إريتريا… نحو تموضع إقليمي نشط

Wait 5 sec.

أماني الطويلتتحرّك منطقة البحر الأحمر اليوم داخل نطاق إعادة تشكّل غير مسبوق، تتداخل فيه مصالح القوى الإقليمية وصعود الأدوار الخليجية وتراجع أدوار كانت تاريخياً مؤثرة مثل السودان . في وقت تتعدد مراكز صنع القرار في الخرطوم، وتنتج حالة الارتباك أنتجتها الحرب الممتدة عبر ثلاث سنوات تقريباً.في هذا السياق، تبدو التحركات الدبلوماسية الإريترية نشطة على رغم عقود من العقوبات الدولية وقادرة على تدشين استراتيجية متسقة ومنسقة وقادرة على فهم عميق لموقعها داخل المعادلة الإقليمية. ومن هنا فإن قراءة تحرّكات الرئيس الإريتري أسياس أفورقي من بورتسودان إلى الرياض ثم القاهرة، تكشف عن مشروع مكتمل الأركان لإعادة التموضع في فضاء البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وعن شبكة ارتباطات جديدة تعيد إلى أسمرا القدرة على المناورة بعد سنوات من العزلة.في المقابل، يبدو السودان، على رغم امتلاكه أطول الواجهات الجغرافية على البحر الأحمر وعمقاً تاريخياً يؤهله، ليكون الطرف الأكثر قدرة على التأثير، عاجزاً عن صياغة دوره أو تحديد موقعه داخل الترتيبات الإقليمية الناشئة. وتظهر هذه المفارقة بوضوح في مقارنة بسيطة بين نشاط أسمرا السياسي الهادئ الواثق، وحركة الخرطوم التي لا تزال محكومة بهشاشة مؤسسية تمنعها من تحويل قدراتها إلى نفوذ فعلي. فبينما تعمل إريتريا وفق رؤية مركزية واضحة، يكشف الواقع السوداني عن غياب مركزية القرار، وتعدد دوائر الإدارة وتضارب أولويات الفاعلين السياسيين والعسكريين، مما يخلق فراغاً استراتيجياً مفتوحاً في منطقة شديدة الحساسية لمجمل المصالح الدولية والإقليمية.يمكن القول إن العاصمتين الكبيرتين في البحر الأحمر القاهرة والرياض قد طورا علاقتهما في إطار أمن البحر الأحمر، إذ أسهما في بلورة مناورات عسكرية مشتركة في مياه البحر، بينما طوّرت كل عاصمة منفردة استراتيجيات مرتبطة بالأوضاع في القرن الأفريقي الإقليم المرتبط عضوياً بالبحر الأحمر وفضائه الجيوسياسي.طبقاً لذلك طوّرت القاهرة علاقاتها بكل من الصومال وأريتريا، بينما شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً لدور السعودية في البحر الأحمر، بوصفها القوة الأكثر قدرة على الاستثمار في الأمن البحري وسلاسل الإمداد والتجارة العالمية. ولم تعد الرياض تتحرك وفقاً لمنطق المظلة الأمنية التقليدية القائمة على رد الفعل، بل باتت تطوّر رؤية استراتيجية حول الضفة الأفريقية، وتعيد صياغة مفهوم الأمن الإقليمي عبر تحالفات واسعة مع دول القرن الأفريقي. ومن هنا جاءت الزيارة الطويلة للرئيس أفورقي إلى الرياض أخيراً، التي استمرت أربعة أيام، وحملت دلالات تفوق العلاقات الثنائية.تقف السعودية عند نقطة ارتكاز رئيسة على الضفة الشرقية للبحر الأحمر، بينما تمسك إريتريا بأحد أطول السواحل وأكثرها حساسية على الضفة الأفريقية. ويخلق هذا الواقع معادلة توازن جديدة تعتمد على إعادة توزيع الأدوار من خلال شراكات واسعة تعزز الأمن البحري، وتقلّص تهديدات الفوضى في الإقليم، وفي القلب منها السودان والقرن الأفريقي. ويبدو أن الرياض تنظر إلى إريتريا باعتبارها الدولة الأكثر قدرة على تقديم التزامات أمنية وسياسية مستقرة، في ظل عجز السودان عن لعب هذا الدور لاعتبارات داخلية لا علاقة لها بإمكاناته الجيوسياسية.تتلاقى هذه الرؤية السعودية مع إدراك إريتري واضح لفرص اللحظة الإقليمية. فالرئيس الإرتيري أسياسي أفورقي، المعروف بسياساته الحذرة، يدرك أن الفراغ السوداني المتزايد يمكن أن يتحول إلى عامل يهدد أمن بلاده الحدودي، سواء عبر الضغوط الإثيوبية المتنامية أو عبر خطوط التهريب والتسليح التي تتسع مع تفسخ الدولة السودانية. ولهذا يتحرك بفاعلية لبناء محور ثلاثي غير معلن، يربط أسمرا بالرياض والقاهرة، في مواجهة صعود النفوذ الإثيوبي ورغبة أديس أبابا في إعادة رسم حدود نفوذها في الهضبة وفي البحر الأحمر.