تَسَلْسُلُ السِلامِ فِي السُودَانِ: كَيْفَ تَفْرِضُ الرُبِاعِيَّة وَقْفَ إطْلَاقِ النَّارِ؟

Wait 5 sec.

بروفيسور مكي مدني الشبليدخلت الحرب في السودان مرحلتها الأكثر تدميراً. المدن مهدمة، والملايين مشرّدون، والمنظمات الإنسانية تعمل على حافة الانهيار. فشلت المحاولات السابقة لإسكات صوت السلاح، وعلى رأسها مبادرة جدة، لا لغياب النوايا الحسنة، بل لافتقارها إلى آليات تنفيذ موثوقة، ورقابة مستمرة، وتمويل مستدام.ما يحتاجه السودان اليوم ليس إعلان نوايا جديداً، بل خطة هدنة ووقف إطلاق نار متسلسلة، قابلة للتنفيذ، ومرتكزة وطنياً. حيث يمكن لإطار “الرباعية” المقترح، بقيادة الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، وبمساندة الاتحاد الأفريقي والإيقاد، أن ينجح حيث فشلت المبادرات السابقة، إذا ما جمع بين النفوذ الدبلوماسي والملكية الوطنية والدقة التقنية. وهذا هو جوهر هذا المقال الذي يضع خريطة طريق لمدة تسعة أشهر لتحويل حالة الجمود العسكري الراهنة إلى بيئة أمنية مستقرة تمهّد لانتقال مدني–دستوري شرعي. ومع اقتراب موعد اجتماع الرباعية المقرر عقده في وقت لاحق من شهر أكتوبر2025 في واشنطن، تُطرح هذه الخطة كمساهمة لدعم مداولات الرباعية والمساعدة في ترجمة النوايا إلى نتائج قابلة للتنفيذ.1.  الأهداف: من الفوضى إلى الهدوء المُراقبالوصول الإنساني الفوري، ففي غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من إعلان الهدنة، يجب فتح الممرات الإنسانية والتحقق من فعاليتها. ينبغي أن تسير عمليات الإغاثة جنباً إلى جنب مع تثبيت خطوط القتال وحماية المدنيين.إنشاء آلية رقابة فعّالة، وهو العنصر الذي غاب عن اتفاق جدة، حيث يمكن لـ “الرباعية”، مدعومة بمراقبين من الاتحاد الأفريقي والإيقاد، أن توفر آليات التحقق والردع اللازمة لوقف الانتهاكات قبل أن تعيد إشعال النزاع.التعامل الحاسم مع المخرّبين، خصوصاً التيارات الإسلامية والمليشيات الوكيلة المستفيدة من الفوضى. فهذه المجموعات هي التي أفسدت كل محاولات السلام منذ عام 2019. ويجب استبعادها من ترتيبات وقف إطلاق النار، إلى جانب فرض عقوبات مالية عليها.وأخيراً، يجب ربط الهدنة بالانتقال المدني الدستوري، لأن هدنة بلا أفق سياسي غير قابلة للاستمرار، وعملية سياسية بلا هدنة غير ممكنة أصلاً.2.  الإطار الزمني الواقعيتتضمن الخطة ثلاث مراحل واضحة:الأشهر 1–3: هدنة إنسانية، فتح الممرات، بناء الثقة، وتجميد خطوط القتال.الأشهر 4–9: وقف إطلاق نار رسمي، إشراف رباعي على المراقبة، وبدء تخطيط إعادة انتشار ودمج القوات.بعد الشهر التاسع: الانتقال إلى الحكم المدني–الدستوري بعد التحقق من الالتزام بوقف إطلاق النار، لفترة لا تقل عن خمس سنوات.هذا النهج المرحلي يعترف بتباين الجغرافيا السودانية؛ فبينما تنعم مناطق مثل الشرق والشمال بالهدوء، تبقى دارفور وكردفان في حالة اضطراب.3.  إنجاح المفاوضات: هيكل تيسير الحوارلقد فشلت المبادرات السابقة لأنها اعتمدت على الفاعلين العسكريين والسياسيين فقط، الذين حالت انقساماتهم وأجنداتهم دون التنفيذ.المقترح هنا يعتمد هيكل تيسير مزدوج:الرباعية تتولى دور الوسيط والضامن والمنفّذ، وتجمع بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، وتضع البروتوكولات، وتوفر الدعم اللوجستي والرقابي.مراكز الفكر السودانية المستقلة (غير الحزبية والمبنية على أسس فنية) تشكّل مجموعة استشارية فنية (Technical Advisory Group)، تقدم الخرائط الميدانية للنزاع، وآليات التحقق من وقف النار، وتحليل المخاطر.هذا الهيكل يجمع بين النفوذ الدولي والمشروعية الوطنية، ويحصّن العملية من التسييس، ويرسخها في الخبرة المحلية.4.  مناطق الهدوء ومناطق الصراعيجب أن تعكس خطة التنفيذ الواقع الجغرافي للحرب السودانية:مناطق الهدوء النسبي (الشرق، الوسط، الشمال): تطبيق فوري لهدنات محلية، وفتح الممرات الإنسانية، وتنظيم عودة النازحين تحت إشراف محدود.مناطق الصراع الحاد (دارفور، كردفان): نشر بعثات مراقبة هجين (Hybrid) بدعم الرباعية ومشاركة أفريقية، واستخدام وسائل التحقق التقنية بالأقمار الصناعية. كما يجب إنشاء مناطق إنسانية آمنة حول نيالا، والفاشر، وكادوقلي.