إبراهيم العريسعند الوصول إلى مشهد النهاية في فيلم “الإمبراطور الأخير” لبرناردو برتولوتشي، إذ يصطحب الإمبراطور السابق العجوز بويي، طفلاً ليريه أنه كان حقاً آخر عاهل حكم الصين، صاعداً معه إلى غرفة العرش السابقة، وقد أضحت الآن جزءاً من متحف، يكون تأكيد بويي، الثمانيني، للطفل أنه كان هو حقاً الإمبراطور، من طريق علبة معدنية صغيرة كان منذ طفولته خبأها في مكان سري في العرش، وحين يفتح الطفل العلبة تقفز منها جرادة كانت موجودة هناك منذ زمن بعيد جداً. ترى، أفليس في وسعنا أن نرى الجرادة كناية عن الذاكرة. والعلبة كناية عن السينما؟ بالتأكيد. لكن الأهم من هذا أن المشهد الحميم والخاص الذي نراه، وفيه عجوز منهك يعيش أيامه الأخيرة وطفل يكاد لا يعي مما حوله شيئاً، يبدو لنا هنا على حميمية تلوح في ظاهرها على تناقض تام مع ضخامة فيلم يروي، أصلاً، 80 عاماً تقريباً من حياة الصين، التي كانت حينها آخر الإمبراطوريات القديمة في تاريخ البشرية.سينما الذات الحميمةوالحقيقة أن هذه العودة هنا لهذا الجانب من جوانب سينما المبدع الإيطالي تنطلق من أن كونه مخرجاً فضائحياً قد غلب على مكانته ومكانة سينماه الفكرية، مما يستوجب عودة له، وهنا على ضوء نقاشات استشرت منذ فترة بصدده بعد سنوات من رحيله عام 2018. فمن ناحية مبدئية فيلم “الإمبراطور الأخير” فيلم تاريخي، لكن التاريخ هنا يروى من طريق فرد عاشه، وربما عاشه في وعيه الباطني أكثر مما عاشه في وعيه الظاهري. ولعل هذا ما يعطي هذا الفيلم تلك الحميمية، التي ميزت دائماً سينما برتولوتشي، حتى وإن اختفت دائماً خلف قناع الأحداث الكبيرة. وهذا الاختفاء كان هو ما جعل بعض نقاد السينما يقسمون أفلام برتولوتشي إلى قسمين رئيسين: قسم ضخم يتعامل مع التاريخ وأحداثه الكبرى، وقسم آخر حميمي خاص، ليقولوا إن أفلام هذا القسم الأخير تبدو أشبه باستراحة محارب يلجأ إليها هذا المخرج الإيطالي بين فيلم ضخم وآخر. لكن هذا ليس دقيقاً، إذ حتى في أفلامه الضخمة، لن يبدو لنا برتولوتشي سوى مخرج حميم وخاص جداً يطرح أسئلته الخاصة على السينما والعالم، وإلى درجة تبدو معها أفلامه كلها أشبه بسيرة ذاتية متواصلة. ومن هنا لم يكن مخطئاً ذلك الناقد الإيطالي الذي قال عن سينما برتولوتشي إنها “إلى جانب سينما فيليني، تبدو الأكثر ارتباطاً بالسيرة الذاتية لصاحبها”.استعارات مقصودةوقد يحدث في بعض الأحيان أن يستعير برتولوتشي لسيرته الذاتية، أشخاصاً يبدو، ظاهرياً، أن ثمة انفصالاً تاماً بينه وبينهم، كما هي الحال مثلاً في “آخر تانغو في باريس”، أو في شكل أكثر راهنية، في واحد من أفلامه الأخيرة “الحالمون”. فهذا الفيلم الذي ينطلق، كما تنطلق معظم أفلام برتولوتشي الأساسية من سؤال ذاتي جداً هو “أين كنت يا ترى، حين اندلع ربيع باريس 1968؟”. أين كنت أيام اندلعت في فرنسا، كما في غيرها، تلك الثورة التي قيل إنها فشلت، فإذا بها تتبدى اليوم واحدة من أكثر أحداث النصف الثاني من القرن الـ20، تأثيراً في الذهنيات؟ ما هي هذه الثورة؟ إنها “ربيع باريس” بالتأكيد، تلك الانتفاضة الطالبية والشبابية التي، مهما اختلفنا في تفسير خلفياتها وأسبابها، يمكننا أن نتفق على أنها أحدثت من التغيير ما لم تحدثه أية ثورة أخرى في زمنها. حررت الناس من الأيديولوجيا، على رغم انطلاقها من الأيديولوجيا، وجعلت الأحزاب جديرة بالمتاحف والزعامات جزءاً من قمامة التاريخ، لكن تلك الثورة التي أنتجت بعض أبرز سياسيي العالم في الربع الأخير من القرن ذاته، هي الأقل وضوحاً بين أحداث تاريخنا المعاصر كافة، لكن سمتها الثقافية والفكرية لا يمكن اليوم أن تخفى على أحد، ما دام أن كثراً من أبناء جيلنا يعيشون ما ترتب عليها وما أفرزته، من علاقة مع الحرية، مع الماضي، بين الأجيال، مع المال مع السياسة. ونعرف طبعاً أن برتولوتشي كان من أبناء تلك الثورة الربيعية، وهو يذكر الآن أنه حين اندلعت كان يصور فيلمه “الشريك”، حاصداً نجاح فيلمه السابق عليه “قبل الثورة”. يومها تحمس برتولوتشي لـ”مايو (أيار) 68″، مثله مثل عشرات الملايين من الشبان في العالم كله من الذين كان شعارهم “اهرب يا صديقي… الماضي يطاردك”. وها هو في فيلم “الحالمون” الذي كان منذ بدء عروضه واحداً من الأفلام الأكثر إثارة للجدل، لماذا؟ لأن برتولوتشي لم يحاول فيه أن يقدم تاريخاً موضوعياً لـ”ربيع باريس”. كل ما في الأمر أنه صور الأحداث على خلفية حكاية حب، أبطالها ثلاثة: شقيق وشقيقته، وطالب أميركي كان يدرس في باريس في ذلك الحين. خلال الأحداث يوجد الثلاثة في شقة كما في “آخر تانغو في باريس”، ويراقبون ما يحدث في الخارج غير مدركين أن ما يحدث ليس أقل من العالم كله وهو قيد التبدل. العالم وقد بدأت المعرفة تهيمن عليه وصراع الأجيال يستشري فيه، العالم وقد راح يغمز للأجيال الجديدة قائلاً لها: “المنع ممنوع منذ الآن”.لم يكن هناكإذاً، برتولوتشي الذي جعل لتاريخ إيطاليا فيلماً، ولتاريخ الصين في القرن الـ20 فيلماً، وللفاشية أكثر من فيلم أهمها “الممتثل” عن رواية لمورافيا، جعل في تلك المرة لتلك الثورة الرائعة فيلمها. فهل تراه عبر عنها حقاً وبقوة ما صنعته بالعالم، أم تراه أمعن في التهكم منها؟ لا أحد تمكن من حسم الأمر بإجابة قاطعة. فقط يكان مكن لكل منا أن يعرف أن الفيلم طرح عليه وبكل قوة السؤال الذي لم يغب، على أية حال، أبداً: أين كنتم خلال ربيع 1968؟ أين كنتم حين كانت “اليوتوبيا” تسير مسرعة إلى أمام، هرباً من ماض يطاردها؟ صحيح أن جواب برتولوتشي كان واضحاً: “لم أكن هناك”، فهو كان في ذلك الحين يصور فيلمه “الشريك” حاصداً سمعة طيبة كان حققها له فيلمه الأول “قبل الثورة”. ولكن اليوم، إذ ننظر إلى هذين الفيلمين المبكرين في مسيرة برتولوتشي، سنجد أن مخرجنا لم يكن أبداً خارج ذلك “الربيع” بل داخله، حتى وإن لم ينزل الشارع مع الطلاب المتظاهرين، ولم يقم متاريس أو ينادي بشعارات: كان عمله السينمائي هو ثورته، هو الذي كان في ذلك الحين في الـ27، “أي أكبر قليلاً من الطلاب صانعي الربيع الثوري آنذاك”، كما يقول. ومهما يكن من أمر، فإن برناردو برتولوتشي هو ابن من أبناء حركة الشبيبة والطلاب في ذلك الحين. لكنه ابن لا يعيش أية أوهام، ويعرف أن التغيير الحقيقي لا يكون عفوياً ولا مفاجئاً، ولكن عبر التراكم، وعبر مراجعة الذات والعالم. صحيح أن من غير المنطقي القول إن أفلامه كلها تحمل تلك المراجعة، ولكنها تحمل التراكم، انطلاقاً من لغة الذات في الأقل. وعلى هذا يمكننا أن نفهم كيف أن سينما برتولوتشي هي في نهاية الأمر، سينما راهنة ومعاصرة جداً، وحتى عبر خوضها في أجواء تبدو خارج الزمن وخارج المكان الذي ينتمي إليه، كما هي حال “ثلاثيته الاستشراقية” التي حققها في أفلام ثلاثة عرضت خلال 10 سنوات، وأتت متتالية من دون أن يفصل بينها أي عمل حميم: “الإمبراطور الأخير” (1987)، و”السماء الواقية” (1990)، و”بودا الصغير” (1993).تلميذ نجيب لبازولينيعند بداية برتولوتشي السينمائية لم يكن في الإمكان الافتراض أنه سيصل يوماً إلى تحقيق مثل هذه الأفلام. فهو، كتلميذ لبيار باولو بازوليني، كان معداً تماماً لتحقيق أفلام أقل طموحاً وضخامة. إذ إنه، بتكوينه كشاعر وناقد وبنزعته التمردية الدائمة، وخصوصاً بلغته السينمائية المستقاة مباشرة من الموجة الجديدة الفرنسية، وبأفكاره المستقاة من نوع مبهم من الماركسية، كان مؤهلاً لأن يكون نبياً في محفل السينما المتقشفة ذات القوة الفاعلة عبر بساطتها. غير أنه سرعان ما خرج عن ذلك الإطار لنزوعه إلى التناقض. وهو نفسه كان قال في درس سينمائي ألقاه ذات مرة: “إنني أحب دائماً أن أنفخ في اتجاه رياح التناقض، ذلك أنني أعتبر التناقض أساس كل شيء، ومحرك كل فيلم وإبداع”. طبعاً هذا الكلام يبدو هنا، في ظاهره، على شيء من التبسيط، لكنه في الحقيقة يتخذ دلالته حين نجد أن سينما برتولوتشي كلها قامت، في أعماقها، على مثل هذا التناقض، وهو ما أهله ليكون واحداً من أبناء “مايو 1968” بامتياز.https://www.independentarabia.com/node/634498/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AA%D8%B4%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%87%D9%8A%D9%85%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%A7-%D8%A8%D9%85%D8%A7%D9%8A%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8AThe post رحلة السينمائي برتولوتشي من الثورة إلى هيمنة الموت مرورا بمايو الفرنسي appeared first on صحيفة مداميك.