خالد كوديحين يغلب الوهم على قراءة الواقعفي لحظات التحوّل التاريخي، لا يكمن الخطر في الخطأ نفسه، بل في الإصرار على إنكاره، والتشبث بخرائط قديمة رغم تغيّر ملامح الأرض. وهذا ما يعكسه بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني الصادر في 21 سبتمبر 2025، والذي جاء في جوهره ردّ فعل انفعالي على مبادرة الآلية الرباعية أكثر من كونه تحليلًا موضوعيًا للواقع.صحيح أن مبادرة الرباعية تعاني قصورًا واضحًا ولا تمثل ضمانة حاسمة لوقف الحرب أو إقامة نظام ديمقراطي راسخ في السودان، خاصة وأن الدول الفاعلة فيها — وعلى رأسها الولايات المتحدة — لا تحركها سوى مصالحها الاستراتيجية ولا تبدي استعدادًا ماديًا أو سياسيًا للاستثمار العميق في تعقيدات السودان لأجل سلام مستدام، وغير هذا من الأسباب الموضوعية كغياب الاليات لفرض أي رؤية… غير أن تجاهل أن المبادرة تحمل في طياتها جوانب إيجابية يمكن الاشتباك معها والبناء عليها، هو في حد ذاته قصور في القراءة. فالمبادرة تطرح نقاطًا ضرورية مثل: التوقف عن الحرب، حماية المدنيين، والمحاسبة على الجرائم، وكلها أهداف يمكن تحويلها إلى مرتكزات عملية ضمن مشروع وطني أشمل.لكن البيان الشيوعي، بدلاً من التعامل مع هذه الإيجابيات، اكتفى بترديد الوصفات الجاهزة عن “مسار ديسمبر” و “الحكومة المدنية” وما اليه، متجاهلًا أن السودان اليوم تتنازعه جيوش متعددة ذات امتدادات أيديولوجية وإقليمية، وأن أي عملية سياسية جدية تستوجب مقاربة أعقد بكثير من مجرد شعار.إن الإشكال لا يكمن في المبادرة وحدها، بل في عجز الحزب الشيوعي عن الاعتراف بالتحولات الجذرية التي فجرتها حرب 15 أبريل 2023: من انهيار المدن، وتغيّر موازين القوى، إلى بروز تحالفات ومشاريع جديدة تعيد تعريف طبيعة الدولة نفسها، ولنناقش هذا:لا نجد مدخلًا للتعليق على بيان الحزب الشيوعي الأخير إلا بالعودة إلى بعض النماذج الكلاسيكية للإنكار: ابن باز الذي رفض كروية الأرض، أنصار تسطيح الأرض الذين تشبثوا برواية واحدة رغم الأدلة القاطعة، وعلاج بول البعير الذي يُقدَّم كدواء شامل لأمراض معقدة وغيرها. هذه ليست نكات للتسلية، بل إشارات إلى مأزق معرفي وفكري خطير: الحزب الشيوعي السوداني يصرّ على التعامل مع المشهد وكأن عقارب التاريخ توقفت عند ديسمبر 2018، فيردد لازمة “العودة إلى مسار ديسمبر” بينما الخرطوم تحولت إلى خرائب، ملايين السودانيين موزّعون بين النزوح واللجوء، حكومة أمر واقع في بورتسودان تشرعن وجودها بترتيبات دستورية رجعية، وفي المقابل نشأ تحالف تأسيس بميثاقه ودستوره وحكومته الوليدة، مطروحًا مشروعًا علمانيًا ديمقراطيًا لا مركزيًا يقرّ بالعدالة التاريخية ويهدف لإنشاء جيش وطني جديد.