وجدي كاملمن خصائص الأنظمة الشمولية، وخاصة في بلد كالسودان أنَّها لا تحترم القواعد المهنية للإعلام الخارجي ولا مراسليه. فالإدارات الإعلامية التي تصمّم على احتكار المعلومات وتمنع وسائل الإعلام الأخرى من الاقتراب أو التصوير في مواقعها ومصادرها قد تفتح الأبواب وتمنح تراخيص للمراسلين — لكن بشرط أن يتحول هؤلاء إلى أبواق تروّج لاستراتيجياتها ومصالحها.على مر سنوات حكم “الإنقاذ” شهدت العلاقة بينها وبين القنوات التلفزيونية الإقليمية كثيرًا من الشدّ والجذب، ناتجًا عن ثقل القوانين وكثافة الرقابة على المادة الإعلامية المرسلة من السودان. وظهر ذلك بوضوح أثناء الحروب الداخلية والأزمات، وفي ظل الخروقات الأمنية والتجاوزات الجنائية.مجلس الإعلام الخارجي، الذي كان قائمًا أثناء حكم مايو وبدايات “الإنقاذ”، تحوّل مع تحكّم جهاز الأمن والمخابرات في النشاط الإعلامي وأجهزته إلى مكتب تابع لهذا الجهاز، يديره مجموعة من الضباط والجنود المدربين على القمع وإغلاق الصحف ومكاتب الصحافة الأجنبية والقنوات. وأصبح المراسلون بحاجة إلى أذونات خاصة في كل تحركاتهم، وما يلبث ذلك أن يتبعه مراقبة لصيقة من قِبَل ممثلي المكتب.فقد غادرت الوظيفة التنسيقية للمجلس موقعها ضمن وزارة الإعلام لتصبح خاضعة لسلطة جهاز الأمن، الذي لا يتحداه حتى وزير الإعلام، بل يتحول الأخير إلى منفّذ لأوامره وقراراته. جهاز الأمن والمخابرات التابع لجماعة الإخوان والمسؤولون في السلطة القديمة عملوا بكل ما لديهم خلال الفترة الانتقالية لإجهاضها، لكنهم برزوا علنًا وبقوة منذ انقلاب الخامس والعشرين عام 2021. ومنذ ذلك الحين لم يعد الجهاز يخفي توظيف الغطاء المناسب لكافة رموز “الإنقاذ”، سواء كانوا معتقلين أم مُطلقين السراح.عمل الجهاز على تقديم غطاء معلوماتي سميك حول مكان إقامة الرئيس المعزول، رغم التسريبات التي تناقلها الإعلام الشعبي ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد نجحت الصحفية ورئيسة مكتب قناتي “الحدث” و”العربية” لينا يعقوب، بما تميّزت به من مهنية، في تقديم مادة تقريرية عن مكان وكيفية معيشة الرئيس المعزول. ومن الطبيعي أن تكون قد اتبعت في سبيل التصوير إجراءات روتينية وإدارية مسبقة.إلّا أن رد فعل جهاز الأمن على هذا التقرير كان أقوى مما كان متوقّعًا، وذلك بسبب الانتقاد الذي تعرَّض له التقرير من مؤيدي النظام القديم والراغبين في عودة الرئيس المعزول. اتُّخذ قرار من قِبَل الجهاز، لكن الإعلان عنه وما بدا فصلاً في الموضوع أظهر تداخلًا وتناقضًا في السلطات بين الجهاز ووزارة الثقافة والإعلام. قد يستمر الجهاز في تضييق الخناق على الصحفيين والإضرار بمهمتهم، لكن الثابت أنّ ما يجري سيطيح به تاريخ الأحداث: فالمعلومات موثّقة وتنتظر الظروف المناسبة للخروج وفضح هذا التنظيم الشرير على ما اقترفه ويقترفه من جرائم بحق المدنيين في كافة أنحاء السودان. إنّ السلطات الأمنية في بورتسودان، بفعلها هذا، ترتكب خطأً جسيمًا حين لا تدرك أن إغلاق فم صحيفة او صحفية أو مراسل/ ة او قناة في ظرف دقيق كهذا لا يعني سوى فتح نوافذ الحقيقة بلا حواجز ولا قيود بتأكيد ان هذه الحكومة هى الناطق الرسمي باسم النظام القديم، وبحيث لا يترك هذا الإغلاق مجالا للإنكار.The post اغلاق الفم هو ما يفتح الحقيقة appeared first on صحيفة مداميك.