بقلم : عاطف عبداللهأصدر الحزب الشيوعي السوداني عبر سكرتارية لجنته المركزية تصريحاً صحفياً نفى فيه ما ورد في خبر نشرته مجلة أفق جديد حول مشاركته في ترتيبات سياسية إقليمية شملت اجتماعاً كان مقرراً في جيبوتي بدعوة من الإيقاد، واجتماعاً آخر في القاهرة دعت إليه القيادة المركزية العليا لضباط وضباط الصف والجنود المتقاعدين (تضامن). وقد أوضح الحزب، بصورة قاطعة، أن دعوته من الإيقاد كانت لاجتماع ثنائي منفرد، لا علاقة له بأي تحالفات أو أطراف أخرى، كما نفى علمه أو مشاركته المؤسسية في اجتماع القاهرة أو أي مخرجات أو آليات تنسيق نتجت عنه.من حيث المبدأ، لا خلاف على حق أي حزب سياسي في ضبط خطابه ومواقفه، وحماية قراراته من الالتباس أو التوظيف الإعلامي، ولا على أهمية الانضباط التنظيمي واحترام القنوات الرسمية في العمل الحزبي. غير أن الإشكال لا يكمن في التصريح ذاته بقدر ما يكمن في النمط المتكرر الذي بات يطبع سلوك مركز الحزب في تعاطيه مع المبادرات السياسية الواسعة، خصوصاً تلك التي تنشأ في سياق السعي لوقف الحرب وتخفيف معاناة الشعب السوداني.فمنذ إعلان قيامها، ظلت قيادة (تضامن) – وهي كيان يضم ضباطاً وضباط صف وجنوداً متقاعدين من الجيش والشرطة – تبذل جهوداً واضحة في الدعوة إلى توحيد الصف الوطني المناهض للحرب ولانقلاب 25 أكتوبر، ودعم التحول المدني الديمقراطي، وتطرح مبادرات للحوار والتنسيق بين القوى المدنية والسياسية. وغالباً ما قوبلت هذه الدعوات بترحيب مبدئي، أو مشاركة فعلية من قيادات حزبية وازنة، قبل أن يصطدم المسار لاحقاً بتراجع مفاجئ من مركز الحزب الشيوعي، أو بنفي رسمي لأي صلة بما تم الاتفاق عليه أو إعلانه.وتبرز واقعة اجتماع القاهرة السابقة مثالاً دالاً على هذا التناقض. فقد شارك في ذلك الاجتماع وفد من الحزب الشيوعي ضم قيادات معروفة ومقدَّرة، على راسهم أيقونة الحزب المهندس صديق يوسف. وأسفر الاجتماع عن بيان سياسي واضح أدان الحرب، ودعا إلى السلام، وإلى التضامن مع الشعب السوداني، ومعالجة مشاكل النازحين في مصر. غير أن المفارقة المؤلمة تمثلت في أن هذا البيان لم يمضِ عليه وقت طويل حتى صدر تصريح من قيادة الحزب يتبرأ منه، بل وصل الأمر إلى إعلان تقديم أحد أبرز رموز الحزب، المهندس صديق يوسف، للتحقيق.هنا يثور سؤال مشروع: كيف يمكن لحزب بحجم وتاريخ الحزب الشيوعي السوداني أن يوفّق بين صرامته التنظيمية ومتطلبات اللحظة الوطنية الحرجة؟ وهل يصبح الانضباط الداخلي، في مثل هذه الظروف الاستثنائية، سبباً لإضعاف المبادرات الجامعة، بدلاً من أن يكون أداة لتنظيمها وتطويرها؟إن الخشية الحقيقية لا تتعلق فقط بإرباك الحلفاء أو إحباط المبادرات، بل بما قد يترتب على هذا النهج من تصدعات داخلية. فحين تشارك قيادات معروفة بثقلها النضالي والفكري في حوارات وطنية، ثم تُواجَه لاحقاً بالتجريم أو التشكيك، فإن ذلك يفتح الباب واسعاً أمام إحساس متنامٍ بالاغتراب داخل الحزب نفسه، وقد يقود – إن استمر – إلى انقسامات لا تخدم لا الحزب ولا القضية الوطنية.ويزداد الأمر تعقيداً حين تُطرح تساؤلات حول معايير القبول والرفض لدى قيادة الحزب. فالحزب يعلن، في أكثر من مناسبة، رفضه الجلوس مع ما يُعرف بالكتلة الديمقراطية، وهو موقف مفهوم في إطار الخلافات السياسية. غير أن الوقائع تشير إلى أن التحفظ الحقيقي لا ينصب فقط على هذه الكتلة، بل يتجه بصورة أوضح نحو قوى بعينها داخل المعسكر المدني، وعلى رأسها تحالف “صمود”، وشخصيات محددة مثل الدكتور عبد الله حمدوك، بل وحساسية مفرطة تجاه اسم الدكتور الشفيع خضر، الذي يضطلع بدور ملحوظ في محاولات توحيد القوى المدنية.إن هذه الانتقائية في المواقف، إن صحّت، تطرح إشكالاً سياسياً وفكرياً عميقاً: هل باتت الخلافات الشخصية أو الحسابات الضيقة تعلو على أولوية بناء جبهة مدنية عريضة قادرة على مواجهة الحرب والاستبداد؟ أم أن الحزب، وهو يحرص على نقاء خطه السياسي، يغامر – من حيث لا يقصد – بالعزلة في لحظة تتطلب أقصى درجات الانفتاح والحوار؟في المحصلة، لا يملك أحد وصاية على الحزب الشيوعي السوداني، ولا على قراراته الداخلية. لكن من حق القوى الوطنية، ومن حق الرأي العام، أن يطرحوا نقداً مسؤولاً حين يبدو أن ممارسات مركز الحزب قد تُسهم في إضعاف فرص التوافق المدني، أو في تعميق الشروخ داخل معسكر مناهضي الحرب. فالتاريخ النضالي العريق للحزب يضعه أمام مسؤولية مضاعفة: مسؤولية الدفاع عن مبادئه، وفي الوقت نفسه مسؤولية الانخراط الإيجابي في كل جهد صادق يهدف إلى وقف الحرب، وتوحيد الصف، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطنٍ يئن تحت وطأة الدمار.The post بين الانضباط التنظيمي ومسؤولية اللحظة الوطنية: قراءة نقدية في موقف الحزب الشيوعي السوداني appeared first on صحيفة مداميك.