دولة 56 في عيدها الـ69: لا تهدم ما لم تعرف لم كان فينا أول مرة

Wait 5 sec.

د. عبد الله علي إبراهيم  ظل كثير منا كلما قدمت ذكرى استقلال السودان، التي تأتي في أول يناير (كانون الثاني) القادم، لقيها بـ”عيد بأية حال عدت يا عيد” في شيء من السقم مما انتهى بعدها بنا الحال. ولربما لم يشفع لنا، والحرب العوان قائمة في البلد في يومنا، حتى هذا المقطع من المتنبي. فاتسع الفتق على الراتق. وانسحبت هذه السقامة من الاستقلال على صورتنا عن جيل الحركة الوطنية الذي حمل قضية التحرر من الاستعمار واسترداد الإرادة الوطنية. فسرة مشروع قوات “الدعم السريع” في يومنا هو القضاء على دولة 56 والجيل الوطني موضوع الحديث هنا هو خطيئتها الأولى بالطبع. فهو واضع الجغرافيا السياسية للسودان في رأيهم بمركزه القابض في خيلاء ثقافته العربية الإسلامية وهامشه المحروم الغبين.و”الدعم السريع” مسبوق في الحط من مقام هذا الجيل. فأخذوا مؤونتهم منه بيسر من أدب المعارضين للحكومات العسكرية الثلاث من أحزاب المركز نفسه وقواه. فكان مبلغ حجتهم لمقاومة نظام الإنقاذ للإسلاميين (1989-2019)، ولا يزال، هي خطيئة ذلك الجيل الأولى كما تقدم. وبرع في هذا التبكيت للجيل قلم الدكتور منصور خالد المكثر شديد الأسر، قوي العارضة.واحدة من أكبر أغلاط نقده دولة 56 أنهم لم يفرقوا بين الجيل في مكابدته السياسة والروحية للوطن حتى استقل وبينه وهو على دست الحكم بعد الاستقلال. فصح هنا عليهم القول إنهم رموا الوليد مع ماء الغسيل. فحاكموه بما عرفوا عنه في الحكم لا في وعثاء مواجهة مبتكرة مع قوة غازية جاءت وكثيرهم طفلاً وصبر عليها وصابر حتى ردها من حيث جاءت وهو كهل لا يزال.فعرفوا مثلاً أحمد خير المحامي وزيراً مؤثراً للخارجية طوال ما كان نظام الفريق عبود (1958-1964) العسكري حتى زال بثورة أكتوبر. وحاكموه بما عرفوا عنه في الحكم لا وهو الحادي الغرد في ركب الاستقلال. فأحمد خير هو الذي اقترح في مدينة مدني في 1935 في محاضرة له بنادي الخريجين عنوانها “واجبنا السياسي بعد المعاهدة، 1936” قيام “مؤتمر خريجي المدارس” استثماراً لبند في تلك الاتفاقية بين بريطانيا ومصر، دولتا الحكم الثنائي، التزمت به الدولتان اعتبار مصالح السودانيين والمتعلمين في سياساتهما في السودان.وكان ذلك ما نفذ منه أحمد خير لقيام مؤتمر للخريجين أسوة بالهند ليلعب دوراً قيادياً في الحركة الوطنية من سنة تأسيسه في 1938 إلى 1944، وليخرج من معطفه قادة العمل السياسي في الأحزاب والدولة بعد الاستقلال. وكان أحمد خير ملء السمع الوطني. ليس من معتقل سياسي لم يؤازره في المحاكم. وصدر له في يومه كتابه “كفاح جيل” الذي لا يزال المرجع الأم الثاقب في تضاريس حركة جيله الحزبية والسياسية. وتلقفه من فرط أسره في وقته صبيان مولعون. فقال كامل محجوب، القيادي لاحقاً بالحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي، إن “كفاح جيل” كان أول كتاب لخصه في جريدته الحائطية “الملخص” وهو صبي في المدرسة الوسطى.