د. الشفيع خضر سعيداذا كان علم التاريخ يمثل الجانب النظري والفكري لدراسة الإنسان والمجتمع عبر الزمن، فإن كتابته هي الجانب التطبيقي والعملي. والإثنان معا، يشكلان رحلة بحث دؤوبة لإعادة بناء الأحداث بمنهجية علمية، توثق الذاكرة الجماعية للبشرية وتستخلص العبر والدوس، فهما عميقا للحاضر، واستشرافا المستقبل. وكتابة التاريخ السياسي، ليست مجرد سردٍ للأحداث وتسجيلٍ للوقائع، وإنما هي محاولةٌ جادةٌ لفك شفرة العلاقات المعقدة بين السلطة والمجتمع، وبين الإرادة الإنسانية والضرورات التاريخية. وتتميز كتابة التاريخ السياسي، الرصينة والراقية، بقدرتها على الجمع بين دقة المنهج العلمي وعمق التحليل الفلسفي. إنها كتابة ترفض التسطيح، وتتحرى الموضوعية دون أن تتنازل عن عمق الرؤية، وتسعى لفهم الماضي لا كمجرد أحداث انقضت، بل ككائن حي ينبض بالدروس والعبر التي تظل حاضرة في ضمير البشرية. كما إنها تمثل ضرباً من ضروب التفسير الفني الرفيع للحظات الإنسان الزمنية، ومن هنا أهمية البراعة في الصياغة الأدبية التي تحول السرد التاريخي إلى لوحة فنية تزخر بالأبعاد والدلالات. وهكذا تتحول كتابة التاريخ السياسي من مجرد حرفة تسجيل إلى فن تفسير، ومن عملٍ توثيقي إلى مشروعٍ فكري يضيء جوانب النفس الإنسانية في تفاعلها مع إشكالية الحكم والسلطة عبر العصور.سرت هذه الخاطرة في ذهني وأنا أتصفح كتاب الصديق الدكتور صلاح عوض «السودان، حرب وحروب» والذي أهداني إياه لعل إنهماكي في تصفحه يساعدني في لجم بعض من وخزات ألم الوعكة التي لاتزال تنهش في جسدي رغم فشلها الذريع في أن تمس روحي وفكري. والدكتور صلاح عوض ليس مؤرخا سياسيا ولا يدعي ذلك، ولكنه أيضا ليس مجرد مراقب أو شاهد على الأحداث السياسية التي تشبعت بها فضاءات الوطن، بل هو مشارك فيها بفكره وفعله وتضحياته، اعتقالا وتعذيبا وتشريدا ومحاربة في عيشه، ومقاوما شرسا من أجل التنوير والتغيير وانتصار القيم الإنسانية في وطن ظلت الإنسانية تذبح فيه طوال عقود. وكونه يتصدى لرصد هذه الأحداث، توثيقا وتحليلا، في زمن يحاصره الانحطاط والابتذال والتجهيل والكذب الجريء، لهو وعي ثوري عن حق، وقيمة مضافة ذات أهمية قصوى، نحتاجها جميعا، وخاصة جيل بناة المستقبل.وقيمة كتاب « السودان، حرب وحروب» أنه لا يقتصر على رصد الوقائع الجافة للأحداث السياسية، بل يغوص في أعماق السياقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تشكل الإطار الحيوي للحدث السياسي وتجلياته في ظاهرة الحلقة الشريرة الممسكة بتلابيب بلادنا منذ فجر استقلالها، متخذا من هذه الظاهرة مدخلا لدراسة ما وراءها الكامن في جذور الأزمة السودانية الممتدة عميقا في تربة الوطن وبعيدا في تاريخه. وفي هذا السياق، يؤكد الكتاب أن حرب السودان الراهنة، هي من طينة حروبه الأخرى المشتعلة منذ العام 1955.