مطلبُ جنوبِ السودان للنظامِ الفيدرالي ورفضُ الشمالِ المتواصل: قراءةٌ في التاريخِ والتطوّراتِ والنتائج (12 – 12)

Wait 5 sec.

*د. سلمان محمد أحمد سلمان1تابعنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة من المقالات بروز مطلب النظام الفيدرالي لجنوب السودان من الأحزاب والحركات المسلحة الجنوبية منذ فترة ما قبل الاستقلال، في مؤتمر جوبا عام 1947. وأوضحنا كيف بدأ وتواصل الرفض القاطع لهذا المطلب من جميع الأحزاب والحكومات الشمالية خلال تلك الفترة، وكذلك فترات الحكم العسكري والمدني اللاحقة.وقد ناقشنا بالتفصيل انعقاد وقرارات مؤتمر المائة المستديرة في بداية مرحلة الحكم المدني الثانية، وتأكيد رفض الأحزاب الشمالية مجتمعةً خلال المؤتمر، ثم في لجنة الاثني عشر، لمطلب النظام الفيدرالي.2تطرّقنا بعد ذلك إلى انقلاب العقيد جعفر نميري وإعلان 9 يونيو 1969 وبداية مرحلة الحكم العسكري الثاني، والتوصّل إلى اتفاقية أديس أبابا في 3 مارس عام 1972، والتي استجابت لأول مرّة لمطلب الجنوب لمطلب الفيدرالية تحت مسمى الحكم الذاتي الإقليمي.ناقشنا بقدرٍ من التفصيل بنود وملاحق الاتفاقية وبداية تطبيقها. وتعرّضنا بعد ذلك إلى اتفاق الرئيس نميري عام 1977 مع الأحزاب الشمالية الدينية الثلاثة (الأمة والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية) التي تحالفت تحت مسمى “الجبهة الوطنية.”أوضحنا كيف نتج عن هذا الاتفاق بداية الاهتزاز والتراجع عن اتفاقية أديس أبابا بواسطة الرئيس نميري، ثم تمزيقها بتدخّله السافر في إدارة الإقليم الجنوبي، والتعيين والفصل من المناصب السياسية والحكومية في جنوب السودان حسب هواه وطلبات حلفائه الجدد، وفي ازدراءٍ تامٍ للاتفاقية.وقد دقَّ الرئيس نميري المسامير الأخيرة في نعش الاتفاقية بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى مديرياته الثلاثة ليتم حكم كل مديرية على حدة، كما كان الحال قبل الاتفاقية. وقد قام الرئيس نميري بهذا التغيير الآحادي، رغم أن اتفاقية أديس أبابا انبنت أساساً على مبدأ الإقليم الواحد، وفي استخفافٍ تام بالاتفاقية وبنود تعديلها. ثم قام بعد أشهرٍ قلائل من ذلك بإصدار قوانين سبتمبر 1983 والتي كانت كلمة الوداع للاتفاقية.3تابعنا كيف قاد ذلك إلى ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان بشقيها السياسي والعسكري، وإلى انهيار نظام نميري تحت وطأة المشاكل السياسية والاقتصادية، والنكسات العسكرية المتواصلة في جنوب السودان.ناقشنا بالتفصيل ميثاق الحركة الذي انبنى على أن المشكلة التي تواجهها البلاد ليست مشكلة جنوب السودان، بل مشكلة كل السودان، وأن هدف الحركة الشعبية هو ليس تحرير الجنوب، بل تحرير كل السودان، تحت مُسمى “السودان الجديد.” وأوضحنا تركيز الميثاق على أن السودان الجديد مشروطٌ بإنشاء قواسم اجتماعية وسياسية واقتصادية مشتركة تجمع كل السودانيين كمواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات.4عليه فقد أغلقت الحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 1983 إغلاقاً تاماً فصل الفيدرالية الذي تمّ فتحه عام 1947. وكما ذكرنا من قبل، فقد ظلّت الفيدراليةُ مطلبَ كلِّ الحركات والأحزاب الجنوبية منذ ذلك الوقت، وحتى فترة الرئيس نميري التي تم فيها التوقيع على اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان.ومن سخرية القدر فإن القائد الشمالي الوحيد الذي وافق على مطلب الفيدرالية وطبّقه وأوقف الحرب ووحّد السودان سلمياً، عاد وانقلب على اتفاقه ومزّقه في غطرسةٍ وعنادٍ ليشعل حرباً أهليةً ثانية، أدّت في نهاية الأمر إلى انفصال جنوب السودان.5نعم لقد أغلقت الحركة الشعبية باب مطلب الفيدرالية عام 1983، لكنها فتحت بميثاقها فصلاً جديداً – السودان الجديد – والذي أربك نظام الرئيس نميري وحلفاءه في الأحزاب الإسلامية الثلاثة. كما أربك الميثاق بنفس القدر معارضي النظام من الأحزاب اليسارية، وكذلك حكومات الخرطوم، في مرحلة الحكم المدني الثالثة، ثم مرحلة الحكم العسكري الثالثة المعروفة بالإنقاذ.6وتواصل ذلك الارتباك عندما وضح للحكومة والمعارضة أن ميثاق الحركة قد بدأ في جذب أعدادٍ من الشماليين وانضمامهم للحركة الشعبية، مما أعطى مصداقيةً كبيرة لمبدأ السودان الجديد الذي وضح أنه قد وُلِد بأسنانه، تحت قيادةٍ تملك “الكاريزما” وحيّزاً كبيراً من المقدرات العسكرية والسياسية والدبلوماسية.وزاد من حالة الارتباك والدهشة والحيرة في الشمال الانتصارات الكبيرة والسريعة التي حقّقتها الحركة الشعبية بضربها وإغلاقها مشروعي النفط والمياه في الجنوب، والانسحاب المتعجّل والتام للشركتين اللتين كانت تقوم احداهما بالتنقيب عن النفط (شيفرون الأمريكية)، والثانية ببناء قناة جونقلي (سي سي آي الفرنسية). وشملت الانتصارات ضرب مطار جوبا ووقف إمدادات قوات الجيش الجوية في جنوب السودان، والبدء في محاصرة وسقوط بعض الحاميات في الجنوب، وانتقال الحرب إلى الشمال.أكملت الانتكاسات العسكرية والتدهور الاقتصادي المتزايد وصدور قوانين سبتمبر 1983 حلقة الضغط على نظام نميري، وأدت إلى سقوطه من خلال انتفاضةٍ شعبيةٍ في أبريل عام 1985.7لكن من سخرية القدر، والعبث في مسرح السياسة السوداني، فإن إغلاق باب مطلب الفيدرالية من جانب الحركة الشعبية عام 1983 نتج عنه تبنّي الأحزاب الشمالية لذلك المطلب الذي كانت ترفضه باستمرار، لتقوم هذه المرة بعرضه هي على الحركة الشعبية بجناحيها، اللذين رفضاه بشدة.حدث ذلك للمرة الأولى في مكاتبات الدكتور الجزولي دفع الله مع الدكتور جون قرنق عام 1985، ثم حدث للمرة الثانية في لقاء الدكتور علي الحاج مع الدكتور لام أكول في فرانكفورت عام 1992، كما سنناقش أدناه.8تعرّضنا في سلسلة المقالات الأولى عن إعلان كوكا دام واتفاقيىة الميرغني قرنق إلى الاتصالات التي تمت في بداية مرحلة الحكم المدني الثالثة بين نظام المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد سقوط نظام النميري. وكما أوضحنا في تلك المقالات، فقد انتهى أمر انتفاضة أبريل عام 1985، باختطافها بواسطة الجبهة القومية الإسلامية، والذي تأكد باستلام المشير سوار الذهب لرئاسة المجلس العسكري، والدكتور الجزولي دفع الله لرئاسة مجلس الوزراء، مع عددٍ من الوزراء المحسوبين أو المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية.9وكنا قد تعرّضنا في المقال الأول من سلسلة مقالات كوكا دام واتفاقية الميرغني قرنق إلى الرسالة التي بعث بها الدكتور الجزولي دفع الله رئيس وزراء حكومة انتفاضة أبريل إلى الدكتور جون قرنق في الفاتح من شهر يونيو عام 1985.