وفق أبجديات المادية الجدلية والتاريخية، التي يُفترض أن الحزب الشيوعي يتبناها، لا يمكن القفز فوق التحولات الموضوعية في الواقع كما يفعل الحزب الشيوعي السوداني هنا. فقد كتب ماركس بوضوح أن “الوجود الاجتماعي يحدد الوعي”، وذكّر إنجلز بأن التاريخ لا يتحرك في خط مستقيم، بل عبر تناقضات وصراعات، بينما شدّد لينين على أن “الحقيقة دائمًا محددة تاريخياً”. هذه ليست شعارات عابرة، بل قواعد تحليلية تعني أن كل تغيير في البنية الاجتماعية والسياسية يفرض إعادة صياغة الوعي والخطاب والممارسة.ومع ذلك، يتعامل الحزب كما لو كان شيخ طريقة يوزّع وصفة سحرية ثابتة لكل زمان ومكان: “حل الدعم السريع، العودة إلى مسار ديسمبر”. وكأن الخرطوم لم تُدمَّر، والمجتمع لم يتفكك، والتحالفات الجديدة لم تُولد، والخرائط لم تُرسم من جديد. إن هذا الإصرار على إعادة إنتاج مقولات متخشبة، رغم تبدل الشروط التاريخية، لا يعبّر عن التمسك بالمبادئ بقدر ما يكشف جمودًا ميتافيزيقيًا، لا يختلف عن إنكار مسطّحي الأرض لكرويتها أو عن اليقين الساذج بأن وصفة بول البعير تصلح لكل الأمراض.وهنا نستحضر أنطونيو غرامشي الذي وصف مثل هذا المأزق بـ الأزمة العضوية: اللحظة التي تعجز فيها الأحزاب والقوى القديمة عن استيعاب التحولات، فتبقى سجينة شعاراتها، بينما يولد واقع جديد بكتلة تاريخية مختلفة. في هذه اللحظة الحرجة يتسع الفارق بين الخطاب والسياسة الفعلية، ويتحوّل الحزب إلى حامل لوعيٍ متأخر عن زمنه، يردد شعارات الماضي في مواجهة صيرورة لم يعد يملك مفاتيحها.ولكن لماذا يتخندق الحزب الشيوعي في موقفه؟١/ بنية اجتماعية أسيرة لـ”البرجوازية الصغيرة”الرافعة التنظيمية والفكرية للحزب الشيوعي، تاريخيًا، كانت البرجوازية الصغيرة (موظفون، مهنيون، طلاب، نقابيون من المدن). هذه الشريحة—كما لاحظ فانون في نقده لـ”البرجوازية الوطنية” في العالم ما بعد الاستعمار—سريعةُ التأرجح: جذرُها الاجتماعي هشّ، مصالحها معلّقة بالدولة والمدينة والوظيفة، وتميل في الأزمات إلى لغة أخلاقية–شعارية تعوّض عجزها عن امتلاك أدوات مادية لإعادة بناء السلطة. لذلك تفضّل “المسارات الرمزية” (العودة إلى ديسمبر، حلٌّ شعاريّ للميليشيات) على خطط انتقالية واقعية. هذا الميل ليس خيانة للمبادئ بقدر ما هو قانون اجتماعي: البرجوازية الصغيرة تُحافظ على خريطتها الذهنية لأن تغيرها يكلّفها مكانتها الهشّة. والحزب الشيوعي السوداني لايستطيع تبني تغيير جذري في بنية الدولة السودانية بقيادته الحالية- (ماعندهم الإرادة ولا القدرة) !!٢/ الأبعاد الإثنية–الجهوية و”انحياز المركز”تاريخ السودان مثقلٌ بانقسام مركز/هامش. ومع أن خطاب الحزب أممي–طبقي نظريًا، إلا أنّ مخيال المركز يتسرّب إلى تحليله: يُرى ما يجري من نافذة الخرطوم وماتمثل، ويُعاد تعريف “الشرعية” سياسيًا وأخلاقيًا وفق سرديات مدينية غالبًا ما تُقصي خبرة المجتمعات الطرفية والمهمّشة. هنا تتداخل الهُوية الجهوية مع المصلحة الطبقية: فالتمسّك الحرفي بمسار ديسمبر- من دون الاعتراف بكتلةٍ تاريخية جديدة تشكّلت حول مشروعٍ لا مركزي وعلماني–ديمقراطي—هو إعادة إنتاج لاواعي لامتياز المركز باسم لغة ثورية-شيوعية.