يسمح هذا النهج بالتقدّم حيثما أمكن، وبالاحتواء حيثما لزم.5.  تمويل الهدنة: الحلقة المفقودةلا يمكن لأي عملية سلام أن تستمر بالوعود فقط، حيث لابد من توفير التمويل اللازم لمقابلة التكاليف.تقدّر كلفة مرحلة الهدنة–وقف إطلاق النار بنحو 320  مليون دولار خلال تسعة أشهر، تغطي بعثات المراقبة، واللوجستيات الإنسانية، والتنسيق المدني، وصندوق الطوارئ.يُقترح إنشاء صندوق استقرار السودان بإشراف الرباعية (Quartet Trust Fund for Sudan Stabilisation) تديره الأمم المتحدة (UNDP)، لضمان الشفافية والمشاركة الجماعية للداعمين:الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: تمويل المراقبة الهجين (البشرية-التقنية) والإغاثة.السعودية والإمارات: دعم النقل واللوجستيات الجوية.المملكة المتحدة والنرويج: دعم الرقابة المحلية وآليات المجتمع المدني.هذا التمويل المشترك يعزز المساءلة ويؤكد جدية الالتزام.6.  المتابعة وقياس التقدّميجب أن تكون النجاحات قابلة للقياس، وأن تصدر “الرباعية” تقارير شهرية علنية تشمل:حجم المساعدات الإنسانية المسلّمة.انخفاض عدد الضحايا المدنيين.عدد انتهاكات وقف النار الموثقة شهرياً.تقدّم فك الاشتباك بين الجيش والدعم السريع.استبعاد المخرّبين الإسلاميين وغيرهم من المعرقلين.الشفافية ليست مجرد مبدأ أخلاقي، بل أداة ردع فعّالة ضد الارتداد للحرب.7.  إدارة المخرّبين والمليشياتينبغي للدول الرباعية أن تتعاون في:تجميد أصول الشبكات الإسلامية المموّلة للمليشيات.استبعاد الجماعات المسلحة ذات الارتباط الإسلامي من ترتيبات وقف إطلاق النار.معاقبة أيّ جهة تتدخل في الممرات الإنسانية أو تعرقل الرقابة على الهدنة.أما بالنسبة للمليشيات الأخرى والشبكات الإجرامية، فيمكن تحويلها إلى شركاء عبر حوافز نزع السلاح وربطها ببرامج التنمية المحلية.8.  المخاطر والتدابير الوقائيةتواجه الخطة المقترحة ثلاثة مستويات من المخاطر:وطنية: احتمال تقويض الهدنة من قبل شبكات الإسلاميين أو فصائل منشقة من الجيش أو الدعم السريع. ويجب احتواؤها عبر الرقابة الهجين المشتركة وبناء الثقة وعزل القادة غير الملتزمين.إقليمية: تدفق السلاح عبر ليبيا وتشاد وجنوب السودان، أو تباين المواقف بين مصر والإمارات. ويمكن التصدي لذلك عبر قوة مهام رباعية–أفريقية مشتركة لضبط الحدود وتنسيق الإغاثة.دولية: إخفاق التنسيق داخل الرباعية أو فجوات التمويل. والعلاج هو بعثة رقابة خفيفة وفعّالة، مع تقسيم واضح للمهام وصندوق تمويل موحّد.9.  الربط بين المسارين العسكري والمدنيمرحلة الهدنة–وقف إطلاق النار ليست غاية، بل هي ممرٌ إلى الانتقال المدني، ونجاحها سيمكّن من توحيد الجبهة المدنية تحت مظلة “قوى الحرية والتغيير” للتفاوض حول إطار شرعي للحكم المدني. وسيتم التوسع في هذا في مقال لاحق.التحقق من الالتزام بوقف النار سيسمح بتوسيع العمل الإنساني، واستقرار المجتمعات المحلية، ووضع الأسس التقنية للتسجيل الانتخابي في نهاية الفترة الانتقالية. والأهم من ذلك، أن تحييد المخرّبين الإسلاميين سيفتح المجال السياسي أمام عودة كتلة مدنية ديمقراطية ذات مصداقية في تحقيق السلام وإعادة الإعمار على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.10.  الطريق إلى الأماممأساة السودان ليست قدراً مستداماً، بل هي نتيجة لتشرذم غير مُدار وغياب للإنفاذ. تمتلك “الرباعية” فرصة نادرة لتغيير هذا المسار بدمج التمويل الموثوق، والرقابة القابلة للتنفيذ، والتيسير الوطني الرصين. وبذلك يمكن تحويل ساحة الحرب إلى جسر نحو السلام. وهذا المسار يتطلب الصبر والدقة والإرادة السياسية، حيث إن البديل الذي يروج له دعاة الحرب يمثل وصفة لاستمرار الانهيار الأثقل كلفة في الأرواح والثروات. وعليه فإن مرحلة الهدنة ووقف إطلاق النار المتكاملة ليست تمريناً تفاوضياً دبلوماسياً فحسب، بل هي الطريق الواقعي الوحيد نحو دولة سودانية مدنية وشرعية قادرة على النهوض من رماد الحرب.المدير التنفيذي لمركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post تَسَلْسُلُ السِلامِ فِي السُودَانِ: كَيْفَ تَفْرِضُ الرُبِاعِيَّة وَقْفَ إطْلَاقِ النَّارِ؟ appeared first on صحيفة مداميك.