أوضحت الرسالة أن من المهام العاجلة والملحّة للحكومة الجديدة هي حلّ مشكلة الجنوب. تضمّنت الرسالة ما أسمته “أفكاراً للنقاش” شملت عرضاً بالعودة إلى اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي لجنوب السودان لعام 1972. وكما شرحنا من قبل فقد تبنّت اتفاقية أديس أبابا النظام الفيدرالي تحت مسمى الحكم الذاتي الإقليمي.10وكأن محاولة بثِّ الحياةِ في روح اتفاقية أديس أبابا لم تكن كافيةً لإثارة الدكتور قرنق والحركة الشعبية، فقد مضت الرسالة لتقول أنه على الرغم من أن مشكلة الجنوب لم تبدأ بالقوانين الإسلامية، إلا أن رئيس الوزراء يُقدّر آثارها، ويعتقد أنه إذا تمّ الاتفاق على المسائل الأخرى فإن مسألة القوانين الإسلامية لن تكون حجر عثرة في طريق الاتفاق، وأنه يمكن الوصول إلى حلٍ لأن هذه القوانين هي موضع نقاش.11كما ذكرنا من قبل، فمن الواضح أن هذه الرسالة لم تكن موفّقةً البتّة. فقد واصلت الحديث عن مشكلة جنوب السودان وعرضت العودة إلى اتفاقية أديس أبابا، بينما كانت الحركة الشعبية قد أعلنت برنامجها في يوليو عام 1983، أي قبل حوالي العامين من الرسالة، موضحةً أن المشكلة لم تعد مشكلة جنوب السودان، بل هي مشكلة السودان ككل. كما أن ميثاق الحركة كان قد أعلن موت اتفاقية أديس أبابا، وإحلالها بالسودان الجديد.بل إن الرسالة تعكس بوضوح حالة الارتباك التي ظل الإسلاميون يتعاملون بها مع كل القضايا الوطنية، خاصة قضية جنوب السودان. فقد رفضوا مطلب الفيدرالية بشدة مع بقية الأحزاب الشمالية في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، لكنهم عادوا يترجّون الحركة الشعبية عام 1985 بالعودة لاتفاقية الحكم الذاتي لعام 1972″ والتي كانوا قد عاضوها وعملوا بشدة على نقضها بعد تغلغلهم في نظام النميري.12كان ردُّ الدكتور قرنق، كما هو متوقّعٌ، حاداً وغاضباً، وكان تاريخ رسالته الفاتح من سبتمبر عام 1985، أي بعد ثلاثة أشهرٍ من رسالة رئيس الوزراء.تجاهلت الرسالة تماماً عرض الدكتور الجزولي دفع الله بالعودة لاتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي لجنوب السودان، ولم تقم حتى بالإشارة لهذا العرض مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة. بدلاً من ذلك طالبت الرسالة بضرورة أن تلتزم الحكومة السودانية علناً بمناقشة مشكلة السودان، وليس مشكلة جنوب السودان، في مؤتمرٍ وطنيٍ جامع يناقش نظام الحكم في الخرطوم وأقاليم السودان.لكن الرسالة اشترطت الاستجابة لمجموعةٍ من المطالب قبل عقد هذا المؤتمر منها رفع حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، وإلغاء قوانين سبتمبر، واتفاقيتي الدفاع المشترك مع مصر وليبيا. اختتم الدكتور جون قرنق الرسالة بتأكيده أن الحركة على استعداد لحضور هذا المؤتمر الوطني حال الاستجابة لهذه الشروط الثلاثة.13رغم الرد الواضح من الحركة الشعبية الرافض حتى لمناقشة أو التطرّق لعرض حكومة المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله بالعودة لاتفاقية أديس أبابا ونظام الحكم الذاتي الإقليمي، فقد واصلت الحكومة من جانبها العمل لإعادة الحياة لاتفاقية أديس أبابا بصورةٍ آحادية بحتة.فقد تم في تلك الأثناء صدور دستور السودان الانتقالي الذي كان قد تم اعتماده بواسطة المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء بعد أن وقّع كل أعضاء المجلسين عليه في 10 أكتوبر عام 1985، ودخل الدستور حيز النفاذ في ذلك اليوم.