٣/ أثر المجال العربي–الإسلامي المحافظ: “تهذيب العلمانية” وتبديل قاموسها.يتحرك الحزب في فضاء عربي–إسلامي طاغي، يضغط لغويًا ورمزيًا: كلفة التلفظ بعلمانيةٍ صريحة عالية، والطلب الاجتماعي–الإقليمي يميل إلى “صيغ توفيقية” تُفرّغ العلمانية من محتواها المؤسسي (حياد الدولة دينيًا، مساواة قانونية مُحايدة). لذلك تظهر تقنية الهروب إلى العموميات: “مدنية”، “انتقال”، “إعادة هيكلة”… من دون تسمية الشرط اللازم لبقاء الدولة: فصل صارم بين السلطة الدينية وبين المواطنة والقانون، أي العلمانية. هذا الميل لا يخص الحزب الشيوعي السوداني وحده؛ لكنه في حزبٍ يُفترض أنه “مادي جدلي” يتحول إلى تناقض تأسيسي: تغليب الحساسية الثقافية على التحليل المادي المُباشر لشروط بناء الدولة، وهذا هو موقف الحزب الشيوعي السوداني في هذا الوقت للأسف.٤/ تَآكل الأدوات التحليلية: من الديالكتيك إلى “الأخلاقية السياسية”.المادية الجدلية تُلزم بتحليل “الملموس في وضعٍ ملموس” (لينين): أي أنّ تبدّل البُنى يفرض تبدّل الأدوات والمواقف. حين يُصرّ الحزب على صيغةٍ واحدة (“حلّ الدعم السريع/العودة إلى ديسمبر”) يتخلّى فعليًا عن الديالكتيك لصالح ميتافيزيقا سياسية: ثابتٌ ضدّ متغيّر. ولهذا نبّه تروتسكي إلى أن الثوري إذا أهمل الواقع الماثل صار “داعية أجوف”. أما غرامشي فسمّى لحظة الفصام بين خطابٍ قديم وواقعٍ جديد بـالأزمة العضوية: يموت القديم، ولم يولد الجديد بعد؛ وإذا عجزت القوى القديمة عن التقاط التحول، صارت شعاراتها تعويذات ميتة…..٥/ ذاكرة القمع وخوف “فقدان البوصلة”.لا يمكن فصل التصلّب عن ذاكرة القمع (الاعتقالات، الفصل، الاغتيال المعنوي والمادي). التنظيم الذي عاش عقودًا تحت المطاردة يميل—حين تشتد العواصف—إلى “مواقع مألوفة”: شعارات مجرّبة، قاموس مستعاد، خرائط ذهنية مريحة. لكن الثمن باهظ: التحصّن بالألفة المعرفية يَسحق المرونة الإستراتيجية ويعطّل القدرة على بناء تحالفات جديدة وتثبيت كتلة تاريخية بديلة.نماذج وتحذيرات من التاريخ الثوري ان اردنا تأكيد قراءتنا:– غرامشي: حين تعجز النخب عن تمثيل واقعٍ جديد تظهر “الأزمة العضوية” وتتقدم قوى “ضد–هيمنة” ببناء كتلتها التاريخية. تجاهل هذا الميل يُلحق الحزب بخارج التاريخ.– روزا لوكسمبورغ: الثورة ليست طقسًا، بل سيرورةٌ تُصحّح ذاتها بتعاقب المبادرات الجماهيرية؛ الجمود يُميت الحركة.– تروتسكي: الواقعية الثورية في مواجهة الوقائع لا في ترديد البلاغة؛ وإلا تحوّل “البرنامج” إلى لافتة بلا محتوىمهدي عامل وأنور عبد الملك (في سياق عربي): لا ثورة دون مواجهة بنية التبعية وإعادة إنتاج “المركزية الثقافية” في الأطراف؛ وإلا تصبح اللغة الثورية غطاءً لهيمنة قديمة!