وهذا الانقطاع من الخلف عن أثر هذا الجيل الذي أشرنا إليه فاش لولا كتابات هنا وهناك لعبدالعزيز حسن الصاوي وتاج السر عثمان وأحمد أب شوك ممن طالعتهم. فإذا أخذنا موضوع الدعوة لتحرر المرأة بدت لنا وكأنها بدأت في 1952 بالاتحاد النسائي الذي هو إحدى منظمات الحزب الشيوعي الجماهيرية التي أبلت بلاء حسناً في القضية. غير أن الاتحاد بدا منبتاً عن مناشئ الدعوة لتحرير المرأة في الحركة الوطنية. وممن خاض في الشأن الدكتور عبدالله عمر أبو شمة. فكان نشر في 1949 في مجلة “لانست” العلمية مقالاً عنوانه “الختان الفرعوني في السودان” عن أضرار هذا الختان الذي تخضع له البنات عندنا. ولم يستغرب كاتب منه تلك الشفقة، لو شئت، على النساء. فعاد إلى همة قديمة لأبو شمة في الاستنصار للمرأة عائدة للثلاثينيات.فقد كان من بين كتاب مجلة “النهضة” في مبدأ الثلاثينيات التي توالت الكتابة فيها يوماً عن موضوع تحرير المرأة. واختلف فيها الدكتور الشاعر محمود حمدي مع والده الشيخ علي حمدي. فكان الوالد يكتب باسم “رجعي” ليجادل ابنه الذي دعا إلى تحرير المرأة. واتسع الجدل عن المرأة وتحررها حتى وجه المحرر بالكف عن الخوض فيه. فكتب أبو شمة (المولود في 1908) قائلاً: “ليس موضوع المرأة بالشيء التافه الذي يريد محرر النهضة أن نكف الكلام عنه، أو نحوله إلى نقطة أخرى من مواضيع الحياة الكثيرة المتعددة. ويطالبنا المحرر أن نفكر في الرجل وتعليمه وثقافته وبعث الشعور القومي. ولكنني أريد أن أتساءل: كيف نقرر بكل ذلك إذا كان النصف الأهم عندنا مشلولاً. لا يظن أن المرأة يجب أن تكون بعيدة من أفكارنا والتحدث في ما يشغل كل أوقاتنا وخصوصاً نحن معشر الشباب الذين أصبحنا لا ننظر للمرأة كما يراها غيرنا أداة للمتعة وسد مطالب الرجل. وكيف نحصل على ترقية الرجل إذا أمه لا تشترك في تهذيبه وزوجته لا تشجعه” (النهضة 10 يناير 1932)وتسرب أبو شمه بهذه المعاني الدقيقة الخطرة إلى كتابة القصة القصيرة فكتب قصة عنوانها “خيبة أمل” (15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1931) يحلم فيها حسن أفندي بفتاة أحلام-زوجة “يحبها حباً حقيقياً، وتحادثه في كل مواضيع الحياة، وتتفسح معه على ضفاف النيل، وتوءم معه محال السينما وتذهب معه إلى السوق فتختار ملابسها وأدوات منزلها”. لكنه ينتهي إلى زواج إحدى بنات عمه المتوفى “وأي واحدة منهن تستطيع أن تجر الساقية بمفردها وانتهت الأحلام”.لو كانت خيباتنا بعد الاستقلال فاجعة في حد ذاتها لما كان في البطن مغصة. لكن الأكثر إمغاصاً أن يكسب الاستعمار منها كسباً جعله نظاماً مثالياً في عين صفوة كثيرة. ولو لم تنقطع هذه الصفوة عن سيرة الجيل الوطني بقرار من جهة واحدة لربما بطل عندها تجيير هذه الخيبة لمصلحة الاستعمار. فرأى الجيل الوطني موضوعنا هنا من لؤم المستعمرين ما احتشد في كتاب “موت دنيا” لرئيس الوزراء السابق محمد أحمد محجوب والدكتور عبدالحليم محمد. فكانا التحقا بكلية غردون في ما بعد ثورة 1924 التي رأى الإنجليز منها كيف أن الصفوة التي رعوها في الكلية قد عضت يدهم المحسنة. فأساءوا عليه بغضبة استعمارية للتعليم والمتعلم حتى سمى محجوب وحليم جيلهم بـ”جيل السنوات العجاف”. وكانت من ضمن العقوبات التي وقعت عليهم حرمانهم من قراءة الصحف المصرية لأن الإنجليز اتهموا مصر، بحركتها الوطنية المصادمة للإنجليز، بأنها من وراء الثورة.