحيفة مداميك.