أوضحت المادة 4 من الدستور أن “الشريعة الإسلامية والعرف مصدران أساسيان للتشريع، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم.”وهكذا تأكّد أن قوانين سبتمبر التي سنّها نظام النميري قد طالت وترسخّت جذورها من خلال الشرعية الدستورية الجديدة، وأن الحديث عن إلغائها قد ولّى زمانه، رغم مطالبة انتفاضة أبريل بذلك الإلغاء.14كما نصّت المادة 16 من الدستور أنه “يقوم نظام الحكم الذاتي فـي الإقليم الجنوبي على أساس السودان الموحّد وفقاً لقانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية لسنة 1972م أو أيّة تعديلات يجيزها ثلثا أعضاء المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء في اجتماعٍ مشترك، على أن يخضع أيُّ تعديلٍ رغم تنفيذه للاستفتاء المشار إليه في قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي متى ما كان ذلك ممكنا.”15وهكذا قرّرت حكومة المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله إعادة الحياة لاتفاقية أديس أبابا لعام 1972، من جانبٍ واحد، وبدون التشاور، دعك من الاتفاق، مع الحركة الشعبية. تم ذلك رغم تجاهل الحركة الشعبية لعرض العودة لاتفاقية أديس أبابا في رسالة الدكتور الجزولي دفع الله للدكتور جون قرنق.16كما ذكرنا أعلاه، فإن حكومة المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله هي التي توّلت هذه المرة عرض مبدأ الفيدرالية الذي كانت الحركات والأحزاب الجنوبية تطالب به منذ الخمسينات، وكانت كل الأحزاب الشمالية ترفضه في غطرسةٍ وعناد.لقد انقلب الوضع تماماً، وأصبح الإسلاميون هم من يقوم بعرض (أو حتى محاولة فرض) النظام الفيدرالي على قادة جنوب السودان، بينما يقوم القادة الجنوبيون، الذين كانوا، حتى قبل سنواتٍ قليلة، يستجدون الخرطوم لمنحهم النظام الفيدرالي، بتجاهل ورفض العرض.17انتهت محاولات حكومة المشير سوار الذهب والدكتور الجزولي دفع الله بالعودة لاتفاقية أديس أبابا بالفشل التام. كما آل إعلان كوكا دام واتفاقية الميرغني قرنق إلى نفس المصير. وتصاعد القتال وتوالت الانتكاسات للجيش السوداني في حرب الجنوب. أدّى كل ذلك مع المشاكل الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي إلى نجاح انقلاب الإسلاميين واستلامهم السلطة في 30 يونيو عام 1989.18من الجانب الأخر اندلعت الخلافات داخل الحركة الشعبية، وأدّت في أغسطس عام 1991 إلى بروز فصيل الناصر ببرنامجه الذي انبنى على حق تقرير المصير أو الانفصال لجنوب السودان، ورفض مبدأ السودان الجديد.أدى ذلك الانشقاق إلى عقد الحركة الشعبية الأم لمؤتمرها في توريت في سبتمبر 1991 والذي قررت فيه “أنه في أيّة مبادرةٍ أو محادثاتٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي، أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة، أو تقرير المصير.”وهكذا اختفى تماما مطلب الفيدرالية من الوثائق الرسمية للحركة الشعبية الأم وكذلك فصيل الناصر الذي انشقّ عنها. أصبح واضحا أن ذلك المطلب قد تجاوزه الزمن تماماً، بعد الرافض القاطع له من الشمال، وبعد الفشل المروّع لتجربة الحكم الذاتي الإقليمي على يد الرئيس نميري الذي كان قد وافق عليه.19غير أن الجبهة القومية الإسلامية قررت بعد استلامها السلطة في يونيو عام 1989 مواصلة محاولاتها عرض النظام الفيدرالي في مفاوضاتها مع الحركات والأحزاب الجنوبية. فقد استغلت حكومة الإنقاذ الانشقاق داخل الحركة الشعبية عام 1991 وقررت العمل على توسيع ذللك الانشقاق ببدء التفاوض مع فصيل الناصر لوحده، وعرض مقترح الفيدرالية لهذا الفصيل.20وكما فصّلنا في المقالات السابقة عن إعلان فرانكفورت وحق تقرير المصير فقد قامت حكومة الجبهة الإسلامية باللقاء والتفاوض مع فصيل الناصر في فرانكفورت في دولة المانيا الاتحادية.