ولنلخص التناقض: الحزب الشيوعي السوداني بمواقفه الأخيرة وبيانه هذا، وهو يفترض أنه حزب مادي جدلي، ينكر السيرورة التاريخية الفعلية على الأرض. إنه يتحدث وكأن الواقع لم يتغير، وكأن الحرب لم تُحدث انقلاباً جذرياً في الخريطة الاجتماعية والسياسية. وفي هذا الإنكار، يقترب من المثالية الجامدة التي حذّر منها تروتسكي حين قال إن “الثوري الذي يتجاهل الواقع الملموس يتحول إلى دَاعية أجوف”. أما غرامشي فقد أوضح أن أي مشروع سياسي يحتاج إلى بناء كتلة تاريخية قادرة على قيادة التحول، لكن الحزب الشيوعي يظل متمسكاً بكتلة لم تعد قائمة: لجان المقاومة ومسار ديسمبر، في حين أن الكتلة التاريخية الجديدة تتشكل اليوم حول تحالف “تأسيس” وما يحمله من مشروع لإعادة تأسيس الدولة. إن تمسّك الحزب بخطاب “مكانك سر” لا يعكس ثباتاً على المبادئ، بل انقطاعاً عن جوهر المادية التاريخية نفسها. إنه يعيد إنتاج موقف شبيه برفض كروية الأرض أو التداوي ببول البعير: إنكارٌ للتاريخ المادي الملموس باسم شعاراتٍ عامة لا تصمد أمام قوانين الواقع وحركته الجدلية…ولا شنو!إذن، يتخندق الحزب لأن حواضنه الاجتماعية (البرجوازية الصغيرة) تميل إلى الشعار على الخطة، ولأن مركزية نظرته الإثنية–الجهوية تشوّه حساسيته للديناميات الجديدة في الهامش، ولأن ضغط المجال العربي–الإسلامي يدفعه إلى تليين العلمانية حتى تفقد مضمونها المؤسسي، ولأن ذاكرة القمع تجعله يلوذ بالمألوف بدل المغامرة الفكرية. وكل ذلك—نظريًا—نقيض الديالكتيك الذي يفاخر بتبنيه.الدواء ليس هجاءً بل تحولٌ معرفي–تنظيمي: تسمية العلمانية كشرطٍ دستوري، الاعتراف بالكتلة التاريخية الجديدة، إنتاج خطة انتقالية ملموسة (علمانية/ثورة/تفكيك/عدالة تاريخية/لا مركزية/جيش جديد)، وبناء تحالفٍ اجتماعي عريض لا ينكر او يتجاوز مركز/هامش، ويعيد وصل “المادي” بـ”الثوري” بدل تركهما يتنازعان في الخطابة… (وهذا من باب النصيحة) !!!وبعد كل هذا لا شك أن بيان الحزب الشيوعي حمل جوانب صحيحة: الترحيب بجهود الرباعية، التأكيد على ضرورة إغاثة المدنيين، الدعوة إلى مدنية الحكم، والمطالبة بالمحاسبة على جرائم الحرب. هذه مبادئ لا يختلف حولها أحد. غير أن ما يغيب عن البيان هو إدراك جوهر اللحظة التاريخية: الواقع تجاوز بكثير معادلة “ثورة ديسمبر” بوصفها المرجع الوحيدففي الميدان، لم يعد الأمر صراعاً بين “ثوار ديسمبر” و”الإنقاذ”، بل تشكّلت كتلة تاريخية جديدة بفعل الحرب، النزوح، والانقسام العميق في الدولة. أطراف هذه الكتلة ليست مجرد قوى سياسية تقليدية، بل مزيج مركّب من:– الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال بما تحمله من مشروع السودان الجديد القائم علي المبادئ فوق الدستورية.– قوات الدعم السريع بعد تحوّلها من مليشيا ضمن القوات النظامية للدولة المركزية تنفذ اوامر الخرطوم لقتال المهمشين إلى طرف في تحالف سياسي–عسكري يعلن دستوراً انتقالياً وحكومة موازية، تقاتل حكومة المركز وجيشها النظامي.