وهو يحلل ديناميات القوة وتشكل المؤسسات، ويرصد تحولات البنى الفكرية الكامنة خلف كل حدث سياسي في البلد، ويقف عند لحظات التحول الجوهرية التي تندفع لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمجتمع السوداني، متتبعا خطاها وتداعياتها المختلفة. وبوصلته في ذلك المنهج الجدلي التاريخي، وما سطّره قلمه في متن الكتاب، بأن «السودان لم ينعم باستراحة محارب منذ انطلاق الرصاصة الأولى في توريت قبل إعلان الاستقلال، حتى ظللنا نتحسس ذواتنا وكأن الحرب من طبائعنا، بينما الأنثروبولوجيا تذهب في بحثها عن خصائص الشخصية السودانية لتنفي ذلك، وتؤكد أن من أبرز صفاتنا السلام والوفاء. و«أن السودانيين ظلوا يمولون هذه الحروب على حساب معاشهم وتنميتهم وتطور وطنهم إرضاء لكبرياء العقلية التي تربصت حتى استولت على الحكم برسم كامل في 30 يونيو/حزيران1989م، داعية لمشروع حضاري، كما أسمته، لعموم السودان. لكن سرعان ما انكشف مستور هذا المشروع من استبداد بالغ الذروة، وفساد عابر للولايات، وبطش بلا حدود، وإقصاء للمختلف السياسي والفكري، واستعلاء عرقي». و«إن أي نصر هش يقود السودان تحت إمرة «زناد» آخر لن يعبر بنا إلى ضفة الديمقراطية والتنمية التي ننشدها ونشدو بها. فانتصارنا يجب أن يكون ذا أفق جديد للسودان عبر دولة تؤسّس على أعمدة صلبة، منها الحكم الفيدرالي الذي يكفل لأقاليم وشعوب السودان المختلفة أن تتعايش مع بعضها البعض على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون والتمتع بكافة حقوق الإنسان، أيا كانت حيثيات هذه الشعوب أو أعراقهم أو معتقداتهم الدينية، أو اللغة التي يتخاطبون بها، وأيا كانت جغرافيا إقامتهم وتاريخهم، وفي أي وضع حياتي كان. أفق جديد من خلال تمسكنا بأن الحرية تنمية، وأن الرهان التنموي ليس رهان تطوير مجتمع مثالي، أو رهان تطوير مجتمع استهلاك مفرط، بقدر ما هو رهان التقدم نحو مجتمع أكثر عدلا».وفي الحقيقة، فإن حروب السودان ليست أحداثاً منفصلة لا رابط بينها، بل هي فصول متصلة لصراع واحد، أو حرب واحدة مستمرة منذ 1955 وحتى اليوم، حول:٭ طبيعة الدولة ونظام الحكم وهويتها، وما صاحب ذلك من انتفاء المشاركة العادلة في السلطة، وشكوى مكوناتإثنية واجتماعية وسياسية عديدة من التهميش والإقصاء السياسي.٭ التوزيع غير العادل للثروة والموارد بين هذه المكونات، وتركيز التنمية في المركز مما خلق تنمية غير متوازنة وصراعا متأججا على الموارد، إضافة إلى استخدام هذه الموارد في تمويل الحرب.٭ الفشل في إدارة التنوع الثقافي والعرقي.٭ اعتماد الحلول الأمنية والقمعية بدلا عن الحلول السياسية.٭ السماح بالتدخلات الخارجية.هي ذات القضايا التي تحاصر السودان اليوم، وتتفاقم تجلياتها المدمرة في زمن الرداءة وابتذال السياسة وساقط القول. تحاصره بجدار مشيد من الحروب ونهب الموارد وإقصاء الآخر. ولتحطيم هذا الجدار واستشراف الأفق الجديد، نحتاج لكشف جوهر مكوناته والخيط الذي يربط بينها، وهذا يتطلب الدراسة المتأنية والعميقة لسير تراكم هذه المكونات/الأحداث. وكتاب «السودان، حرب وحروب» مساهمة جادة في هذا الاتجاه، وجرعة وعي مقاوم، تسعى لاختراق وهزيمة هذا الحصار.The post السودان: حرب وحروب appeared first on صحيفة مداميك.