وصل الوفدان إلى فرانكفورت يوم 22 يناير عام 1992، وبدأت مفاوضاتهما في 23 يناير واستمرت حتى يوم 25 يناير. قاد وفد حكومة الإنقاذ الدكتور علي الحاج، وشملت عضوية الوفد العميد كمال علي مختار، والسيد موسى علي سليمان، والسكرتير الأول بالسفارة السودانية بألمانيا السيد محمد حسين زروق.وقاد وفد مجموعة الناصر الدكتور لام أكول، وشملت عضوية وفده السادة جون لوك، وتيلار دينق، وتعبان دينق، والدكتور كاستيلو قرنق.21قدّم كلٌ من الوفدين تصوّره لحل النزاع السوداني. تضمّنت مقترحات الوفد الحكومي إقامة نظامٍ فيدرالي باعتباره الخيار المناسب لتحديد العلاقة بين الشمال والجنوب، وبين الولايات كافة، وباعتباره النظام الأمثل الذي يسمح للشعب السوداني بالتعبير عن اختلافاته وتعدّديته الثقافية والدينية والعرقية.أوضحت المقترحات الحكومية ضرورة الاتفاق على صيغة لاقتسام السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، وعلى دمج قوات الحركة الشعبية/الجيش الشعبي في القوات المسلحة وقوات الشرطة، وإنشاء مجلس قومي يترأسه رئيس الجمهورية لمباشرة إعادة تأهيل الولايات الجنوبية، وتوطين المواطنين المتأثرين بالحرب.22وهكذا طرح وفد حكومة الإنقاذ تصوّره لحل مشكلة الجنوب بقيام نظامٍ فيدرالي يسمح للشعب السوداني بالتعبير عن اختلافاته وتبايناته الثقافية والدينية والعرقية.كان هذا هو التصور الذي تبناه وطرحه الحزب الليبرالي لجنوب السودان رسمياً عام 1954، وطالب به باسم الجنوب الأب سترنينو لوهوري أمام لجنة الدستور، ثم أمام البرلمان السوداني عام 1958، ورفضته جميع الأحزاب الشمالية.وقد عدّد الدكتور علي الحاج عند طرحه مقترح الفيدرالية في فرانكفورت في يناير عام 1992 نفس الأسباب التي تضمّنها طرح السيد ويليام دينق عند مطالبته بالنظام الفيدرالي لجنوب السودان في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 – استيعاب الخلافات والتياينات الدينية والعرقية واللغوية والثقافية والتاريخية بين شعبي شمال وجنوب السودان.لكن الأحزاب الشمالية جميعها، خاصةً الجبهة القومية الإسلامية بمسمياتها المختلفة، رفضت، كما ناقشنا من قبل، بغطرسةٍ وعناد، وعلى لسان قادتها، ذلك الطرح مراراً وتكراراً، خصوصاً خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965.ثم قامت حكومة نميري التي فاوضت ووقعت على اتفاقية أديس أبابا عام 1972 التي انبنتْ على الحكم الذاتي الإقليمي بنقض الاتفاقية وتمزيقها في استخفافٍ وغطرسةٍ كبيرتين. حدث ذلك بعد مصالحة نميري مع الأحزاب الإسلامية الثلاثة.إذن ها هي الحركة الإسلامية تعود، وبجرأةٍ ووضوحٍ، لمقترح الفيدرالية في عام 1992، بعد أن رفضته مراراً وتكراراً وعملت على وأده من قبل. عادت إليه بعد أن تجاوزته الأحداث وعفى عليه الزمن.23غير أن فصيل الناصر رفض رفضاً تاماً عرض حكومة الإنقاذ للنظام الفيدرالي. شدّد الفصيل في تصوره على أن جزئي السودان (الشمال والجنوب) لديهما اختلافاتٌ عرقيّةٌ وثقافيةٌ ودينيةٌ وتاريخيةٌ وجغرافيةٌ كبيرة، وقد فشلا تماماً خلال ال 36 عاماً الماضية في تكوين دولةٍ قابلةٍ للوجود، بحسب ما تشهد به الحرب المستمرة بين الطرفين.