قصة: أحمد سليمان أبكرفي ظلام الليل طالت الحرب قريتها، انتصب خيال الموت، جرفت يده الهائلة أروح جميع أهلها بمن فيهم زوجها، هربت بطفلها، غير عابئة بالظلام، ولا بالأدغال الشوكية التي ظلت تمزّق وجهها، وتحيل ثيابها إلى مجرد أسمال. انتهى بها المطاف إلى مجموعة من الكراتين الفارغة التي أعادت تشكيلها؛ لكي تتحمل حياتها البشرية مع صغيرها، وقد بدا مشهد كوخها -إن جاز تسميته كوخًا- برهانًا على أن البشر يعيشون في أي مكان يستقرون فيه، فغريزتهم في إقامة المساكن كغريزة الطيور في صنع الأعشاش.في تلك الأطراف الموحشة من المدينة، حيث يرتكب البؤس جرائمه مختبأً بستائر الظلمة، وجد نفسه يمضي من أمام كوخها صدفة، انتابه شعور جعله يطفأ محرك السيارة قسر إرادته، توقف أمام الكوخ الذي بدا وكأنه غير مأهول، سمع بعد الصمت الذي كان يلف المكان صوت انتحاب، تلاه بعدها همس، ثم انتحاب آخر؛ بدا له أنّ أحدًا ما يبكي في الداخل، دون أن يُسمع له صوت. إنه فيما يبدو أمام معاناة صامتة مؤلمة جدًا حادة، إلى درجة أنه شعر بقلبه ينشق، ويتصدع، ترّجل من السيارة، اقترب من باب الكوخ، رأى سراج ضعيف يغالب ظلام الكوخ بسهام أشعته الصفراء التي كشفت هي يدورها عن حصيرة حقيرة تدل على فقر مدقع؛ جالسة عليها امرأة بجانبها طفل عاري الجسد إلا من قطعة قماش بالية تغطي جزأه الأسفل. لقد كان مجرد النظر إليها كافيًا لتمزيق أشد القلوب قساوة: خدّاها تقعرا، عيناها غارتا في محجريهما، شفتاها تبدو ابتعلت ولا زالت تبتلع جيوشًا من الدمع المالح، أما سحنتها فبدت هي الأخرى سحنة من هي تحت تأثير همّ كبير وحزن دفين.اضطربت اضطرابًا شديدًا عندما رأته، خرس لسانها، رفعت صغيرها من على فراشه، ضمته إليها، غار بين ذراعيها، وهوى وجهه على صدرها. بد المشهد مشهدًا مؤثرًا ومروّعًا إلى أبعد الحدود لدرجة جعلته يحجب وجهه هو الآخر بيديه. ران السكون عليها وعلى طفلها فترة ليست بالقصيرة، استراح صدرها الخافق وجسدها المرتعد إلى الهدوء الذي لا بدّ أن يعقب العواصف جميعًا-حتى تلك العاصفة التي يدعونها الحياة والتي لا بدّ أن تنتهي إلى سكون وصمت كغيرها من العواصف- تقدم نحوها، وقد ألّمت نظراتها قلبه لأنها اختصرت حكايتها المحزنة، وقال متمنيًا لو كانت عواطف تسيل مع الكلام:لا تخافي مني… فأنا هنا لأساعدك..نظرت إليه بتردد، لكن ما أن أمعنت النظر في وجهه ورأت في عينيه نظرات حانية صادقة؛ حتى اتنابها شعور قذف في نفسها شيء من الاطمئنان.طلب منها أن تسمح له بحمل الطفل، وأن ترافقه إلى السيارة. أومأت برأسها وهي تبتسم وكأنها تعتذر عن ارتيابها منه في أول الأمر.كانت جالست في المقعد الخلفي للسيارة، مستغرقة في تأملاتها المرهقة، تمرّر يدها على صغيرها الذي في حجرها بوتيرة رتيبة، كأنها تحاكي الهواجس والظنون التي تجول في ذهنها جيئة وذهابًا. لوهلة فاقت من تأملاتها، جالت بنظراته إلى ما وراء زجاج السيارة، أُخذت بالبنايات الفارهة التي تتوزّع على جانبي الشارع الأسفلتي الواسع النظيف، وبشجيرات الورد المشذبة التي تفصل بينها، وبالمصابيح المتأرجحة التي لا تسمح لسواد الليل أن يخيم فوق سماء هذا الحي الراقي. همست في نفسها قائلة:يا إلهي.. هل نحن ذاهبان إلى فردودس موعود أم ماذا؟أما هو فقد كان يقود ببطء كأنه يمنحها فرصة التمتّع بجمال المكان الذي ستعيش فيه.