زيارة أفورقي للقاهرة جاءت في توقيت حساس، تزامناً مع مؤشرات على رغبة إثيوبية في الحصول على منفذ بحري بأي صيغة ممكنة، سواء عبر اتفاقات اقتصادية أو مقايضات سياسية أو صفقات أمنية. وتدرك مصر أن أي ترتيبات بحرية إثيوبية تمس توازناً تاريخياً في الإقليم، ليس فقط لارتباطها بملف مياه النيل، بل لأن أي توسع إثيوبي في البحر الأحمر قد يعيد صياغة موازين القوى بين الضفتين العربية والأفريقية.ومن هنا، جاءت استضافة القاهرة لأفورقي باعتبارها جزءاً من استراتيجية مشتركة مع أسمرا لضبط حركية النفوذ الإثيوبي، ولحماية ممرات البحر الأحمر من التسييس أو الاستخدام كأدوات ضغط. حيث تظهر تقديرات مراكز الأبحاث الأوروبية والأميركية أن القاهرة تنسق مع أسمرا، لمنع خلق توازنات جديدة تستبعد دول العبور التقليدية، وفي مقدمتها السودان، الذي يعيش حالة شلل سياسي تجعله أقل قدرة على الدفاع عن مصالحه البحرية أو البرية.يتزامن هذا الحراك الثلاثي المصري- السعودي- الإريتري مع خطوة الاتحاد الأفريقي والإيقاد لرعاية اتفاق بين الحكومة الإثيوبية وبعض فصائل الأمهرة، وهو اتفاق ناقص التمثيل، يكرر سيناريو التيغراي لكنه بغطاء سياسي مختلف. إذ يعتمد النموذج الإثيوبي في إدارة النزاعات على إنتاج اتفاقات شكلية توقّع باسم الفصائل بينما ترفضها قواعدها الاجتماعية والعسكرية، مما يتيح لأديس أبابا إعادة إنتاج الصراع على نحو يناسبها، ويخلق خصوماً منزوعي التمثيل يمكن التعامل معهم بلا كلفة سياسية.وطبقاً للمجريات الإثيوبية والخبرات المنبثقة منها فإن هذا الاتفاق يخدم هدفين: الأول داخلي يتمثل في تفتيت قوة ميليشيات فانو الأمهرية وضمان عدم قدرتها على تهديد مركز السلطة، والثاني خارجي يرتبط بإعطاء إثيوبيا هامشاً أكبر للمساومة مع السودان وإريتريا، وتحويل كل توترات الأمهرة إلى أوراق ضغط على القاهرة والرياض عبر فتح ملفات الحدود مع السودان وربطها بملف النفوذ في البحر الأحمر.ويتجاوز أثر هذا الاتفاق حدود إثيوبيا، لأن الهشاشة الناتجة منه تتسرب مباشرة نحو الشرق السوداني، حيث تتوسع حركة الإمداد وتسهل عمليات التهريب ويتزايد دخول المرتزقة، في ظل انهيار منظومة الأمن السوداني. ومن جهة أخرى، ترى إريتريا في هذا الاتفاق محاولة لتهميش دورها الإقليمي داخل الهضبة عبر خلق وقائع سياسية مصنوعة تحت رعاية الإيقاد والاتحاد الأفريقي، وهي وقائع قد تتحول إلى تهديد مباشر لأمنها القومي، وذلك مع الغياب السوداني عن التأثير في التفاعلات الراهنة، على رغم أنه يمتلك الجغرافيا والتاريخ السياسي، لكنه لا يمتلك إدارة قادرة على تحويل هذه الموارد إلى نفوذ.وعلى مدى سنوات أدى غياب مركزية القرار وتعدد مراكز القوى إلى تآكل موقع السودان داخل منظومة البحر الأحمر، ما أتاح لإريتريا، أن تتقدم بسهولة في السياق الإقليمي، ومن ثمّ في بناء وبلورة نفوذ دولي مؤثر، خصوصاً أن أسمرا وفق استراتيجية متكاملة: توسع خيوط التنسيق مع الخرطوم حين يفيدها الاستقرار الحدودي، وتعمق محور التعاون مع الرياض في ملفات الأمن البحري، وتعيد تعزيز الارتباط مع القاهرة لتوازن النفوذ الإثيوبي. وتُظهر تحركات أفورقي، من بورتسودان إلى القاهرة والرياض، أنه يبني استمرارية واستدامة في ديناميات التفاعل مع هذه العواصم وليست زيارات متفرقة.إجمالاً: تكشف التطورات الإقليمية المتلاحقة أن إريتريا تتحرك داخل استراتيجية واضحة الأركان، بينما يتحرك السودان داخل فراغ استراتيجي يزداد اتساعاً. فالأول يملك وضوحاً في الهدف واتساقاً في القرار وفهماً عميقاً لتوازنات الإقليم، والثاني يملك الجغرافيا لكنه يفتقر إلى الإرادة المؤسسية لتوظيفها. وفي الوقت الذي تبني فيه إريتريا شبكات تعاون متماسكة مع الرياض والقاهرة، وتواجه بحذر التمدد الإثيوبي، يبقى السودان عاجزاً عن صياغة مقاربة مستقلة تحدد أولوياته، وتضمن عدم تحويله إلى ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين.ويشير المشهد الإقليمي العام إلى أن البحر الأحمر يدخل مرحلة لا تنتظر المترددين. فالقوى التي تحدد موقعها مبكراً تضمن نصيبها من ترتيبات العقد المقبل، أما القوى التي تظل أسيرة أزماتها الداخلية فسيفرض عليها الآخرون موقعها وفق تصوراتهم ومصالحهم. نقلا اندبندنت عربيةThe post إريتريا… نحو تموضع إقليمي نشط appeared first on صحيفة مداميك.