ذكرى استقلال السودان والشفرة المفقودة

Wait 5 sec.

د. الشفيع خضر سعيدقبل سبعة عقود، وُلد السودان يحمل في يده وثيقة استقلال، وفي قلبه أحلام أمة، ولكنه نال حدوداً مرسومةً أكثر مما امتلك رؤية واضحة لبناء دولة، وظل حتى اليوم حائراً على عتبة الوطن. ففي تلك اللحظة كان المفترض أن تنشط النخبة السياسية السودانية في تحويل الطاقة الوطنية من مقاومة المستعمر إلى الإجابة على أسئلة التأسيس المصيرية في مشروع وطني جامع يضع الأساس لبناء دولة ما بعد الاستعمار.ولكن النخبة وجدت نفسها غارقة في صراعات ورؤى متنافسة، فتحولت السياسة من فضاء للحوار البناء إلى ساحة لصراع الإرادات والتطلعات الضيقة. فسؤال الهوية تحول إلى أرضية للصراع بدلاً من أن يكون مصدراً للثراء الحضاري. وبدلا من ضبط علاقة الدين والدولة بمعادلة موزونة تحترم الدين والتدين الشخصي، وتضمن في الوقت نفسه المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم، تحول الدين عند البعض من قوة روحية جامعة إلى أيديولوجيا صراع، فخسرت الروح وخسرت الدولة. والدولة التي ورثت هياكل إدارية مركزية صممها المستعمر لخدمة أغراضه، لم تستطع أن تعيد تخيل هذه العلاقة على أساس المواطنة المتساوية والعدالة في توزيع الموارد والسلطة، فظل المركز يتحكم بالمصائر، والأطراف تشعر بالاغتراب، حتى انفجرت هذه الهوة في نزاعات دامية وحروب أهلية. واليوم، في الذكرى السبعين لاستقلال البلاد، لازالت أسئلة التأسيس تلك تائهة دون إجابات، وغياب الإجابات يُلقي بظلاله الثقيلة والمدمرة على وحدة البلاد ونسيجها الوطني.لكن الأمر الأكثر إثارة للتفكير ليس فقط فشل النخب السياسية، بل في تحول هذا الفشل إلى ثقافة سياسية دائمة، حتى أصبحت الأزمات والحروب هي الثابت، والسلم والاستقرار هو المتغير، ولسبعة عقود ظلت البلاد تدور في حلقة شريرة: ضعف الدولة يؤدي إلى النزاعات، والنزاعات تؤدي إلى مزيد من إضعاف الدولة. وكانت الصدمة الكبرى الأولى ذهاب الجنوب، والثانية حرب 15 أبريل البشعة، وصدمات أخريات قادمات في الطريق ما لم تتسارع عجلة التغيير. ولعلَّ أعمق مأساةٍ في التجربة السودانية ليست في الفقر أو الحروب وحدها، بل في هذا الفشل الغامض والمتكرر للنخب السياسية في فك شفرة بناء الدولة الحداثية المستقرة. فالنخب السودانية التي تربعت على دست الحكم منذ فجر الاستقلال، مضت إلى بناء الدولة بعقلية «المالك» لا «الخادم» وبمنطق «الغالب والمغلوب» بل واختزلت الشفرة في إيديولوجيا أحادية وفي فرض رؤية واحدة للهوية وإقصاء الآخر، وفي اقتصاد ريعي يستحوز على موارد البلاد كغنيمة، بدلاً من أن يطورها كرأسمال وطني، وفي سلطة مركزية غاشمة تعتقد أن القوة العسكرية والأمنية هي الركيزة الوحيدة للاستقرار. إن شفرة بناء الدولة الحداثية المستقرة ليست مجرد مواد منصوص عليها في دستور أو قوانين، إنها ذلك المزيج السرّي من الرؤية التاريخية، والإرادة الجماعية، والعدالة كقيمة مؤسِّسة، والمؤسسات كهياكل حية تنبض بالثقة. هي القدرة على تحويل «الجماعة» إلى «مجتمع» و«المجتمع» إلى «دولة». هي ذلك التوازن الدقيق بين السلطة والحرية، بين الوحدة والتنوع، بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. إنها، في جوهرها، تمتلك القدرة على تحويل التناقضات إلى تنوع مُثمِر، والصراعات إلى ديناميكية بناء. وسبعون عاماً من الفشل كافية لأن تعلمنا درسا قاسيا، لم يستوعبه البعض حتى الآن، يتلخص في أن الدولة لا تُبنى بالحديد والنار، ولا بالآيديولوجيا، بل بالأفكار الجامعة، وبالإدارة الناجحة للتنوع، وبالقدرة على تجاوز الذات الضيقة نحو رحابة الوطن المشترك.واليوم، في الذكرى السبعين لاستقلاله، ما يزال السودان واقفاً وهو يحمل مفتاحاً لم يُحسن استخدامه، وخريطة لم يفهم رموزها بعد. لكن التاريخ ليس مصيراً محتوماً، والفشل في فك شفرة بناء الدولة السودانية، لا يعني حتمية الضياع وفقدان الأمل. فهذه الشفرة ليست سحراً غيبياً، بل هي خلاصة إنسانية تراكمية يمكن اكتسابها. والشعب السوداني، بتنوعه وثقافته وصموده، يمتلك مقومات هذه الشفرة في أعماقه. إنها في حكمة «المواطن» في أريافه البعيدة، وفي إبداع «المثقف» في مدنه، وفي كفاح «الشباب» من أجل غدٍ أفضل. إن قدرة الشعب السوداني على الثورة والتجدد تمنح الأمل في جيل جديد قد يكون أقدر على فك الشفرة. جيل لم يولد في عباءة الإيديولوجيا القديمة، جيل يرى في التنوع ثراءً لا تهديداً، وفي الحوار سبيلاً لا ضعفاً. مهمة هذا الجيل ليست إعادة اختراع العجلة، بل اكتشاف الكود الإنساني البسيط والعميق للعيش المشترك: العدل أساس الملك، والحرية شرط الإبداع، والمساواة سرُّ الوحدة. ولقد بدأ نشاط هذا الجيل الجديد في البحث عن هذه الشفرة حتى بانت ملامحها في شعارات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 : الحرية والسلام والعدالة، كما تجلت في مبادرات القواعد الشعبية لإدارة حياة الناس في ظل غياب الدولة. فهذه المبادرات، أنشأت شبكات إغاثة ذاتية، وآليات لحماية المدنيين، بل ووساطات محلية لوقف القتال. وتجربة غرف الطوارئ، والتي ضمت شبابا من مختلف الخلفيات والتوجهات والإثنيات، تثبت أن النسيج الاجتماعي لم يتمزق كلياً، وأن السودانيين قادرون على ابتكار حلول محلية للتعايش.اندلعت حرب 15 أبريل 2023 كصراع على السلطة، لكن جذورها تمتد إلى تناقضات الاستقلال غير المكتمل، ولذلك تحولت إلى حرب متعددة الأوجه: حرب مركز وأطراف، حرب هويات، حرب مجموعات المصالح ونهب الموارد، وحرب بالوكالة جعلت السودان ساحة لصراعات إقليمية ودولية مما زاد من تعقيد الأزمة وأطال أمد الحرب. وفي الذكرى السبعين لاستقلاله، يقف السودان أمام مفترق تاريخي: إما أن تستمر هذه الحرب حتى يتفكك الكيان السوداني بالكامل، أو أن تبدأ عملية سلام جذرية تبني دولة جديدة على أنقاض دولة الاستقلال الناقصة. الخيار الأول يعني كارثة شاملة لا يمكن تصورها. والخيار الثاني صعب وشاق، لكنه ممكن إذا التحمت إرادة الشعب السوداني بإرادة دولية حقيقية للسلام، لا لمجرد إدارة الأزمة.The post ذكرى استقلال السودان والشفرة المفقودة appeared first on صحيفة مداميك.