– فصائل من حركات الكفاح المسلح من دارفور بما فيها فصائل من حركة تحرير السودان وغيرها– قوى مدنية ومجتمعية من الهامش ربطت مشروعها السياسي بالعدالة التاريخية والاعتراف بالتعددية،– إضافة إلى قوى اجتماعية جديدة أفرزتها الكارثة الإنسانية: ملايين النازحين واللاجئين الذين غيّروا خريطة الوعي والتمثيل.هذه الكتلة تأسست على رفض وهم “الحسم العسكري”، وعلى التزام بدستور علماني–ديمقراطي لا مركزي يعترف بحق تقرير المصير ويجعل العدالة التاريخية قاعدة لإعادة تأسيس الدولة.حين يتجاهل الحزب الشيوعي هذه الكتلة أو يتعامل مع الدعم السريع وكأنه ما زال “مليشيا منشقة عن القوات الأمنية”، فإنه لا يعكس ثباتاً مبدئياً بل عمىً سياسياً أمام تحولات الواقع. المادية الجدلية، التي يفترض أن الحزب يؤمن بها، تقول إن الوعي يجب أن يتغير مع تغيّر شروط الوجود الاجتماعي. لكن الحزب ظل سجين معادلة قديمة، يكرر شعارات ديسمبر، فيما التاريخ تجاوزها إلى مرحلة أخرى بأطراف جديدة وقوى فاعلة مختلفة ومتغيرة في مواقفها، ومتي كان الوعي ثابتا؟!خطر “الرواية الواحدة:”ما يفعله الحزب الشيوعي السوداني ببيانه هذا يشبه ما حذّرت منه الروائية النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي عن “خطر الرواية الواحدة”. فالحزب الشيوعي يختزل الأزمة كلها في استدعاء الماضي: المؤامرات الخارجية، الإسلاميون، فض الاعتصام، والعودة لمسار ديسمبر. كل هذا صحيح كجزء من القصة، لكنه ليس القصة كلها. الواقع اليوم أوسع وأكثر تعقيداً:– الحرب التي لاتزال مشتعلة وبأطراف متعددة– تدمير العاصمة والعديد من المنشآت الاستراتيجية في عدد من المدن– نزوح ولجؤ الملايين داخل وخارج السودان– صعود حكومة بورتسودان المدعومة بترتيبات إقليمية ودستورية رجعية– ولادة تحالف “تأسيس” بمشروعه الدستوري الجديد وحكومته المؤيدة من جماهير واسعة– هذه ليست تفاصيل ثانوية يمكن القفز عليها. إنها تغييرات بنيوية تصوغ مستقبل السودان، شئنا أم أبيناماذا لو أراد الحزب أن يكون واقعياً؟إذا كان الحزب الشيوعي يريد أن يستعيد صلته بالشارع والتاريخ، فعليه أن:– يعترف بالواقع الجديد: هناك تحالفات ثورية جديده وحكومة قائمة بالفعل، لا يمكن تجاوزها بشعار “العودة إلى ديسمبر”– يطرح خططاً عملية: لا يكفي أن يطالب بحل الدعم السريع، بل أن يقترح آليات دمج، تفكيك، محاسبة، وبرامج عدالة تاريخية جادة.يمارس براغماتية دبلوماسية محسوبة: رفض أي مبادرة خارجية بالجملة ليس ثورية، بل عزلة. يمكن توظيف مبادرات مثل بيان الرباعية لتخفيف المعاناة الإنسانية وغيرها…يبني خطاباً جديداً: يربط بين إرث ديسمبر والوقائع المستجدة، لا أن يحبس نفسه في تكرار شعارات بلا مضمون عملي.ولا مش كده؟