خلص التصوّر أنه لحلِّ مشكلةِ الحرب الأهلية في السودان، فإن شعب الجنوب يجب أن يمارس حقّه غير المشروط في أن يختار وضعه السياسي بحريةٍ، ومتابعة تطوره الاقتصادي والاجتماعي، وأنه يجب على حكومة السودان أن تعترف وتلتزم بمنح شعب الجنوب الحق في ممارسة استفتاءٍ، خلال فترةٍ محدّدةٍ، ليقرّر الجنوبيون ما إذا كانوا سيبقون ضمن السودان الموحّد، أم تكون لهم دولتهم المستقلة.واختتم التصّور القول أنه فور تصديق الحكومة على هذا الخيار فسيدخل الطرفان في محادثاتٍ مفصّلة حول نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، وخاصةً تقاسم السلطة والموارد وإجراءات الأمن والإغاثة وإعادة التأهيل وإعادة التوطين وإعادة التعمير.24وكما ناقشنا في سلسلة المقالات السابقة، فقد وافق وفد حكومة الإنقاذ على تصور فصيل الناصر كما هو، وبسرعةٍ وسهولةٍ مذهلتين (أذهلت حتى فصيل الناصر الجالس قبالتهم في مدينة فرانكفورت!). وتم التوقيع بين الطرفين في يوم 25 يناير 1992 على إعلان فرانكفورت، الذي منحت حكومة الإنقاذ بموجبه شعب جنوب السودان حق تقرير المصير لأول مرة في تاريخ السودان.25عليه فيمكن تلخيص تاريخ وتطورات مطلب جنوب السودان للنظام الفيدرالي من خلال المراحل الزمنية الأربعة الآتية:المرحلة الأولى من عام 1947 وحتى عام 1971: وهي حقبة مطلب جنوب السودان المتواصل للنظام الفيدرالي، والرفض التام للمطلب من كل الأحزاب والمنظمات والحكومات الشمالية.المرحلة الثانية: من عام 1972 وحتى عام 1977: وهي حقبة قبول وتأطير النظام الفيدرالي بواسطة حكومة الرئيس نميري تحت مسمى الحكم الذاتي الإقليمي، والبدء في تنفيذه بمشاركة الطرفين، الشمالي والجنوبي، الكاملة.المرحلة الثالثة: من عام 1978 وحتى عام 1983: وهي حقبة تمزيق اتفاق الحكم الذاتي الإقليمي بواسطة الرئيس نميري، وبروز الحركة الشعبية ومبدأ السودان الجديد، ونهاية مطلب النظام الفيدرالي من جانب جنوب السودان.المرحلة الرابعة: من عام 1985 وحتى عام 1992: وهي حقبة محاولات الإسلاميين إحياء مقترح الفيدرالية، والرفض التام للمقترح من الحركات والأحزاب الجنوبية، وقفل باب الجدل في هذه المسألة نهائياً.26فتح إعلان فرانكفورت الذي وقّعه في 25 يناير 1992 الدكتور علي الحاج ممثّلاً لحكومة الإنقاذ والحركة الإسلامية السودانية، مع الدكتور لام أكول ممثّلاً لفصيل الناصر المنشقّ من الحركة الشعبية القمقم، وخرج ماردُ تقرير المصير لشعب جنوب السودان للعالم ذلك اليوم.تدرّج ذلك المارد عبر عدّة مساراتٍ وعرةٍ، ومؤتمراتٍ ومفاوضاتٍ صاخبةٍ ومطوّلة، وأدّى بعد حوالي العشرين عام إلى انشطار السودان، وذهاب ثلث أراضيه وربع سكانه في شأنهم، وتحت مظلّة دولتهم الوليدة، وإلى الأبد، كما سنناقش في السلسلة القادمة من المقالات عن حقِّ تقريرِ المصير لشعبِ جنوبِ السودان.————————*محاضر سابق بكلية القانون بجامعة الخرطوم، والرئيس الحالي لمجلس جامعة الخرطوم.The post مطلبُ جنوبِ السودان للنظامِ الفيدرالي ورفضُ الشمالِ المتواصل: قراءةٌ في التاريخِ والتطوّراتِ والنتائج (12 – 12) appeared first on صحيفة مداميك.