طوفان الأقصى بين البطولة والحماقة: حين يختلط الدم بالرمز والسياسة

Wait 5 sec.

بقلم: عاطف عبد اللهإن البطولة، في معناها الإنساني، لا تُقاس بالموت، بل بالنتائج التي يورثها الفعل البطولي في الوعي والتاريخ. أما الحماقة، فهي حين يُقدَّم الموت بلا خطةٍ ولا مآلٍ سوى الألم المتجدّد.غير أن الحقيقة، كما العادة، تقف في المنتصف: ففي كل فعلٍ مقاومٍ قدرٌ من البطولة، وفي كل مغامرةٍ عسكريةٍ غير محسوبةٍ قدرٌ من الحماقة.في ما مضى، كان الفدائي الفلسطيني حين يتقدّم إلى خطوط العدو المحتلّ ويقاتل حتى الموت، يتحول في نظر العالم إلى بطلٍ ورمزٍ للشجاعة والتضحية. أما اليوم، وبعد أن اكتسى الفعل المسلح بلبوسٍ أيديولوجي ديني، تراجع “الفدائي” ليحلّ مكانه “الاستشهادي”، وتحوّلت البطولة إلى “إرهاب” في نظر العالم بإجماعٍ غير مسبوق. والموت هو هو، والقضية هي القضية – فما الذي تغيّر في المفاهيم؟الفدائي والاستشهادي: تحوّل المفهوم وتبدّل النظرةفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان “الفدائي” رمزاً للتحرر الوطني. يقاتل بسلاحه المتواضع، يتسلل إلى المواقع العسكرية، ويواجه جيشاً مدججاً دفاعًا عن أرضه. كانت حركات المقاومة آنذاك ذات طابعٍ قومي ويساري، تنطلق من فكرة “التحرير الوطني” لا من منطلقٍ ديني أو طائفي. الفداء كان يعني التضحية بالنفس من أجل الوطن، لا من أجل وعدٍ غيبي أو ثوابٍ سماوي. لكن مع صعود التيار الإسلامي في السياسة والمقاومة، نشأ مفهوم “الاستشهادي” الذي يرى الموت في المعركة وسيلةً لنيل الشهادة في سبيل الله. لم يعد الفعل مجرد تضحية سياسية أو عسكرية، بل أصبح عبادة.هذا التحوّل منح الفعل زخماً إيمانياً بين أنصاره، لكنه أفقده في المقابل التعاطف الدولي، إذ صارت العمليات التي تتضمن تفجير النفس تُصنَّف إرهاباً في أغلب المواثيق الدولية.وهكذا تغيّرت الصورة: من “فدائي وطني” يُغنّى له في الأغاني وتنصب له الشواهد، إلى “استشهادي إسلامي” يُلاحَق دولياً بتهمة الإرهاب. الفعل واحد في جوهره – التضحية – لكن السياق الأيديولوجي غيّر التسمية والتقييم جذرياً.طوفان الأقصى: بين الجرأة والحسابات الخاطئةفي السابع من أكتوبر 2023، نفّذت كتائب القسام والجهاد الإسلامي عملية مفاجئة داخل إسرائيل أُطلق عليها “طوفان الأقصى”. كانت العملية اختراقاً عسكرياً وأمنياً غير مسبوق، إذ تم اجتياز الحدود المحصّنة وضُربت مواقع عسكرية، وأُسِر عشرات الجنود والمدنيين. في اللحظة الأولى، بدت العملية جريئة وصادمة، بل مبهرة في تخطيطها وتوقيتها. لكن الرد الإسرائيلي جاء أعنف مما تصوّر أحد: قصفٌ شامل، تدميرٌ للمدن، حصارٌ خانق، عشرات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين. لقد غيّرت الحرب موازين القوى في المنطقة، وامتدت تداعياتها إلى لبنان واليمن وإيران.من المنتصر ومن الخاسر؟بعد قرابة عامين من حربٍ دموية، أفضت المفاوضات إلى اتفاقٍ لوقف الحرب في غزة، وبدأ تنفيذ مرحلته الأولى فعلياً.ورغم أنه جاء تحت ضغطٍ إنساني وسياسي كثيف، فإنه يكشف بوضوح ميزان الخسائر والمكاسب بين الطرفين.حماس والقضية الفلسطينية:يرى أنصار المقاومة أن “الطوفان” كان محاولةً لاستعادة زمام المبادرة بعد سنواتٍ من الحصار والجمود، وأنه أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة وأكسبها تعاطف وتضامن غير مسبوق بعد أن كادت تُنسى.