مهدي داود الخليفةلم تعد الحرب في السودان مجرّد مواجهة عسكرية بين القوات المسلحة وقوات الدعم سريع؛ إنها حرب شاملة ضد الاقتصاد والمجتمع، تفتك بما تبقى من مؤسسات الدولة وتدفع البلاد بسرعة نحو الإفلاس الكامل.تقارير رسمية – من بينها تقرير التجارة الخارجية للنصف الأول من 2025 وتقرير بنك التنمية الأفريقي الصادر في يوليو الماضي – ترسم صورة قاتمة: اقتصاد يترنّح، موارد منهوبة، وفساد يلتهم أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً، بينما يعيش المواطن السوداني على حافة المجاعة وانعدام الأمن الغذائي.في أكتوبر 2021، كان السودان على أعتاب فرصة تاريخية للتعافي.رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك أعلن وقتها أن البلاد تحتاج فقط إلى 10 مليارات دولار خلال عامين:* 8 مليارات لدعم الاقتصاد وتمويل الاستيراد.* 2 مليار كاحتياطي لحماية العملة واستقرار الأسعار.كانت تلك هي كلفة الانطلاق نحو النهضة. لكن انقلاب 25 أكتوبر الذي قاده البرهان وحميدتي أغلق الباب أمام الدعم الدولي:تم تجميد 700 مليون دولار من المساعدات الأمريكية.توقفت برامج البنك الدولي وصندوق النقد والاتحاد الأوروبي.خسر السودان فرص إعفاء ديون تقارب 50 مليار دولار ضمن مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC).هكذا تحوّل الانقلاب من لحظة إنقاذ إلى لحظة انهيار.الاقتصاد في زمن الحرب – مؤشرات الانهيار:التجارة الخارجية: اقتصاد بلا روح إنتاجية*الصادرات: 1.35 مليار دولار.* الواردات: 2.64 مليار دولار.* العجز التجاري: 1.28 مليار دولار.ورغم تراجع العجز مقارنة بـ2022، فإن السبب ليس إصلاحاً أو نمواً إنتاجياً، بل تجمّد عجلة الاقتصاد وانكماش الطلب المحلي. أي أن الأرقام تعكس ركوداً قاتلاً لا إنجازاً اقتصادياً.اما في مجال الصادرات يبقي الذهب هو المتصدر للقائمة:* صادرات الذهب بلغت 839.9 مليون دولار (أكثر من 60% من إجمالي الصادرات).* الإمارات استحوذت على نحو 90% من الذهب.وتحتكر قوات الدعم السريع ذهب دارفور، بينما يوجّه الجيش معظم العائدات لشراء السلاح. الذهب، الذي كان يمكن أن يكون رافعة للتنمية، تحوّل إلى وقود حرب.في الزراعة والإنتاج الحيواني سقوط عمق السودان في الانتاج الزراعي و الحيواني:* القطن: –89%* الفول السوداني: –99%* السمسم: –52%* الصمغ العربي: –43%* الحيوانات الحية: –35%هذه النسب الكارثية تعني أن السودان فقد عمقه الزراعي والإنتاجي التاريخي، وأن أمنه الغذائي أصبح مهدداً وجودياً.و بلغت جملة الواردات خلال هذه الفترة :• غذاء: 789.4 مليون دولار (قمح 287 مليون، سكر 240 مليون).• وقود: 272.6 مليون دولار (–58% مقارنة بـ2022).• أدوية: 213.1 مليون دولار.• سلع مصنعة وآلات: 781.4 مليون دولار.لكن المفارقة أن الواردات الكمالية لا تزال قائمة (عطور بـ45.8 مليون دولار، سيارات صالون بـ38.3 مليون)، في مشهد يفضح غياب الرشد الاقتصادي وسط حرب ومجاعة.اما شركاء السودان في مجال الاستيراد :• الصين: 656.6 مليون دولار.• مصر: 470.6 مليون دولار.• الهند: 303.6 مليون دولار.• الإمارات: 294.1 مليون دولار.الاعتماد على أربعة شركاء فقط جعل السودان رهينة لتقلباتهم، كما ظهر في قرار الإمارات الأخير بحظر مرور صادرات وواردات السودان عبر موانئها.تقرير بنك التنمية الأفريقي يقدّم صورة أكثر قتامة:السودان يخسر 5 مليارات دولار سنوياً بسبب الفساد والتهرّب الضريبي.الناتج المحلي انكمش: –37% (2023) و–12% (2024).الدين الخارجي بلغ 56 مليار دولار، والمتأخرات تشكل 80% من إجماليه.مبادرة إعفاء الديون (هيبيك) جُمّدت بعد الانقلاب، وحُرم السودان من قروض ميسرة انتقلت لدول أخرى مثل الصومالالحرب لم تكن سوى غطاء لفساد ممنهج وفشل تاريخي في الإدارة الاقتصادية.ارتفاع فاتورة الخراب – من 10 مليارات إلى 1 تريليون• قبل الانقلاب والحرب: كلفة النهضة كانت في حدود 10 مليارات دولار.• بعد الانقلاب والحرب: خسائر إعادة الإعمار 1 تريليون دولار.• 300 مليار لإعادة بناء الخرطوم وحدها.• 700 مليار لبقية الولايات.* خسائر قطاع الصحة: 11 مليار دولار.* انهيار الناتج المحلي بأكثر من 40% خلال عام واحد.* ذهب السودان ما زال يُهرَّب: أكثر من 80% من عائداته تذهب لتمويل الحرب بدل دخول خزينة الدولة.النتيجة: مليارات الدولارات التي كان يمكن أن تُستخدم في الإعمار والصحة والتعليم تبخرت في جيوب أمراء الحرب وشبكات التهريب.التداعيات الاقتصادية و السياسية نتيجة للحرب:استنزاف العملة الصعبة في شراء السلاح بدل الغذاء والدواء.اقتصاد ريعي هش قائم على الذهب فقط.انهيار القطاع الزراعي والإنتاج الحيواني.تراجع الخدمات الأساسية (وقود، دواء، كهرباء).تحويل ثروات السودان إلى وقود حرب وجريمة منظمة.شروط التعافي ما بعد الحرب:حتى إذا توقفت الحرب غداً، فإن الاقتصاد لن ينهض بلا إصلاحات جذرية تشمل:1. استعادة السيطرة المؤسسية على الموارد الطبيعية وخاصة الذهب.2. إحياء الزراعة والإنتاج الحيواني كعمق استراتيجي للبلاد.3. إصلاح النظام الضريبي والمصرفي وتوسيع القاعدة الإيرادية.4. استعادة الثقة الدولية لاستئناف مسار إعفاء الديون واستقطاب الاستثمارات.5. توفير تمويل إضافي يقدّره بنك التنمية الأفريقي بـ24.3 مليار دولار سنوياً حتى 2030، رغم أن السودان يعاني من ضعف المقدرة الاقتراضية وارتفاع الدين الخارجي وتناقص تحويلات المغتربين.انقلاب البرهان وحميدتي لم يوقف فقط عجلة النهضة، بل دمّر الأساس الاقتصادي للدولة. فاتورة التعافي بعد نهاية هذه الحرب العبثية قفزت من 10 مليارات دولار إلى 1 تريليون دولار.السؤال الذي يفرض نفسه اليوم:هل يدرك البرهان وحميدتي أنهما لا يقتلان بعضهما فقط، بل يقتلان السودان بأسره؟The post الحرب السودانية: اقتصاد على حافة الإفلاس appeared first on صحيفة مداميك.