كانت صحف القاهرة، “البلاغ” الوفدية ومن لوامع كتابها العقاد، و”السياسة الأسبوعية” للأحرار الدستوريين ويحررها محمد حسين هيكل، تأتي الخرطوم بالقاطرة على مرتين في الأسبوع. وكان محرماً على طلاب كلية غردون الاطلاع عليها. وكانوا يفعلون ذلك سراً. بل إن طالب القضاء الشرعي، علي كباشي، من بلدة الرهد بكردفان، زاد بأن نشر قصيدة في “البلاغ” في 1928. فلاحقته السلطات. فاتصل مكتب السودان في مصر باستخبارات السودان ينقل الخبر قبل وصول القطار الذي سيأتي بالصحيفة. وأطلعت الاستخبارات مستر يودال، مدير الكلية، بالواقعة. وجاءت “البلاغ” في الغد تحمل، في قول حسن نجيلة في كتابه المأثرة “ملامح من المجتمع السوداني” (1963)، جسم الجريمة: القصيدة. فبعث يودال رسولاً يستدعي كباشي في حين كانت الحكومة تلومه على تفريطه حتى تمرد ذلك الطالب عليه.وجاء كباشي في صحبة صول الكلية، فضل المولى، الذي صب سوطه العذاب على أجساد طلاب غيره. فوبخ يودل كباشي وقرر فصله وترحيله بالقطار إلى أهله في كردفان في اليوم نفسه. وحتى حلول القطار حبسوه في غرفة عليا من مباني الكلية. ولم يكن بوسع زملائه فعل شيء مناصرة له سوى التجمع عند أسفل الغرفة وإدامة النظر فيها. وجاء يودال غاضباً يشتم ثلة من الطلاب كانوا غادروا الكلية سراً إلى مصر. وقال إنهم ناكرو جميل عضوا على الأيدي التي أكرمتهم. وذكرهم بأفضال الإنجليز عليهم وعن خيانة كباشي لهم. وما إن وصل القطار بكباشي مدينة الأبيض حتى أخذوه مخفوراً بتعليمات لمفتش المركز لمحاكمته. فحكم عليه بالسجن ستة أشهر سجناً بالدرجة الثالثة. وقضى المدة. وخرج محارباً في رزقه.ولما تقطعت الأسباب بين الخلف والجيل الوطني تعذر على دعاة التغيير الاجتماعي والفكري منهم نسبة أنفسهم إلى إشراقاته لا في الصراع السياسي ضد الاستعمار، بل في الصراع المجتمعي بين السودانيين أنفسهم. فكان الناقد الأمين على مدني من أوائل من خرج، تحت تأثير مدرسة الديوان في مصر، ناقداً الشعر العربي التقليدي الذي كان زينة زمنه وكان أميره الشاعر محمد عمر البنا.تخرج الأمين مدرساً من مدرسة العرفاء بكلية غردون في 1920. كان وسيماً، أنيق الهندام، ربع القامة، عذب الحديث مدمناً لقراءة الأدب العربي. وتأثر منه بأدب المهجر وبجبران خليل جبران خاصة. فنزع إلى نقد التقليد في الشعر. وكان أول من حاضر عن زيفه وصدئه في زمنه. وتأثراً بالعقاد والمازني وشكري ممن كان أحمد شوقي في مرمى نقدهم كان الشاعر البنا صيد الأمين. فانفتحت ثورة عليه في صحيفة “الحضارة”. فصاح شيخ في وجهه وهو يحاضر: أنت شاب مجنون. فكتب الأمين خاطرة في ما بعد: “أنا شاعر مجنون. أنا الشاعر المجنون وهم الشعراء العقلاء أنا شاعر بلا قيد أو شرط”. واتصل الجدل بين الأمين والمعلم عبدالرحمن علي طه، الذي صار مديراً لمعهد بخت الرضا التربوي لاحقاً، على صفحات “الحضارة” وطال وتشعب حتى أوقف حسين شريف المحرر الجدل، لكنها معركة مجنونة للتجديد تركت دوياً.