بقلم: عاطف عبداللهتقترب الحرب السودانية من يومها الألف، فيما يقترب معها السودان نفسه من حافة الفناء البطيء. ألف يوم من القتل المجاني، والخراب الممنهج، والتشريد الواسع، دون أن يلوح في الأفق أي أمل حقيقي في وقف هذه المأساة. حربٌ صفرية، لا غالب فيها سوى الموت، ولا خاسر فيها سوى الشعب السوداني بأكمله.ومع ذلك، لا يزال بعض أطراف الصراع، ومعهم آلة إعلامية صاخبة تقودها التنظيمات الإسلاموية، يصرّون على تسويق هذه الحرب بوصفها «حرب كرامة» أو «مقاومة لغزو أجنبي». وهو خطاب لا يخلو فقط من الزيف، بل ينطوي على قدرٍ هائل من الاستهتار بعقول الناس وآلامهم. فأي كرامة تُستعاد فوق جثث المدنيين؟ وأي سيادة تُصان بينما يُهجَّر الملايين، ويُترك الأطفال فريسة للجوع والأوبئة؟وفي قلب هذا الجحيم، يدفع المدنيون الثمن الأفدح. فالسودان اليوم يواجه أكبر أزمة نزوح في العالم؛ إذ يحتاج أكثر من 33 مليون إنسان إلى مساعدات إنسانية، بينما تجاوز عدد النازحين 12 مليون شخص منذ اندلاع الحرب. لم تعد المجاعة احتمالاً، بل واقعاً مؤكداً في مناطق من دارفور وكردفان. انهارت المنظومة الصحية، وقُصفت المستشفيات، وقُتل الكوادر الطبية أو أُجبروا على الفرار، حتى باتت حملات تطعيم الأطفال تُنفَّذ في ظروف أشبه بحالات الطوارئ القصوى.حرب بلا أفق… وبلاد بلا حمايةالحرب التي تدور رحاها اليوم في السودان لم تعد مجرد صراع على السلطة، بل تحولت إلى ماكينة تدمير شامل. ملايين فقدوا كل شيء: منازلهم، أعمالهم، ذكرياتهم، وأبسط مقومات الحياة. وكل بريق أمل يلوح سرعان ما يتبدد، كسراب رغيف خبز في حلم إنسان يتضور جوعاً.اقتصادياً، وصلت المعاناة إلى ذروتها. فالجنيه السوداني يواصل انهياره، والحكومة تقرّ برفع سعر «الدولار الجمركي» للمرة الخامسة خلال عام واحد، في محاولة يائسة لمواجهة التضخم، بينما تُلقى كلفة الانهيار كاملة على كاهل المواطنين. وفي مشهد فادح الدلالة، يصبح الذهب – لا الزراعة ولا الصناعة – المورد شبه الوحيد للعملة الصعبة، وكأن الدولة تختزل نفسها في حفنة من المناجم وسط خراب شامل. والأسوأ أن عائداته تُوجَّه لتمويل الحرب، لا للإغاثة أو التنمية.عسكرياً، دخلت الحرب مرحلة أكثر دموية مع انتقال ثقلها إلى إقليم كردفان. فسيطرة قوات الدعم السريع على بابنوسة وحقل هجليج النفطي، وفرض حصار خانق على كادقلي والدلنج، تنذر بانفجار أوسع. ومع اتساع رقعة النار، يتزايد القلق من انجرار دول الجوار – تشاد، جنوب السودان، وإثيوبيا – إلى هذا المستنقع، في سيناريو إقليمي بالغ الخطورة.أخطر ما في هذه الحرب ليس دمارها المادي فحسب، بل محاولات إضفاء شرعية أخلاقية عليها. فخطاب “الكرامة” الذي يُرفع لتبرير استمرار القتال ليس سوى غطاء أيديولوجي لحرب سلطة، تُدار بلا أي اعتبار لحياة الناس أو مستقبل البلاد. فالكرامة لا تُحمى بالحصار، ولا تُستعاد بتجويع المدن، ولا تُصان بإبادة القرى.أما الحديث عن “غزو أجنبي”، فليس سوى توظيف انتقائي لمفهوم السيادة؛ يُستدعى حين يخدم استمرار الحرب، ويُغضّ الطرف عنه حين تُفتح الأبواب للمرتزقة، أو تُنهب الموارد، أو تتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.المسؤولية عن هذه الكارثة لا تقع على طرف واحد. فالجيش، وقوات الدعم السريع، والقوى السياسية التي تبرر أو تصمت أو تراهن على إطالة أمد الصراع، جميعهم شركاء في هذه الجريمة. كما أن المجتمع الدولي، رغم العقوبات والبيانات، لا يزال عاجزاً – أو غير راغب – في فرض مسار جاد لوقف الحرب وحماية المدنيين.السودان لا يحتاج إلى مزيد من الشعارات، ولا إلى انتصارات وهمية، بل إلى شجاعة أخلاقية توقف هذه الحرب العبثية. فالتاريخ لن يرحم من أشعلها، ولا من بررها، ولا من صمت عليها. وكل يوم إضافي من القتال لا يقرّب البلاد من الكرامة، بل يغرقها أكثر في المذلة والوضاعة والهوان، ويبعدها خطوات عن الحياة نفسها.The post الحرب السودانية في ألفيتها الأولى مسؤولية مشتركة… وخلاص مؤجَّل appeared first on صحيفة مداميك.