اقبال صالح بانقافي مثل هذه الأيام، تتجلى أجمل شهور السنة في السودان؛ شهور الشتاء، حيث يعتدل الجو نسبيًا، لا سيما في الليل، فيمنح الناس فسحة من السكينة والهدوء. يخيل إليّ أن السوداني خلالها يلتقط أنفاسه، ويهدأ، ويتهيأ للإنجاز. وهي فرصة حقيقية لمراجعة النفس، والتخفف من حدة التشاحن والخصام وافتعال النزاعات التي باتت، للأسف، تطفو على سطح حياتنا العامة ونتصف بها.ولعل للحر الشديد ولهيب الشمس الذي يبلغ حد الغليان أثرًا في توتر الأرواح واحتقان العقول، فحين يلين الجو، تلين النفوس، ويصبح التأمل ممكنًا، والمصالحة مع الذات أقرب.وتزدحم هذه الأيام بمناسبات عظيمة ارتبطت بذاكرة الشتاء السوداني، وفي مقدمتها مولد المصطفى، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، متزامنًا مع ذكرى الاستقلال، وأعياد الميلاد ورأس السنة. كما ترتبط بها الأفراح وحفلات التخرج، ما يدفع كثيرًا من المغتربين للعودة من أوروبا وأمريكا وكندا ودول الخليج لقضاء الإجازات، ومشاركة الأهل والأحباب دفء المناسبة وجمال الطقس.هذه الأيام تحرك فينا، نحن أبناء أم درمان، مشاعر وطنية جياشة، خاصة ممن عاصروا سنوات ما بعد الاستقلال. فقد ارتبطت هذه المناسبات في وجداننا بمشاهد لا تُنسى. كنا نبدأ صباح العيد بالصلاة في حي السيد مكي، ثم نتجه لحضور “نوبة” أهلنا السادة الإسماعيلية، ترافقنا والدتنا الجليلة، حفيدة الشيخ إسماعيل الولي، ونحن خمس بنات، تتوج رؤوسنا أشرطة ملونة، ونرتدي ملابس خاطتها لنا بيديها، في صورة من البساطة والأناقة والخصوصية.كانت والدتنا مثالًا للمرأة الأم درمانية الواعية؛ ذات حضور قوي، وولاء سياسي واضح للحزب الاتحادي وزعيمه (الأزهري) ، لا تتردد في الدفاع عن قناعاتها. كما كان لها ذات الحماس لفريق الهلال، الذي لعب فيه شقيقها ( التقر) رحمه الله ضمنهم نجومه في عهوده الذهبية، حين كان كل شيء في السودان مشرقًا ولامعًا كالذهب .في المقابل، كان والدنا منشغلًا بذكر الله والصلاة على نبيه، زاهدًا في صخب السياسة والرياضة إلا من باب الاطلاع العام، مستندًا إلى إرث روحي عريق بوصفه حفيد الشيخ بانقا، ومن أشراف الرازقية. وقد أتاح لنا هذا التوازن بين الوعي الدنيوي والصفاء الروحي بيئة ثرية، تشكلت فيها شخصياتنا ووجداننا.بعد النوبة، كنا نعبر شارع الأسفلت لنشهد خطب الزعيم الأزهري من شرفته التي ما زالت قائمة تشهد، ترافقه المغنية (الطقطاقة) ، وهي ترتدي علم السودان القديم، يعلو صوتها بالهتاف والتمجيد والزغاريد. وكان يحيط به رجال الدولة وقادة الرأي، على اختلاف انتماءاتهم، دون أن تنقطع أواصر الود، في مشهد يعكس وحدة شعب جمعته أرض واحدة ومصير واحد.ثم نطوف أحياء أم درمان المتلاصقة، نعايد الأهل والأقارب، في تآلف اجتماعي نادر، قبل أن نعود لإعداد الإفطار. كانت أيامًا عامرة بالبساطة والحميمية، ما زالت راسخة في الذاكرة، وقد أفرزت جيلًا من المبدعين والمناضلين والكتّاب والعلماء.لقد حظي السودانيون جميعًا بنصيب من هذه الصورة في انحاء الوطن، غير أن أم درمان، بوصفها عاصمة قومية، تميزت بريادتها واحتضانها للتنوع القبلي والثقافي، وتلاحم أهلها لذاحظيت وحظي لفرادها بالتفرد والتميز والحضارة . لذا نستحق أن نمجدها، وأن نكتب عنها، وفاءً لما قدمته لنا.ومن هذا الوفاء وُلد ديواني الشعري «رصف طريق الإياب»، وهو ديوان وطني خالص، أستعيد فيه لغة البساطة والعفوية، ومفردات الطير والقمر والنجوم والعبير، شوقًا إلى زمن نقي، وإيمانًا بأن الذاكرة قادرة على إعادة الروح.إخترت منه قصيدة :(طائرالرحيل)يا طائرَ الرحيلِ المسافرِ غدًاتُصفِّقُ بجناحينِ عابثًا معربدًافرحًا بالرحيلِ، حرًّا غيرَ مُقيَّدِإليكَ من قلبٍ تغرَّبَ، وعلاهُ الصدىوجفنٍ منذُ الفراقِ ساهرا مُسهَدارسالةَ شوقٍ وحبٍّ خالدالوطنٍ روحي وقلبي إليه فِدَىسلامٌ إليه قديمًا مُجدَّدًاللنيلِ، للأرضِ، لأقصى مدىلوطنِ الأحبةِ، لكلِّ فردا وواحدِالخُضرةٍ مزدانةٍ مزهوةٍ مُمَهَّدِاللَّيلِ، للقمرِ، للنجومِ المُسهِدِهللصباحِ المشرقِ والطيورِ المُغرِّدِهللسماءِ، للشمسِ، للنسيمِ المُجدِّدِالموطنِ الأدبِ والشعرِ والمنتدى ووصيّةٌ يا طائرَ، عندما تجيءُ عائدًاأحمل ْ إليه منه أياما من عمرٍ مضىوترابًا منه، وعبيرًا وشذىوأوراقَ وردٍ، وقطراتِ ندىوجرعاتٍ من نيلٍ عذبٍ شهدىوخفقاتِ قلوبٍ بالحبِّ مُسعدىونُجيماتٍ ثلاثًا، هُنَّ أقصداتلكَ وصيّتي يا طيرُ، نَفِّذْ ما بَدَاThe post لوطن لا يشيخ ابدا … (أم درمان الصامدة) ذكرى متجدده سيرة مدينة صنعت وجدان أمة appeared first on صحيفة مداميك.