وعوجل الأمين في ريعانه في 1926. وانعقد له حفل تأبين في نادي الخريجين، غنى في تقليد سوداني استحق النظر، محمد أحمد سرور، عميد الغناء في يومه، والأمين برهان أغنية للشاعر العبادي للمرة الأولى:بيع خزفك درر اتغيب النقاد (تساوى الخزف والدرر بعد موت صاحب الدرر)مات الكان بيهدد طه (حسين) والعقادوين متل الأمين ليهو البيان ينقادولعل الأكثر لؤماً في قطيعة الخلف مع الجيل الوطني أنه كمن يلغي جيشانه بالوطن الحر، وأشواقه ليخلص سيداً خليقاً بهم بجرة قلم، بل جنونه في تيهاء عشقه. كان الوطن للجيل الوطني استثماراً عاطفياً فوق أنه استثمار سياسي. كانت العين منهم تترقرق بالدمع عند كل منعطف ظفر لهم بزمام إرادتهم. فكتب أمين التوم الوزير القيادي بحزب الأمة عن أيامهم في مؤتمر الخريجين يذرعون الريف للدعوة لـ”يوم التعليم” الذي بادر به المؤتمر. وقال إنه كان ضمن وفد من 30 شاباً بقيادة أحمد خير لافتتاح مدرسة أهلية من عمل المؤتمر بقرية الكنوز بالنيل الأبيض. وتوقفوا عند بلدة القطينة التي اجتمعت عن بكرة أبيها: “وقبل أن ننزل من العربات أنشدنا نشيد المؤتمر (فليعش مؤتمري رمز مجد الوطن) وكانت دهشتنا حين رأينا الناس يبكون بدموع غزيرة وهم يستمعون إلى نشيدنا”.ولما جاء الاستقلال عاد أمين إلى ميثاق الدموع. فقال إنه لم يوفق في توفير دعوة لأبيه لحضور مراسيم رفع العلم السوداني. فامتنع أن يذهب من دونه. وبدلاً من ذلك أخذ المرحوم والده وأولاده بالعربة لشارع القصر الحالي، وتوقف أمام شركة مركنتايل حيث ساريات القصر مرئيات لهم. وقال “ثم شهدنا وما أعظم ما شهدنا. رأينا علم السودان بألوانه الثلاثة يرتفع خفاقاً في الفضاء. وبكي والدي وبكيت كثيراً ونحن نشاهد هذا المنظر المهيب. وكانت دموع فرحنا غزيرة مسرفة في غزارتها. وبكى ولدانا وهما يشهدان معنا في تلك اللحظة الخالدة صفحة من تاريخ الاستعمار تطوى وصفحة الاستقلال تفتح من جديد”.السودان في أمر ضيق من أمره وجفاؤنا حيال الجيل الوطني في ما رأينا حائل دون لم شعثنا. سئل كن بيرنز، الذي أنتج فيلم “الثورة الأميركية” أخيراً بعد نحو عقد من العمل عليه، عما حدا به للاهتمام بتلك الثورة. فقال إنهم في براثن انقسام عصيب في أميركا. ولرأب الصدع صح أن نتعامل مع بلدنا كما يتعامل المتخصص النفسي أو القسيس مع إنسان مأزوم. فيسأله عن متى ولد، ومن والديه، وكيف كانت طفولته إلخ. ويعيد الرجل سيرته الأولى من فوق تلك المعارف عنه. وقال إن ما أراده من الفيلم هو أن تعرف الأمة متى ولدت، ومن أي والدين، وما سرديتها لتتلمس طريقها للشفاء.ودولة 56 هي سردية المنشأ لدولة السودان المستقل المعزز بالإرادة الوطنية، أو أسطورته لو شئت. وبداية الشفاء مما نحن فيه من شقاق أن نعلم من أين جاءت هذه الدولة لا أن نشغب في وجهها ونحتج على مجيئها نفسه. ولمن أراد تقويضها صح نصه بقول أحدهم إنه إذا أردت هدم شيء فاعرف لماذا كان فينا أول مرة.The post دولة 56 في عيدها الـ69: لا تهدم ما لم تعرف لم كان فينا أول مرة appeared first on صحيفة مداميك.