لكن يبقى السؤال: هل كان الزخم والتعاطف الدولي نتيجة العملية ذاتها، أم بسبب العنف المفرط الذي مارسته آلة القتل الإسرائيلية؟ربحت “حماس” معنوياً بقدرتها على اختراق الأمن الإسرائيلي وضربه في العمق، وبصمودها رغم الحصار والتدمير.لكنها خسرت قياداتها الميدانية والسياسية، تآكلت بنيتها العسكرية، تراجعت سلطتها في غزة، وبات وجودها السياسي مهدداً مع الحديث عن “آلية حكم جديدة” لا تشملها. أما مكاسبها السياسية، مثل إطلاق الأسرى، فتبقى محدودة وغير مضمونة التنفيذ، إذ نصّ الاتفاق على إطلاق 250 من أصحاب الأحكام المؤبدة و1700 من معتقلي الحرب، بينما أبدت إسرائيل تحفظاتٍ عليها، وواشنطن – كما جرت العادة – لن تمارس ضغطاً حقيقياً لتنفيذها.إسرائيل:استعادت بعض الردع العسكري والسيطرة الأمنية، وأعادت قواتها إلى داخل القطاع ضمن ما يُعرف بـ”الخط الأصفر”.لكن هذا الانتصار مكلف: فقدت إسرائيل صورتها كقوةٍ لا تُقهر، وتعرضت لهزّاتٍ سياسية داخلية عميقة، وشروخٍ تهدد مستقبل نتنياهو نفسه. لقد ربحت إسرائيل الأرض، لكنها خسرت وجهها أمام العالم.الجبهة اللبنانية وحزب الله وإيران:تراجعت الجبهة الشمالية بعد الضربات الإسرائيلية المتواصلة، وفقد حزب الله معظم مواقعه وقياداته الميدانية. اضطر الحزب، وفق تفاهماتٍ إقليمية، لتسليم ما تبقّى من سلاحٍ ثقيلٍ ومواقعٍ استراتيجية للجيش اللبناني، لتُطوى مؤقتاً صفحة “المقاومة المسلحة” من لبنان.وبذلك فقدت المقاومة الفلسطينية أحد أهم داعميها الإقليميين، وتراجعت قدرة إيران على التأثير في موازين الصراع. بعد ضرب مفاعلها النووية، وفقدانها لأهم أزرعها العسكرية في المنطقة (حماس وحزب الله)الشعب الفلسطيني في غزة:هو الخاسر الأكبر بلا جدال: عشرات الآلاف من القتلى، ملايين النازحين، مدنٌ سوِّيت بالأرض، واقتصادٌ منهار.ورغم وعود الإعمار وتمويله العربي والإسلامي، فإن عودة الحياة إلى القطاع ستستغرق سنوات طويلة – وربما أجيالًا.المجتمع الدولي:استعاد بعضاً من دوره الإنساني عبر فرض الهدنة والمساعدات، لكنه فشل في معالجة جذور الصراع أو ضمان سلامٍ دائم.لتبقى الهدنة هشّة ومعلّقة على خيوط السياسة الإقليمية.الخلاصة: بين الرماد والنشيدلم ينتصر أحد انتصاراً كاملاً، ولم يُهزم أحد هزيمةً تامة. ربحت حماس رمزية المقاومة، وخسرت سلطة الأرض. ربحت إسرائيل تفوق السلاح، وخسرت ثقة العالم. انهار حزب الله، وخسر لبنان آخر أوراق الردع.أما غزة، فقد دفعت ثمن البطولة والحماقة معاً – ثمناً لا يُقاس بعدد الضحايا، بل بضياع الأمل في مستقبلٍ قريب. لقد جمع “طوفان الأقصى” بين النقيضين: بطولة من قاوم، وحماقة من ظنّ أن العالم سيتعاطف مع الدم وحده. بطولة من دافع عن مقدساته، وحماقة من جعل المدنيين وقوداً لمعركةٍ غير متكافئة. وهكذا عاد الصراع إلى نقطة الصفر: لا سلام دائم، ولا دولة فلسطينية، ولا أمن إسرائيلي. كل ما تبقّى هو رماد الحرب ونشيد الفداء، يتنازعان على ذاكرةٍ مثقلةٍ بالدموع والأسئلة.The post طوفان الأقصى بين البطولة والحماقة: حين يختلط الدم بالرمز والسياسة appeared first on صحيفة مداميك.