عندما تُوزَّع النصائح في الخارج… و باب الوطن مخلع

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةأصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانين متتاليين عبّرت فيهما عن قلقها البالغ إزاء إجراءات المجلس الانتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت، كما استنكرت اعتراف إسرائيل بما يُسمّى إقليم “أرض الصومال”، مؤكدة دعمها لوحدة اليمن والصومال ورفضها لأي خطوات أحادية تهدد استقرار المنطقة.من حيث المبدأ، لا خلاف حول احترام سيادة الدول، ورفض تفكيكها، أو المساس بوحدتها الترابية، وهي قيم راسخة في القانون الدولي والعلاقات بين الدول. غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في مضمون هذه المواقف بقدر ما يكمن في مفارقتها للواقع السوداني الراهن، وفي التوقيت والسياق اللذين صدرت فيهما.فالسودان اليوم لا يعاني مجرد أزمة سياسية عابرة، بل يعيش حربًا مدمرة أطاحت بوحدة الدولة، ومزقت النسيج الاجتماعي، وأفرغت مفهوم “المصلحة الوطنية العليا” من مضمونه العملي. مدن تُدمَّر، وملايين يُشرَّدون، وسيادة الدولة نفسها باتت محل سؤال. في ظل هذا المشهد، يصبح من المشروع طرح تساؤل جوهري:كيف تدعو وزارة الخارجية الأطراف اليمنية إلى تغليب المصلحة الوطنية، بينما المصلحة الوطنية السودانية نفسها غائبة وممزقة؟إن الخطاب الذي يطالب الآخرين بالحكمة، وضبط النفس، وتقديم الوطن على المصالح الضيقة، يفقد الكثير من مصداقيته حين يصدر عن دولة لم تنجح بعد في إيقاف حربها، أو في توحيد مؤسساتها، أو في حماية شعبها من الانتهاكات. فالدبلوماسية، مهما كانت لغتها منضبطة، لا تنفصل عن الواقع الداخلي للدولة التي تمارسها.ثم إن وزارة الخارجية تعلم – أو يفترض أن تعلم – أن إطالة أمد الحروب تفتح الباب واسعًا أمام التدخلات الإقليمية والدولية، وأن الصراعات حين تطول، لا تبقى محصورة داخل حدودها. وإذا كان الاعتراف الإسرائيلي بإقليم أرض الصومال يُنظر إليه بوصفه سابقة خطيرة في القرن الإفريقي، فإن السودان نفسه ليس بمنأى عن سيناريوهات مشابهة إذا استمرت الحرب، وتآكلت الدولة، وتحوّل الفراغ السيادي إلى فرصة للقوى الخارجية، بما فيها إسرائيل وغيرها.المفارقة المؤلمة أن السودان، الذي يحذر اليوم من زعزعة الاستقرار في محيطه، أصبح هو ذاته أحد أكبر مصادر عدم الاستقرار الإقليمي، بفعل حربه المفتوحة، وحدوده المنفلتة، وأزمته الإنسانية غير المسبوقة. وهذا الواقع يفرض على وزارة الخارجية – قبل غيرها – أن تعيد ترتيب أولويات خطابها، وأن تجعل إنهاء الحرب، وحماية وحدة السودان، واستعادة الدولة في صدارة رسائلها ومواقفها.ليس المطلوب من السودان أن يصمت تجاه قضايا المنطقة، ولا أن يتخلى عن مواقفه المبدئية، بل المطلوب أن يكون خطابه الخارجي منسجمًا مع أزمته الداخلية، وأن يتسم بقدر من التواضع السياسي، والاعتراف الضمني بأن السودان اليوم أحوج إلى النصيحة مما هو قادر على تقديمها للآخرين.الدبلوماسية الناجحة لا تُقاس فقط برصانة البيانات، بل بمدى توافقها مع الواقع، وقدرتها على تجسيد صورة دولة مستقرة، أو على الأقل دولة تسعى بجدية للخروج من أزمتها.ما لم يتوقف نزيف الحرب في السودان، ستظل كل دعوة للحكمة خارج حدود البلاد معرضة للشك، وربما للتشكيك، مهما تميزت صياغتها ومصداقيتها.The post عندما تُوزَّع النصائح في الخارج… و باب الوطن مخلع appeared first on صحيفة مداميك.