بعد عشر دقائق، توقّفت السيارة أمام منزل من ثلاث طوابق، فُتح مصرعي باب المدخل، انتهت بهم السيارة إلى باب المنزل، ترجّل، فتحت خادمة ذلك الباب، ترجّلت هي الأخرى، طلب من الخادمة أن تحمل عنها الطفل وتصحبها إلى الداخل. قادتها الخادمة إلى غرفة بهرت بصرها بضياء متغاير كل التغاير مع الظلمة التي ألفتها عيناها في ذلك الكوخ البائس. لقد كانت الغرفة حسنة الترتيب، تتوسطها مائدة مستديرة، وعلى مقربة منها كرسي ذا ذراعين عالي الظهر عتيق الطراز استوت عليه سيدة تبدو في نهاية عقدها السابع، يعجز الخيال عن تصور امرأة أكثر منها نظافة ووقار. وما كادت تدخل عليها حتى نهضت، وتقدمت لاستقبالها في لهفة ولطف. ومن ثم قادتها للجلوس على الكرسي المجاور لها. أمرت تلك السيدة الخادمة بأن تعد شيئًا من الطعام والشراب، جاءت الخادمة بالطعام، قدمت اليها السيدة الشراب والطعام بنفسها.ارتبكت بعض الشيء إذ وجدت نفسها في موضع رعاية لم يسبق لها أن حُظت بمثلها من قبل، والواقع أنها لم تكن توقع مثل هذا الاستقبال لمثلها في مثل هذه البيوتات الفارهة، لقد توقعت برودة وخشونة ليس غير. إن هذه المعاملة لا تشبه ما كانت قد سمعته عن معاملة أهل الثراء للفقراء…ولكن عادت وقالت في نفسها:لكن يتعين علىّ أن لا أبتهج بأسرع مما ينبغي؟بعــــد أن فــرغت من الطعام والشراب مع ابنها، دخلت عليهماالخادمة وقالت:سيدي بالباب يرغب في الدخول..اعتدلتا في جلستهما، دخل صاحب الدار، تبينت ملامحه بالكامل هذه المرة، وقد بدا في حوالي الستين من العمر، أنيق طويل، في وجهه هيبة ووقار، بين عينيه ابتسامة هادئة تبلع الخوف الذي يشق صدر من نزلت به نازلة.وبعد أن استوى جالسًا على الكرسي الذي كان في صدر المائدة، أرخى عينيه الحانيتين وقال موجها كلامه إلي السيدة:هذه الفتاة وابنها سيعيشان معك هنا.. يا ماما نعمات..نظرت إليها ماما نعمات وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة أنارت كل ما أظلمته أيام الألم وفراق القرية، ثم قالت:على الرحب والسعة..عندها نظر إليها وقال لها:يا بنتي… منذ اللحظة أنت في بيتك وبين أهلك…ثم انصرف..أخبرتها ماما نعمات عن طيبته وشهامته وحبه لفعل الخير، لدرجة أن جنازة زوجته كانت تظاهرة حب كبيرة له، وأنها رأيت بعينها الكثيرين يبكونها وهم حتى لا يعرفونها، بكوها حبًا فيه وحزنًا على حزنه ودمعه. وأنه مقيم في الطابق الثاني الذي هو خاص به، أما الطابق الثالث فهو خاص بابنته الوحيدة التي هي مربيتها؛ والآن متزوجة ومقيمة مع زوجها في إحدى الدول الغربية. أما الخادمة فهي فتاة لطيفة طيبة، أما زوجها فشاب أمين يقوم بحراسة المنزل.حتى إذا تمنّت لها ماما نعمات ليلة هنائة وإقامة طيبة، بعد أن قادتها إلى غرفتها، أجالت بصرها في ما حولها في سكينة وهدوء لم تعهدهما منذ أن غادرت القرية. كان مشهد غرفتها الأكثر إبهاجًا محا إلى حد كبير، حالة التعب الجسدي والقلق النفسي اللذان كانت تعيشهما، وقد أوت آخيرًا إلى مفزع آمن، وفاض فؤادها بعرفان الجميل، فركعت على مقربة من السرير بعد أن وضعت عليه صغيرها، ورفعت آيات الشكر إلى من هو حقيق بالشكر سبحانه وتعالى، غير ناسية، قبل أن تنهض أن تسأله سبحانه أن يجزي صاحب الدار الذي مد يده إليها وانتشلها من قاع البؤس والشقاء خير الجزاء._______________________________________*مؤرخ وباحث ومؤلف في مجالات القصة والرواية والتاريخ السياسي والاجتماعي.The post فردوس موعود appeared first on صحيفة مداميك.