واخيرا: بين الحزب الشيوعي السوداني وابن باز وتسطيح الأرض وبول البعيرالحقيقة الجوهرية أن التاريخ لا يعود إلى الوراء. لا مسار ديسمبر سيعود كما كان، لأن شروطه الموضوعية قد انتفت بالكامل. فالخرطوم صارت ركامًا، الملايين يقيمون في معسكرات النزوح واللجوء ولايمكن خداعهم بخطاب النخب الان، والنظام الذي تشكّل في بورتسودان كرّس نفسه عبر وثيقة دستورية معيبة ومعدلة لم تفعل سوى إعادة إنتاج اسوا مافي الماضي بكل علاته:– تثبيت هيمنة الجيش على الحياة السياسية– إقصاء قوى الهامش من أي مشاركة حقيقية– شرعنة الإسلاميين تحت غطاء “القومية” و”وحدة الجيش” وهزيمة التمرد…الخ..– تجاهل التعددية وإنكار العدالة التاريخية– تكريس مركزية الدولة ورفض اللامركزيةلكن ما غاب تمامًا عن بيان الحزب الشيوعي هو أن حرب أبريل 2023 لم تُعدّل موازين القوى فحسب، بل أنشأت واقعًا جديدًا أكثر تعقيدًا وقوة. فقد برزت أدوات مقاومة لنظام بورتسودان وكتائب جيشه “المجاهدة”، وتكوّنت تحالفات، وتقدمت مشاريع بديلة، وأُعيد تعريف الفاعلين السياسيين والعسكريين على نحو يجعل أي حديث عن “العودة إلى ديسمبر” ضربًا من الوهم.يضاف إلى ذلك أن العالم يشهد تحولات جيوسياسية كبرى.– إعادة رسم خرائط النفوذ في البحر الأحمر والقرن الإفريقي– احتدام صراع القوى الكبرى على الموارد والممرات الاستراتيجية– تبدل أولويات الإقليم نحو إعادة تشكيل التوازنات بدل الاكتفاء بإدارة الأزماتهذه المتغيرات لن يكون ممكنًا تجاوزها بخطاب مثالي جامد كالذي يعيد الحزب الشيوعي ترديده بين الحين والآخر. في المقابل، يطرح تحالف “تأسيس” مشروعًا مختلفًا بالكامل: دستور وميثاق علماني ديمقراطي لا مركزي، إقرار بالعدالة التاريخية، تأسيس جيش وطني جديد، وإعادة تعريف الدولة على قاعدة المواطنة المتساوية. إنكار هذا المشروع لا يُنتج ثورية، بل يكشف خواء خطاب يرفع شعارات فارغة.إن تمسّك الحزب الشيوعي بخطاب “العودة إلى ديسمبر” ليس ثباتًا على المبدأ، بل احتيال على وعي السودانيين وتشويش متعمد على طبيعة الصراع. إنه يعيد إنتاج عقلية ابن باز حين أنكر كروية الأرض، أو من تمسكوا بتسطيحها رغم الأدلة، أو من واصلوا التطبب ببول البعير في زمن الطب الحديث. كلها ذهنيات ترفض الاعتراف بالواقع الملموس وتتشبث بماضٍ تجاوزه العلم والتاريخ.لقد تغيّر السودان: الخرطوم انهارت، الملايين شُرّدوا، حكومة بورتسودان تُعيد إنتاج الرجعية، وفي المقابل يطرح “تأسيس” مشروعًا يحظى بدعم شعبي واسع- ملايين السودانيين. إنكار هذه الحقائق لا يلغيها، تمامًا كما لم يوقف إنكار دوران الأرض حركتها. التاريخ لا ينتظر المتأخرين. ومن يصرّ على وصفات تجاوزها الواقع، إنما يساهم في إطالة معاناة الشعب، لا في فتح أفقٍ لمستقبل جديد، وليعد الحزب الشيوعي مواقفه عسى ولعل!النضال مستمر والنصر اكيد.(أدوات البحث والتحرير التقليدية والاليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات) The post بين الحزب الشيوعي السوداني وابن باز appeared first on صحيفة مداميك.